تجارب البناء السيادي في الوطن العربي في فترة ما بعد الاستقلال: نماذج مصر والعراق والجزائر

بقلم: خليل القادري

لم يكن مصطلح السيادة كمطلبية سياسية بمعزل عن حركية الشعوب العربية الساعية لنيل الاستقلال التي ظلت أقطارها ترضخ تحت نير التبعية والاستعمار مدة قرون والتي عرفت الاستعمار بشكله الحديث منذ القرن التاسع عشر مع بروز الظاهرة الاستعمارية بمفهومها الحديث اختلفت مسمياته بين وصف “استعمار غير مباشر وغير مباشر” عبر أنظمة بالوكالة

في بداية تركيز الاستعمار بالوطن العربي، جابه مقاومة شعبية منظمة قادتها زعامات تقليدية لكنها فشلت في تحقيق أهدافها لعامل تفاوت موازين القوى بينها وبين القوى الاستعمارية، فتشكلت لاحقا حركات وطنية متمثلة في أحزاب أخذت على عاتقها خوض النضال السياسي الشعبي من أجل نيل الاستقلال، برزت فترة ما بين الحربين العالميتين ثم استفادت من زخم ثورات التحرر الوطني وما أتاحه ميثاق الأمم المتحدة من حق البلدان في تقرير مصيرها، فخاضت غمار الكفاح المسلح المنظم فتمكنت من نيل استقلالها والاعتراف الدولي بها في المنابر الأممية كأمم حرة مستقلة. ظل تقييم سيادتها محل اختلافات وتجاذبات بين الأنظمة الحاكمة بعد الاستقلال وبين معارضيها، كما ارتبطت سبل تحقيق البناء السيادي في الوطن العربي باختلاف صيغ تحقيقه على مستوى البناء بنظريات مختلفة.

برز مناخ دولي تميّز بصراع القطبين وانبثاق معسكر عدم الانحياز، كما تبلورت التيارات الداعية للوحدة العربية والتحرر المستميلة لقطاع واسع من النخب والطلبة والمدغدغة حتى لتطلعات النخب العسكرية التي بدورها دفعت لإزالة الأنظمة القائمة عبر انقلابات عسكرية أطاحت بها كما الحال لتجربة مصر والعراق او عبر تجسيدها للشرعية الثورية المنبثقة من حرب التحرير الشعبية، كما جسدتها الجزائر. قررت تلك الحركات المذكورة العمل على تأسيس بناء سيادي حدد ببرامج معدة سلفا، تجد أساسها في روافد وفلسفات مختلفة وإن تشابهت في سياستها وخطابها وجمعها حتى لتنسيق مشترك وأحيانا كانت تتنافس حول الريادة في المنطقة.

 على ضوء هذه العوامل والاحداث تشكلت في القرن العشرين اهم ثلاث تجارب بناء سيادي في الوطن العربي التجربة المصرية (1952 -1970) والتجربة الجزائرية (1962-1978) والتجربة العراقية على مرحلتين (1958 – 1963 ثمّ2003 1968 ). لكن تظل أهمها والأكثر تأثيرا وزخما التجربة المصرية مع حكم الرئيس جمال عبد الناصر والتي تلت وصول تنظيم الضباط الأحرار لسدة الحكم في مصر والإطاحة بالنظام الملكي الذي كان يسبح في فلك التبعية البريطانية والتي اثرت بشكل مباشر وغير مباشر على نشأة البناء السيادي في القطر العراقي والقطر الجزائري.

الجزء الأول: مظاهر البناء السيادي في الوطن العربي في التجارب الثلاث

 لم يكن الوطن العربي بمعزل عن تلك الحركات الاستقلالية في العالم الثالث، لئن تنوعت صيغ الكفاح الوطني وطرق نيل الاستقلال وتجارب البناء بين مختلف الأقطار العربية المتحصلة على استقلالها حديثا، فإن بعض تجارب الأقطار العربية السيادية تميزت بسلك طريق خاص في البناء السيادي مختلفة من حيث طبيعتها واليات عملها عن بقية الحركات، إذ طرحت عناوين كبرى ربطت التحرر الوطني بالتحرر الاقتصادي والثقافي وأسست لمفهوم الحياد الإيجابي إزاء الصراع بين القوى المؤثرة دوليا، لاسيما صراع القطبيتين في الحرب الباردة مقترحة صيغة بديلة لذلك الصراع تدفع للسلام العالمي ودعم حركات التحرر.

إن التجارب الاخذة بالنزعة القومية العربية كنزعة مناهضة للاستعمار كانت التجارب الأبرز التي حاولت ترسيخ بناء سيادي متمثل في تركيز القرار الوطني المستقل وتأميم الثروات والعمل على بناء الشخصية الوطنية والقومية بناء استقلاليا كاملا.

تلك التجارب استفادت من زخم التضامن الشعبي العربي ومن تجارب حركات التحرر الوطني في العالم مع ربطه بطموح وحدوي مثّل أكبر هدف للرد على الاستعمار، لاسيما مع بقاء أقطار عربية تحت نير الاستعمار وأضيفت إليها نكبة فلسطين.

أ- التجربة المصريّة

عرفت مصر اضطرابات سياسية أوائل سنة 1952 سببها النقمة الشعبية على تخاذل النظام الملكي المصري في الاستجابة لمطالب الأحزاب الوطنية بتفعيل جلاء الاستعمار البريطاني مع استمرار الوضع البائس للطبقات الشعبية المصرية نتيجة هيمنة الاقطاعيين المقربين من القصر، وأيضا السخط الشعبي العارم نتيجة هزيمة الجيش المصري في حرب 1948 بفلسطين.

لعبت هذه العوامل في التمهيد لقيام تنظيم سري عسكري صلب الجيش سمي باسم “الضباط الأحرار” اختلفت روافدهم الإيديولوجية، لكنهم قرروا بالإجماع إنهاء النظام الملكي وانهاء العمل بدستور وحل الأحزاب، و كان لهم ذلك إثر 23 يوليو 1952 والتي أصبحت تسمى “بثورة الضباط الاحرار”، لكن سرعان ما دبت بينهم خلافات حسمت لصالح جمال عبد الناصر الذي قام بصياغة برنامج الثورة من خلال “فلسفة الثورة “و سن دستور جديد في  [1].1956

 انطلق في تفعيل تلك المبادئ المتمثلة القضاء على الإقطاع والاستعمار، إقامة جيش وطني قوي، إبرام “اتفاقية الجلاء البريطاني عن مصر” 1954″ وإصدار قانون الاصلاح الزراعي وتأميم قناة السويس في 1956 وقد دفع ضريبة تلك الخطوة بتعرض بلده للعدوان الثلاثي من طرف بريطانيا وفرنسا والكيان الصهيوني الذي جابه مقاومة شعبية وعسكرية.

اكتسب بذلك عبد الناصر شعبية كبيرة أهلته للعب دور محوري في الامة العربية من خلال دعمه لحركات التحرر العربية في المغرب العربي، لا سيما دعمه للثورات المسلحة في تونس والمغرب وبالخصوص الثورة الجزائرية كما لعب دورا حاسما في تحرير جنوب اليمن في 1967 من الاحتلال البريطاني.

ميز تجربة عبد الناصر اتخاذ خطابه شكل قوميا عربيا وحدويا يربط التحرر القومي بالمضمون الاجتماعي واهله ذلك الدور الى لعب دور أكبر على مستوى الساحة الدولية من خلال دفعه بتأسيس حركة عدم الانحياز إثر مؤتمر باندونغ في 1955 والعمل على دعم حركات التحرر في إفريقيا والعالم الثالث كما ربط خطابه التحرير والتوحيد العربي بقضية فلسطين وإنهاء تبعية الشعوب العربية للأحلاف الاستعمارية. كما عمل عبد الناصر على تأسيس مشروع السد العالي وتركيز صناعات ثقيلة. أما السيادة الثقافية، فقد تميزت بطبع الحياة الثقافية والتعليمية بطابع عربي وإسلامي خاصة من خلال تطوير مؤسسة الأزهر والعناية بالثقافة العربية الإسلامية. [2] كما تمت رعاية المتاحف وإبراز الشخصية الوطنية المصرية عبر السينما.

 تلك الإنجازات السيادية سرعان ما انهارت بهزيمة الخامس من جوان 1967، التي جعلت حدة سقف خطابه الوحدوي التحرري يتراجع ويدفعه للتفرغ لرمرمة الوضع الداخلي المصري ولملمة جراح الهزيمة، فخاض حرب الاستنزاف مع الكيان الصهيوني التي دامت عامين وشكلت صمودا نسبيا لكن انتهت بالموافقة على مبادرة وزير الخارجية الأمريكي وليام روجرز وقف إطلاق النار.

ما يمكن استخلاصه هو أن عبد الناصر شكل نقلة نوعية في البناء السيادي العربي الحديث من خلال منح مصر دورا قياديا مؤثرا في عملية الصراع في الشرق الأوسط وحتى في العالم الثالث كمساهمتها في دعم حركات التحرر في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.

 

ب التجربة الجزائرية

تختلف صيغة البناء السيادي في الجزائر عن التجربة المصرية والعراقية لأنها جاءت إثر ثورة شعبية مسلحة أطّرها جيش التحرير وجبهة التحرير.

كانت الحكومة المؤقتة هي من تشرف على مسار المفاوضات مع الاحتلال الفرنسي الذي أفرز على وقف إطلاق النار من الجانبين وبدء بمفاوضات إيفيان التي تم من خلال منح حق تقرير المصير بموجب استفتاء شعبي تم التصويت لصالح خيار “جزائر حرة مستقلة متعاونة مع فرنسا” في جويلية 1962، بالرغم الشروط المجحفة التي وافق عليها الفريق المفاوض التي كانت محل خلاف بين الحكومة المؤقتة وهيئة أركان جيش التحرير الوطني بقيادة هواري بومدين وحليفه أحمد بن بلة الذي تسلم زمام السلطة بعد الاستقلال. لم يمنع ذلك من العمل على التأسيس لبناء سيادي يجد روافده في بيان نوفمبر 1954 ومؤتمر طرابلس 1962 إلى جانب روافد خارجية كالبناء السيادي الناصري والبناء السيادي في التجارب الاشتراكية لا سيما التجربة الصينية والتجربة اليوغسلافية. تم الجلاء الزراعي واجلاء “الأقدام السود” من الفرنسيين والتأسيس لتجربة التسيير الذاتي، فقد أكد دستور الجزائر الصادر في 1963 في مادته العاشرة أن الأهداف الأساسية للجمهورية الجزائرية تتمثل في “صيانة الاستقلال الوطني وسلامة الأراضي الوطنية وتشييد الديمقراطية الاشتراكية وتصفية بقايا الاستعمار “.

اما في السياسة الخارجية فقد عمل نظام احمد بن بلة على توطيد علاقته بالأنظمة القومية العربية لا سيما نظام جمال عبد الناصر، كما وفر الدعم للحركات المعارضة المغاربية التي يحوي جلّها المقاومين للاستعمار والمتعاطفين مع الثورة الجزائرية والمرتبطين بتحالفات مع قوى ثورية مناهضة للاستعمار، فتحولت الجزائر بذلك الى معقل مساند لكل حركات التحرر حتى أن الثائر الغيني اميرال كبرال لقّبها “بمكة الثوار”[3]. أما على المستوى الثقافي، فقد وضع بن بلّة أسس برنامج التعريب وفق ما تشير إليه خطاباته ودستور 1963.

لم تستمر تجربة بن بلة في الحكم طويلا، إذ أطاح به انقلاب قاده وزير دفاعه هواري بومدين في جوان 1965. حققت تجربة بومدين بعض المكاسب السيادية، من ذلك استرجاع قاعدة المرسى الكبير العسكرية في وهران من الفرنسيين في 1967 والقواعد الجوية في عنابة وبشار. كما هدف بومدين على العمل على ترسيخ سياسة البناء الاشتراكي عبر إصدار قانون الاصلاح الزراعي وبعث مشاريع للصناعات الثقيلة، لكن أهم مكسب سيادي طبعت به تجربته كان التأميم النصفي للمحروقات في فيفري 1971، كما استمر في بناء المؤسسات وعصرنتها وتحقيق مكاسب للطبقات الشعبية. ولم تكن سياسة السيادة الثقافية ببعيدة عنه، فقد نضج مشروع التعريب في عهده، أما في السياسة الخارجية فاستمر على نفس سياسة سلفه في دعم حركات التحرر لا سيما القضية الفلسطينية ومشاركته في مختلف الحروب التي خاضتها الجيوش العربية ضد الكيان الصهيوني.

 

ج- التجربة العراقية

تتشابه التجربة العراقية من حيث البناء السيادي مع التجربة المصرية لكن لها مسارها الخاص، فقد جاءت إثر انقلاب دموي من طرف الجيش باركته أحزاب متعددة شكلت فيما مضى الجبهة الوطنية العراقية وباركت الإطاحة بالنظام الملكي، لكن هذه الحكومات لم تعرف الاستقرار.

في البداية مسك زمام الحكم عبد الكريم قاسم في تموز 1958 واستمر حكمه خمس سنوات. ما يحسب لتجربة عبد الكريم قاسم أنه اتخذ إجراءات سيادية تتعلق أساسا بإخراج العراق من حلف بغداد الاستعماري ورفع الوصاية البريطانية على القرار السياسي العراق ويحسب به تأميم النفط القانون رقم 80 الصادر في 12 كانون الاول 1961 قد مكن العراق من استرجاع 99.5% من مجموع مساحات امتيازات شركات نفط العراق والموصل والبصرة وقانون الإصلاح الزراعي رقم 30 لسنة 1958.

 لم تستمر تجربة قاسم بفعل الانقلاب العسكري الذي نفذه البعثيون المتحالفين مع الضابط المستقل عبد السلام عارف في شباط 1963 الذي استغل الخلافات المتفجرة بأجنحة حزب البعث لينتهز الفرصة ويستولي على الحكم في تشرين1963 ليحكم مدة ثلاث سنوات ليخلفه شقيقه عبد الرحمان عارف المنقلب عليه لاحقا في تموز 1968 من طرف عسكر حزب البعث حاكمين لفترة دامت أكثر من ثلاث عقود.

حققت تجربة البعث الثانية في الحكم مكاسب سيادية لعل أهمها تأميم النفط في يونيو 1972 بعد مفاوضات عسيرة قادها فريق حكومي مفاوض مع الشركات الأجنبية كما أصدر قانون الاصلاح الزراعي رقم (117) لسنة 1970 حاول تركيز خدمات مرفقية عامة متطورة في مجال الصحة وتركيز صناعات وطنية كما شمل البناء السيادي النهوض بالتعليم عبر حملات محو الامية وتطوير جودة التعليم.

كان القرار الوطني العراقي مستقلا عن كل التجاذبات الإقليمية الدولية الكبرى وإن كان هناك تقارب مع الاتحاد السوفياتي أو فرنسا، إلا أنه ركّز الحياد الإيجابي وقيم مؤتمر عدم الانحياز خاصة خلال فترة أحمد حسن البكر كما دعم النظام العراقي حركة التحرير الفلسطيني ومول مختلف فصائلها بالمال والسلاح والتدريب العسكري.

الجزء الثاني: حدود تجارب البناء السيادي في الوطن العربي

رغم المكاسب التي حققتها تلك التجارب السيادية على مستوى تحرير القرار السياسي ولعب دور حيوي في المنطقة مؤثرا في توازنات الصراع في الشرق الأوسط إلا ان هناك عوامل مشتركة في تلك التجارب أدت الى تلاشيها وفقدان زخمها بالرغم من تغنيها بالسيادة الشعبية، فالمشترك بينها غياب الديمقراطية وهيمنة حكم الحزب الواحد والحكم الفردي وسطوة الأجهزة الأمنية والعسكرية و الحروب المغامراتية غير المدروسة وغياب التنظيمات الصلبة التي يمكن أن تجسد حالة استمرارية للمكاسب التي حققتها.

أ- التجربة المصرية

بعد وفاة عبد الناصر، خلفه نائبه أنور السادات الذي بمجرد تمكنه من الهيمنة على الحكم اتجه في خيارات سياسية مغايرة لسلفه اقتربت من المحور الرأسمالي. واستثمر حرب تشرين التي حققت انتصار معنوي دون انتصار استراتيجي، ليفاجئ العرب بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد ” السلمية مع الكيان الصهيوني سنة 1978، فمكنته من استرجاع شبه جزيرة سيناء لكن مع بقائها منزوعة السلاح، كما اتجهت سياسته نحو خصخصة القطاع العمومي وقل دعمه لحركة التحرر ونسج على منواله من خلفه في الحكم.

ب- التجربة العراقية

 في الحالة العراقية استنزفت الدولة في حروب جانبية من ذلك الحرب الإيرانية العراقية، تلتها الخطوة المفاجئة في غزو الكويت في 1990 التي كلفت العراق تدخل تحالف عربي غربي عسكري بقيادة الولايات المتحدة الامريكية، تم على إثرها انتهاك سيادة العراق وفرض حصار جائر أثّر سلبا على الاقتصاد العراقي لمدة اكثر من عقد، و انتهى بحرب عدوانية في مارس 2003 قادتها الولايات المتحدة العازمة على اجتثاث النظام الذي لم تكن موازين القوى لصالحه، علاوة على كونه لم يحصن جبهته الداخلية بسبب سياسته الاستبدادية. لتنتهي تلك التجربة ويتحول العراق إلى بلد منتهك السيادة قائم على ديمقراطية شكلانية تعتمد محاصصة الطوائف، يعم فيه الفوضى ومنطق اللادولة، يسيطر عليها الولاء المذهبي على حساب الولاء الوطني وتعصف بها الحروب الاهلية وسيطرة المليشيات الخارجة على القانون[4]، فظلت معاناته مستمرة إلى اليوم.

ج- التجربة الجزائرية

مرت الجزائر بفترة حكم الحزب الواحد ولعب الجيش الدور الأبرز في إدارة الشأن السياسي رغم تحقق المكاسب السيادية إلا أن حدود تلك التجربة تمثلت في استمرار التجارب الكيميائية الفرنسية في الصحراء الجزائرية إلى حدود أواخر السبعينات، وقد كانت فيما مضى سرية، لكن تم إنهاؤها بمجرد رفض الرئيس الشاذلي بن جديد الترخيص للفرنسيين في استمرارها، بعد أن تم إيقاف التجارب النووية في 1966 [5].

تراجعت المكاسب التي تحققت في فترة الستينات والسبعينات بعد وفاة الرئيس هواري بومدين. كما لعب تأثير لوبي فرنسا المتصاعد عبر النخبة الثقافية والعسكرية ذات التكوين الفرنكفوني والمتعاظم نفوذها، التي أضحت تدير البلد من خلف الستار منتهزة صعودها التدريجي للمراكز الحساسة في الدولة، وحسمها الصراع الخفي مع بقية الاجنحة صلب مؤسسة الحكم [6] متسببة في أزمة اقتصادية واجتماعية حادة أواخر الثمانينات، أدت الى اندلاع حركات احتجاجية شعبية في أكتوبر 1988 المطالبة بإصلاحات سياسية واقتصادية وانفتاح ديمقراطي، تجاوبت معه السلطة من خلال سن دستور جديد كانت ضريبته باهظة، ففي أول اختبار لمشروع الانتقال الديمقراطي الوليد أفتتح المسار الانتخابي، فبرزت تيارات معارضة راديكالية تنوعت بين توجهات إسلامية راديكالية او توجهات قائمة على العصبية اللغوية  على غرار التيار الإسلامي والتيار البربريستي حيث ربح التيار الأول الانتخابات التي تم إيقافها من طرف الجيش حرصا منه على حماية مكاسب الجمهورية ودولة الاستقلال. في المقابل تعاظم نفوذ التيار الثاني الذي توزعت تنظيماته بين التحالف مع السلطة ومعارضتها وأصبحت له سطوة داخل بعض المناطق التي لها خصوصية لغوية مما مهد لاحقا الى نعرات انفصالية قد تهدد مكاسب دولة ما بعد الاستقلال والوحدة الوطنية، إضافة الى ارتباطاتها الخارجية. أما التيار الإسلامي الذي تنوعت تنظيماته فقد كان خطابه يتنكر لمنجزات دولة ما بعد الاستقلال ويهدد مكاسب النظام الجمهوري، مما أدى الى تصادم بين تنظيماته المسلحة مع الدولة وتسبب في احتراب السلم الأهلي فخلف عدد كبيرا من الضحايا واستمر لمدة عقد من الزمن انتهى بمصالحة وطنية أعادت الأمن والاستقرار للجزائر.

خاتمة

لئن حققت هذه التجارب مكاسب سيادية عملت على بلورة مشروع سيادي يشع إقليميا وعالميا، إلا أن غياب الديمقراطية والتخطيط والاستشراف الاستراتيجي الجيد واعتماد النمط المركزي التسلطي في الإدارة كما غياب استمرارية الخط السيادي صلبها، عرضها إما لانقلاب داخلي مثلما حدث في مصر والجزائر وكاد يؤدي بها الى حروب أهلية أو إلى التلاشي  بموجب العدوان الخارجي كما حالة العراق.

الهوامش

  1. دستور مصر 1956 أستفتي عليه في 25 يونيو 1956
  2. عبد الحليم قنديل، الناصرية والإسلام، مركز الحضارة العربية للإعلام والنشر والدراسات، 1998
  3. فاضل الربيعي، العسل والدم من عنف الدولة الى دولة العنف، الفرقد للطباعة والنشر والتوزيع، 2008.
  4. رابح لونيسي : “الشاذلي أوقف التجارب الكيميائية الفرنسية” منشور بجريدة الوسط الجزائرية في 15 سبتمبر 2020.
  5. عبد الحميد البراهيمي، في اصل الازمة الجزائرية( 1958 -1999 )، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2001.

 

 

نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 21، أكتوبر 2022

 للاطلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf21

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights