حيرة الساعات الأخيرة
|هو يوم الصمت…لكن لئن صمتت القائمات المترشّحة عن الترويج لبرامجها، فإنّ الناخبين لم يصمتوا عن النقاش حول من سيختارون…في آخر استطلاع للرأي ، أبرزت النتائج أنّ 26% من التونسيين لم يختاروا بعد لمن سيصوّتون، بينما قال 44% ممّن حدّدوا اختياراتهم أنّ إمكانيّة تغيير آرائهم واردة، وهو ما يعني أنّ 70% لم يقرّروا بعد بصفة نهائيّة لمن سيصوّتون، وذلك قبل بدء الحملة الانتخابيّة.
هل تغيّر الأمر بعد انتهاءها؟ أشكّ في ذلك. برامج القائمات المترشّحة تشابهت، إلى حدّ التطابق أحيانا. ورغم أنّ انتخابات يوم غد هي انتخابات مجلس تأسيسي مهمّته الأساسيّة وضع دستور جديد للبلاد، فقلّ من القائمات المترشّحة من قدّم مشروعا متكاملا أو حتّى تفاصيل وافية عن أفكاره للدستور، وذلك لا يستثني حتّى الأحزاب الكبرى. ساد الخطاب الشعبوي القائم على الدمغجة والوعود بالخلاص وتشويه صورة العدوّ المفترض وبلغ التنافس أحيانا مستويّات غاية في الانحطاط، وأصبح الضرب تحت الحزام، خاصة على الشبكات الاجتماعيّة عملة رائجة، وكأنّي بالبعض يراهن (للأسف) على قلّة نضج الشعب التونسي السياسيّة.
لكنّ ما وقع تكريسه إبّان هذه الحملة هو ذلك التقسيم الثنائي للمجتمع التونسي بين مدافعين عن الهويّة ومناصرين للحداثة. تقسيم لا تعبّر عنه صراحة البرامج المكتوبة ولكنّه جليّ في الخطابات وفي التشنّج الّذي ساد بعد “حادثة برسيبوليس” ولئن كان هناك ممثّل أوحد يكاد يحتكر الكلام بإسم الهويّة، فإنّ المتكلّمين بإسم الحداثة كثر.
في جانب المدافعين عن الهويّة، الطرف المهيمن دون منازع هو حركة النهضة، وما سواه مجرّد حركات هامشيّة لا يكاد يعتدّ بها، أو حركات تدور في فلك النهضة. وهو ما يسهّل الخيار على الناخبين المتحمّسين لتكريس مسألة الهويّة. لكنّ المشكل في رأيي في خصوص برنامج حركة النهضة، فضلا عن اختزالها عموما للهويّة في الإسلام، هو عدم وضوح رؤيتها الّتي تزعم أنّها وسطيّة. برنامج الحركة المكتوب لا يختلف جوهريّا عن البرامج الأخرى، لكنّ قائمة المترشّحين لا تعبّر عن اختيارات واضحة، فهي تضمّ خليطا يمتدّ من مرشّحين سلفيين أو أقرب للسلفيّة إلى مرشّحين كانوا من أعلام اليسار الإسلامي، وهو ما أدّى إلى مواقف وتصريحات غير واضحة وأحيانا متناقضة. فمثلا يتحدّث البعض داخل الحركة عن نموذج حزب العدالة والتنمية التركي بإعجاب وينادون بتكريسه، وهو نموذج يخصّ دولة ما زالت تحافظ على علمانيّتها منذ ثمانين سنة، بينما يماهي البعض الآخر بين العلمانيّة وبين الكفر والإلحاد. في ظلّ هذه الاختلافات الجوهريّة الّتي تشهدها الحركة، يبدو أنّها عاجزة إلى حدّ الآن عن تقديم مشروع متناسق، بل تضمّ كلّ من ينادي بالهويّة الإسلاميّة…ولعلّ الأسباب انتخابيّة بالأساس: من الأسهل جمع أصوات الناخبين تحت لافتة الإسلام من تقديم مشروع واضح المعالم قد يتسبّب في خسارة عدد هام من الأصوات.
في الجهة المقابلة، يبدو التشرذم هو السمة الغالبة لمن يسمّون بالتقدمييّن. عدد كبير من الأحزاب يزعم حمل لواء الحداثة، وهذا التمزّق يعسّر مهمّة الناخب. ورغم وجود محاولات لتوحيد “الحداثيين” في جبهة واحدة، فإنّ القطب الحداثي الّذي تكوّن لم ينجح في ضمّ الحزبين “الكبيرين”: التقدّمي والتكتّل. وعموما، فإنّ أزمة الحداثيين هوالشكّ في مدى تجذّر حداثتهم في الهويّة. فرغم ما يعلنه دعاة الحداثة من تمسّك بالهويّة، يعبّرون عنها رمزيّا عبر الرغبة في المحافظة على الفصل الأوّل من دستور 1959، فإنّ هذا التمسّك بالهويّة يبدو عموما مجرّد شعار أجوف. ومرّة أخرى، فإنّ هذا لا تنطق به البرامج، بل ما ينطق به المرشّحون، إذ يبدو من المشروع التساؤل عن مدى التمسّك بالهويّة لأشخاص لا يكادون يتحدّثون “كلمتين خوات” بالعربيّة ويهاجمون الحجاب وغيره من مظاهر التديّن، إضافة إلى ما يشاع عن علاقتهم بأطراف أجنبيّة (فرنسا خاصة).
وخارج هذه الطرفين، لا يبدو أنّ التصويت لأطراف أخرى يمكن أن يكون تصويتا مفيدا، للناخبين الّذين لا يرغبون في أن تضيع أصواتهم هدرا. فالقائمات الأخرى هي إمّا قائمات مشخصنة، تدور حول فلك زعيمها أو زعاماتها (وهو ما يؤثّر عليها بشدّة سلبا أو إيجابا) ولا حظّ لغيرهم في الوصول إلى المجلس (حتّى إن تعلّق الأمر بقائمات مترشّحة في عدّة دوائر) أو قائمات لأحزاب و حركات ذات إيديولوجيات تعيش في قبرها (كالشيوعيّة والقوميّة) أو أحزاب أو مستقلّين غير جادين أو عجزوا عن ترويج برامجهم. وفي كلّ الحالات، ليس من المرجّح أن تؤثّر هذه القائمات على نتيجة الانتخابات.
إذن لا وجود في نظري لمن يقدّم مشروعا يوازن بين الحداثة وبين الهويّة. لا وجود لمشروع يجعل من المواطن يعيش هويّته دون انغلاق ويدخل الحداثة دون عقد. كنت أعلّق آمالا عريضة على اليسار الإسلامي لتقديم مثل هذا المشروع، لكنّه عجز عن ذلك، وتفرّق بعض أقطابه شيعا (الجورشي كمستقلّ، القوماني مع الإصلاح والتنمية، أبو يعرب المرزوقي مع النهضة) بينما بقي البعض الآخر بعيدا عن الحياة السياسيّة. كما أنّ حركة 18 أكتوبر ورغم أنّها كانت حوارا ثريّا لسنوات بين الإسلاميين والتقدميين فإنّها تشتّتت ولم يشر أحد (باستثناء حمّة الهمّامي) إلى نتائج عملها.
لم يقنعني أحد ومع ذلك سأذهب للتصويت…سأصوّت، ولكن ليس لمن أعتبره الأفضل (لأنّه لا وجود للأفضل)، بل لأقلّ المرشّحين سوء.