قراءة في كتاب “دولة اليهود” لتيودور هرتزل

بقلم: فهمي رمضاني

لم تكن الصهيونية مجرد حركة سياسية نشأت وترعرعت في القرن التاسع عشر في سياق إمبرالي وإنما تعتبر مشروعا فكريا متكاملا له سرديات وأفكار حاول مجموعة من المفكرين الترويج لها ونشرها. ومن أهم هؤلاء المفكرين نذكر موسي هس في كتابه “روما والقدس” وليون بنسكر في كتابه “الطريق إلى الحرية” وخاصة تيودور هرتزل الذي نجح في بلورة عمل سياسي لإقامة وطن قومي لليهود خارج أوروبا وبهذا المعنى يمكن اعتباره الأب الروحي للدولة الصهيونية والمنظر الأول لها، فقد شكل المنظمة الصهيونية وأشرف على المؤتمر الصهيوني الأول بمدينة بازل السويسرية وشجع اليهود على الهجرة إلى فلسطين. لذلك من الأهمية بمكان العودة اليوم لمؤلفه لفهم البرنامج الذي وضعه هرتزل والذي نجح في تحويله إلى إطارا ملموسا وعمليا للصهيونية السياسية.

ولد تيودور هرتزل في المجر في حي يهودي في عائلة يهودية علمانية وكان من المعجبين بفرديناند دي ليسبس صاحب مشروع قناة السويس في مصر، قرأ كذلك أعمال شكسبير ودرس القانون في جامعة فيينا، لكنه توجه فيما بعد للعمل في الصحافة. تأثر هرتزل بسياق معاداة السامية الذي ميز أوروبا خلال القرن التاسع عشر وخاصة قضية دريفوس الجندي الفرنسي اليهودي الذي تم اتهامه ظلما بالتجسس لصالح ألمانيا. وقد كان لهذه الحادثة الأثر الكبير على تيودور هرتزل الذي يقول في إحدى مذكراته بأن قضية دريفوس حولته من يهودي إلى صهيوني خاصة بعد أن رأى الحشود في أروبا تهتف بصوت واحد “الموت لليهود”.وقد أكد هرتزل بعد هذه الحادثة على زيف فكرة الاندماج في المجتمعات الأروبية التي اعتبرها وهما إذ بالنسبة إليه لا يمكن لليهود أن يعشوا في مجتمعات  تكن لهم البغضاء والحقد وأن الطريقة الوحيدة لتجنبها هي إنشاء دولة يهودية. يقول في إحدى مذكراته ” في باريس أدركت خواء وعقم محاولة محاربة المعاداة للسامية”.

شرع تيودور هرتزل فيما بعد في تأليف كتيبات صغيرة عن دولة يهودية وعن مشاريع استيطانية يقوم بها اليهود لتكوين دولتهم ثم ألف في نهاية 1895 كتابه الذي حمل عنوانا يكشف عن مشروع صاحبه “دولة اليهود” والذي سينشر سنة 1896. ترأس هرتزل فيما أول مؤتمر صهيوني عالمي بمدينة بازل السويسرية للدعوة إلى ضرورة إيجاد وطن قومي لليهود.

يعتبر كتاب “دولة اليهود” طرحا جديدا للمسألة اليهودية من أجل الترويج لها على مستوى عالمي، باعتبارها مشروعا واقعيا قابل للتطبيق لا مجرّد حلم مثالي. ويتمثل الطرح الجديد الذي سيعتمده هرتزل في هذا الكتاب في بناء خطاب يقوم على التأسيس للسرديات الكبرى التي ستضمن استمرار الدولة اليهودية. المميز في هذا الكتاب كذلك هو أن المؤلف يشرح بإسهاب مراحل تأسيس الدولة اليهودية وكل التفاصيل المتعلقة بذلك كعلم الدولة مثلا الذي اقترح أن يكون أبيض به سبعة نجوم ذهبية اللون حيث ترمز المنطقة البيضاء إلى حياة اليهود الجديدة النقية بينما ترمز النجوم إلى الساعات الذهبية السبع التي يتكون منها يوم عمل اليهودي. يقول هرتزل “ليس العلم مجرد قطعة قماش فبه يستطيع الشخص أن يقود الناس أينما أراد إلى أرض الميعاد”.

وعلى الرغم من إحساس هرتزل بأن بعض أفكار هذا الكتاب مغرقة في الحلم والطوباوية فإنه كان مقتنعا بقابليته للتطبيق كمشروع سياسي لحل المسألة اليهودية. يقول في المقدمة ” فكرة الكتاب هي بالغة القدم ألا وهي إحياء دولة اليهود فانا اعتقد ان قضية اليهود لم تعد قضية اجتماعية أو دينية. إنها قضية قومية لا يمكن حلها إذا أصبحت قضية سياسية عالمية يتم تسويتها في ظل مجلس تتشاور فيه الأمم المتحضرة”. من الأفكار الخطيرة التي روج لها هرتزل في كتابه هي تلك المتعلقة بالسرديات الكولونيالية حيث يعتبر أن الاستيطان اليهودي سيرتقي بالمنطقة ويجلب لها النماء وهي نفس السرديات التي روجت لها الدول الاستعمارية التي اعتبرت مهمتها تتمثل في نشر الحضارة ورسالة الرجل الأبيض. يقول هرتزل ” ستفيد هجرة اليهود السكان الأصليين في فلسطين لأننا سنزيد رفاهيتهم وثروتهم ويضيف “لن يشك أحد بأن السماح لعدد من اليهود بالهجرة يأتون بذكائهم ومهاراتهم المالية ووسائل استثماراتهم في البلاد سيؤدي إلى نتيجة سعيدة وتحسن الدولة كلها”.

 يستعرض هرتزل كذلك تاريخ معاناة اليهود عبر التاريخ من أيام السبي البابلي والاضطهاد الروماني إلى العصور الوسطى والحديثة التي تميزت بسياق معاداة السامية فينتهي إلى أن مشكلة اليهود ليست سياسية أو اجتماعية وإنما قومية سيقع حلها بالعودة لأرض الميعاد. ومن خلال الفصول الخمسة للكتاب الكتاب يمكننا فهم السرديات الكبرى التي يدافع عنها هرتزل مثل سردية الأرض الموعودة وسردية الشعب المختار وهي كلها سرديات توراتية تستند إلى قراءة دينية للتاريخ. أما بالنسبة للوطن القومي فيقول هرتزل: هل يتعين علينا اختيار فلسطين ام الأرجنتين فالأرجنتين واحدة من أخصب الأراضي وتمتد لمساحة هائلة اما فلسطين فهي وطننا التاريخي الخالد في ذاكرتنا ابد الدهر. يشير هرتزل على أهمية تعاون الشباب اليهودي لإنجاح المشروع الاستيطاني إذ يقول”وأحسب أن رواج الفكرة سيعتمد في الأساس على شباب اليهود المتحمس الذين انغلقت أمامهم كل سبل التقدم، ويرون في الدولة اليهودية الغد المشرق الحامل لكافة معاني الحرية والسعادة والشرف”.

يعتبر هرتزل أن شراء الأراضي هو أهم خطوة لإنجاح المشروع الاستيطاني لأن الدولة اليهودية ستعتمد على انتزاع الأراضي من الأهالي لذلك وجب على كل يهودي شراء الأراضي وبأي ثمن كانت.

الكتاب يسقط في تناقض صارخ فهو من جهة إعلان عن مشروع سياسي لدولة ديمقراطية لليهود وهو من جهة أخرى عزف على الوتر الديني والروايات التوراتية غير التاريخية كما أنه يتجاهل الشعوب الموجودة في فلسطين إذ لم يتم ذكر الفلسطينيين أبدا وكأنه بذلك يستبطن مقولة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”

نُشر هذا المقال بمجلّة حروف حرّة، العدد 33، ديسمبر 2023.
للاطّلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf33

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights