منتدى ”مشاكسات“ يناقش قضيّة الفنّ بين الإبداع والتبضيع

بقلم: مريم مقعدي

 بالشراكة مع المقهى الفلسفي، نظم منتدى “مشاكسات” بجمعية تونس الفتاة يوم 20 ماي 2023 بدار الثقافة ابن خلدون المغاربية نشاطا بعنوان ” الفن بين الإبداع والتبضيع ” وقد تم في هذا النشاط استضافة الأستاذ توفيق بوراوي الذي قدّم مدخلا تأطيريا للمسألة عقبه بعد ذلك نقاش ثريّ بفضل تنوع اختصاصات المتدخلين.

وفي هذا الإطار، أشار الأستاذ توفيق بوراوي في مستهل مداخلته إلى أن سؤال “ما الفن؟” هو دائما سؤال ميتافيزيقي فلسفي بامتياز وهو أيضا ينتمي إلى سياق أحكام القيمة أو الأحكام المعيارية وهو ما يدعونا إلى الوقوف عنده بغية فهمه وتفصيله باعتبار أنّ الفلسفة التي نخوض بها بحثنا هذا هي ” فلسفة نحت وإبداع للمفاهيم ” مثلما عبّر عن ذلك جيل دولوز، وباعتبار أن مجال اللغة اليوم أصبح اللعبة المفضلة للفيلسوف راهنا. لذلك بدا الأستاذ بالتحديد المفهومي ثم انتهى بنا الى الإشارة إلى ثلاث لحظات مهمة صنعت إيقاع تاريخ فلسفة الفن. فما المقصود بالفن إذن؟ ما دلالة الاسطيتيقا وشروط تأسيسها فلسفيا؟ وأي معنى لاستعادة الفن والاسطتيقا اليوم ضمن هذا الإحراج: الفن بين الإبداع والتبضيع ؟

بالعودة إلى بعض التحديدات المعجمية، مثل معجم جميل صليبا ومعجم لالاند، يمثل الفن بالمعنى العام جملة من القواعد المتبعة لتحصيل غاية معينة جمالا كانت أو خيرا أو منفعة. فإذا كانت الغاية هي تحقيق الجمال سمي الفن “بالفن الجميل” وإذا كانت الغاية هي تحقيق المنفعة سمي الفن بالصناعة وبهذا المعنى يمكن أن نقول أن الفن مقابل للعلم لأن هذا الأخير يعد نظريا أما الفن فهو عملي بامتياز. والفرق هنا بين الفن والعلم هو أن غاية الفن الأساسية هي تحصيل الجمال أما غاية العلم فتتمثل في الوصول إلى الحقيقة. أما الفن بالمعنى الخاص فيطلق على جملة الوسائل التي يستعملها الإنسان لإثارة الشعور بالجمال والفن الملتزم هو الفن الموجه أما الفن الحر فهو الفن هو ذلك الفن المطلوب بذاته، وهو ما يطلقون عليه اصطلاحا ” الفن للفن “.

أما في معناه الاشتقاقي، فقد أشار الاستاذ إلى الفن في طرحه الإغريقي الذي كان يسمى ” تيكني”، أي مهارة في انجاز ماهو عملي لتحقيق منفعة ما. وبهذا المعنى يفيد الفن نشاطا منهجيا منظما بالمقارنة مع ما يأتي من الطبيعة أو الصدفة. ولذلك تطلق هذه الكلمة في الجمالية الفرنسية المعاصرة على مجموع العمليات والآثار التي تحمل علاقة شخصية ما.

وفي هذا الإطار، انتهى الأستاذ إلى أن جملة هذه التحديدات المفهومية تستبعد أن يكون الفن فكرة ميتافيزيقية باعتبار أن كل عمل فني هو عمل متعين راهنا. وبهذا المعنى يمكن أن نقول أنّ العمل الفني يتضمن قصدية إبداعية لكائن واع لكن دون أن يتحول هذا الوعي أو العقل إلى معيار منطقي أو ابستيمولوجي باعتبارنا نتحدث هنا تحت راية باراديغم الفن أو الاستطيقا، فالفن في هذا الباراديغم يبقى منضويا تحت مجال أحكام القيمة باعتباره مجالا جماليا محضا. ولنا في كانط مثال واضح على تشديد الفيلسوف على ضرورة خروج الفن من راية” التحديد الفلسفي “، بل أكثر من ذلك، فقد شدّد هذا الأخير على ضرورة انتقال الفن من فلسفة الفن إلى ” الفن من اجل الفن ” أي الانتقال إلى الفن الذي يحمل غاية ذاته، أو كإبداع جمالي خالص ومحض.

أما من الجانب التاريخي، فقد حدد الأستاذ توفيق بوراوي ثلاثة لحظات مهمة في تاريخ فلسفة الفن :

اللحظة الأولى، وتتمثل في التقليد اليوناني، أين تم إقصاء الفنانين والشعراء من الجمهورية (جمهورية أفلاطون) لأنّ الفن – باعتباره محاكيا للعالم الواقعي – يعد في نظر أفلاطون مجرد محاكاة ونسخة للنسخة لعالم حقيقي “أرقى” هو عالم المثل، لذلك تم طرد هوميروس من المدينة لان لا يقدم لنا إلا فنا مزيفا وخادعا. لذلك فان الفن بالنسبة لأفلاطون لا قيمة له لأنه يأتي في مرتبة ثانية بالنسبة للحقيقة.

أما اللحظة الثانية فتتلخص أساسا في فلسفة كانط الجمالية التي قطعت بدورها مع فكرة الفن كمحاكاة وانتقل بالفن إلى ” الفن من أجل الفن “. إذ يقول في هذا الإطار “ليس الفن تصوير الشيء الجميل، وإنما هو التصوير الجميل للشيء”. وبهذا المعنى إذن يخرج الفن من دائرة التقليد ويصبح إبداعا للجمال كما يكون لذة بدون نفع وكلية بدون مفهوم باعتبار أن الفن يعد المجال الوحيد الذي يوحد الذوات الإنسانية وبهذا يكتسب الفن لدى كانط بعدا كونيا إنسانيا خالدا. ثم إن فكرة إبداع الجمال الفني هذه سيلخصها هيغل عندما يعلن صراحة أن الإبداع الفني يعد أسمى من الجمال الطبيعي، باعتبار أن ما يوجد في الطبيعة هو معطى جاهز ومكرر. ويعد الجمال الفني أسمى من هذا الأخير لأنه نتاج للفكر ويحيل على الروح أو انه يحيل إلى تجليات الروح أو للفكرة في معانقتها للمطلق. إذ يعتبر هيغل أن هدف الفن هو التجسيد بشكل متعين ما يتولد عن الروح من تمثلات.

وأخيرا، خلص الأستاذ توفيق بوراوي إلى اللحظة الثالثة، من خلال تحدثه أساسا على البعد التحرري للفن. وقد أشار إلى أن هذه اللحظة قد بدأت مع نيتشه الذي أعلن صراحة أن الفن هو الشيء الوحيد المتبقي لنا كي لا تميتنا الحقيقة، سواء بالمعنى العلمي أو الحقيقة في معناها الفلسفي، ” لنا الفن حتّى لا تميتنا الحقيقة”. وبهذا المعنى يكتسب الفن عند نيتشه بعدا تحرريا، باعتبار أن المشروع النيتشوي يتمثل أساسا في التخلص من كل المعايير الميتافيزيقية المقصية للجسد واحتفالية الحياة نحو استعادة هذه الاحتفالية وهذه المتعة من خلال المعرفة المرحة والفن كمشروع تحرري.

إن الفن كمشروع تحرري سيتم استعادته من خلال مدرسة فرنكفورت مع ماركوز في كتابيه “البعد الجمالي” وكتاب ” الإنسان ذو البعد الواحد “. فلما كنا نعيش اليوم في عالم يغزوه التطور العلمي والتقني الذي سلب الإنسان إنسانيته، يذهب ماركوز إلى أن الفن يمكن أن يكون ما تبقى لنا لكي نستعيد شيئا من إنسانيتنا التي وقع تشييئها واختزالها فيما هو استهلاكي ومادي ونفعي. كما يعلن ماركوز أن الفن يجمع بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي، ولكنه يدفع نحو حقيقة جمالية. إن الفن إذن بالنسبة لماركوز يستمد قيمته الحقيقية في الدفع ببعد جديد من أبعاد التجربة الإنسانية، وأن يتجاوز الواقع الذي نعرفه وأن يبعث بالذاتية المتمردة ويفتح أفاقا جديدة للتجربة الإنسانية. لذلك فان قيمة الفن لدى ماركوز تتمثل في ألا يعيد لنا الواقع الذي نعرفه، بل أن يتحدى هذا الواقع الذي يحتكر لنفسه حق تحديد ما هو حقيقة.

 ثم أّن فكرة التحرر هذه سيستعيدها جاك رانسيار، من خلال طرحه لمشكلة الواقع نفسه، باعتبار أن المجتمعات المعاصرة التي تسود فيها قيم الإنتاج المتطورة تقدّم لنا الفن وكأنه بضاعة كما تسلب الإنسان إنسانيته كي يصبح سلعة. إذ يعبر هذا الأخير أن الفن يعد مجالا ممكنا للتحرر غاية التخلص من تلك العلاقة الأفقية أو التراتبية بين من يمتلكون الذكاء ومن يفتقرون إليه، وبين من يمتلك المعرفة وبين الفاقد لها. إن رهان رانسيار في الفن إذن هو إعادة تأسيس لمشروع جمالي اسطيتيقي معرفي وسياسي وفق معايير ديمقراطية تفاعلية تشاركية، ولعل هذا ما يستدعي عنده الانتقال إلى “نظام الاسطتيقا للفن “.

يمكن أن نستنتج إذن، أن الفن عند رانسيار يجب أن يكون محررا، ولعل هذا التحرر يقتضي أن يستعيد الفن دوره في الدفع نحو وعي مغاير للراهن، والتخلص من كل نظرة وظيفية للفنان أو للفن، ومن كل ارتهان إيديولوجي أو توظيف تجاري، نحو استعادة الفن كطاقة مبدعة أو محررة.

أما القسم الثاني من النشاط، فقد كان مخصصا أساسا للنقاش. وقد حاول منظّمو

هذا النشاط أن ينزّلاه الواقع الراهن، من خلال التطرق إلى بعض الأعمال الدرامية التي بثت خلال شهر رمضان. ولكن قبل ذلك، حاول المتدخلون أن يحددوا ما المقصود بالإبداع الفني؟ وقد حاول كل منهم أن يجيب على هذا السؤال من اختصاصه، ومن خلال تمثل كل واحد فيهم للعمل الإبداعي ذاته.

وفي هذا الإطار، أشار بعضهم إلى أن العمل الفني هو بمثابة إعادة لما نعرفه، أي أنه بمثابة محاكاة لما وجد في الواقع (الواقعية). ولكن البعض الآخر يذهب إلى أبعد من ذلك، ويعتبر أنّ الفن هو لحظة إبداع كونية. لذلك تتجسد مهمته الأساسية في الهروب من الواقع، بل أكثر من ذلك، إن رهان العمل الفني هو إنشاء واقع بديل وملامح وتشكلات جديدة، ترتقي بالإنسان من كل تلك المحاولات المتكررة التي تسعى لتبضيعه واعتباره مجرد سلعة تسيطر عليها قيم المال.

إضافة إلى ذلك، أشار المتدخلون إلى أن الفن يمكن أن يكون مجالا للوعي، كما يمكن أن يكون مجالا لتزييفه. ولعل هذا ما يحيلنا إلى مهمة الفنان ذاته، الذي يجب أن يحصن نفسه ضد كل أشكال تبضيع الفن وتشييئه .

 وأخيرا، بالحديث على بعض الأعمال التلفزية الدرامية التي بثت خلال شهر رمضان، أشار بعض المتدخلين إلى أن الجانب المطمئن في تلك الأعمال هو أن بعضهم قد مرّر لنا في النهاية رسائل نبيلة، تحتفل بالفن وتراهن مجددا على الإنسان. خلص المتدخّلون إلى أن الأعمال الفنية يجب أن تقيّم بشكل كلي وليس بشكل جزئي، باعتبار أن ميزة العمل الفني  هي الكونية.

نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد27، جوان 2023.

للاطّلاع على كامل العدد وتحميله: http://tiny.cc/hourouf27

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights