قراءة في مقال”رمضان والثورة يغذيها” للشيخ راشد الغنوشي
|اعترضني منذ أيام مقال بعنوان “رمضان والثورة يغذيها” للشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة الإسلامية منشور على الموقع الإلكتروني الجزيرة.نت. هذا المقال موجود على الرابط التالي:
http://aljazeera.net/NR/exeres/1FE99915-7EAB-4C78-A6F3-AD8379F89124.htm
و بعد تصفحه و قراءته، لم أتمكن من منع نفسي من تسليط الضوء عليه نظرا لدسامته و أهمية الاستنتاجات التي يمكننا الخروج بها.
لا بدّ من التذكير و التأكيد، منذ البداية، على أنّ هذا المقال مكتوب بقلم و بيد راشد الغنوشي نفسه كما يثبته الموقع الإلكتروني المنشور فيه، حتىّ لا نعود إلى الاسطوانة المخدوشة و نلجأ إلى المقولات الاعتيادية المستهلكة من قبيل التلفيق و الاستهداف و التشويه بقصد التهميش و الإقصاء و الحكم على النّوايا و ما إلى ذلك من الردود السريعة الجاهزة على طريقة الأكلة الخفيفة.
وحتىّ أكون دقيقا، منهجيا وغير مطيل في آن واحد، سأصوغ ملاحظاتي في شكل رؤوس أقلام.
1- في الأسطر 25-26-27-28 من المقال: يقيم الكاتب مقابلة واضحة ( والتي لا تتطلّب أن نقوم بأيّ مجهود حتّى نستخرجها من نيّته) بين المؤمنين المستبشرين بقدوم شهر رمضان المعظّم والذين يشكّلون على حدّ تعبيره (لا نيّته مرّة أخرى) “السكان الأصليين” للبلاد التونسية من جهة و الأقلية الأخرى المنعزلة الكارهة للإسلام والتي هي بمثابة “لفيف أجنبي و بقيّة من بقايا الغزو الاستعماري” من جهة أخرى. وبقطع النظر عن الإشكاليات التي يمكن أن يطرحها مثل هذا التقسيم (من أعطى الصلاحية للشيخ راشد الغنوشي كي يقسّم الناس إلى أغلبية مؤمنة وأقلية غير مؤمنة؟ وماهو المعيار الذي اعتمده في ذاك؟)، فإنّنا من وجهة نظر سياسية بحتة، يمكن أن نخرج باستنتاج مفاده أنّ المواطنة أو الانتماء لدولة معيّنة عند الشيخ الغنوشي هي مواطنة “تيوقراطية” قائمة على أساس الانتماء إلى الدين الإسلامي من عدمه وهو ما يتعارض بوضوح مع الخطاب المردّد علينا دائما الذي يؤكد و يطمئن أنّ حركة النهضة تنشد إقامة دولة مدنية قوامها المواطنة الفعلية و المساواة التامة أمام القانون بقطع النظر عن الأديان و المعتقدات.
2- في السطرين 29-30 من المقال : يصف الشيخ الغنوشي هاته الأقليّة المتوجسة الكارهة للإسلام ، بأنّها ” قوى مضادّة للثورة“.و هو ما يعني أنّ الكاتب يقيم معادلة و تطابقا بين كره الإسلام من جانب و التصدي للثورة و عرقلتها من جانب آخر. و إذا نظرنا إلى هذه المعادلة بطريقة عكسية (a Contrario)، أمكن لنا أن نرى أنّ الشيخ الغنوشي يبني، بطريقة ضمنية، تماهيا بين الثورة والإسلام. بعبارة أخرى، وبالرّغم من أن الشعب التونسي لم يرفع و لو لمرّة واحدة أية شعارات إسلامية، فإنّ زعيم حركة النهضة يرى بأنّ الثورة التي قامت يوم 14 جانفي 2011 هي ثورة إسلامية قام بها الإسلاميون و لم تكن انتفاضة على الكرامة و الحرية و التوازن الجهوي و رفض التهميش الاقتصادي و الاجتماعي صنعها كل الشعب من التونسيات و التونسيين بطريقة متضامنة و عفويّة و دون أيّة حسابات إيديولوجية أو سياسية.
3- في الأسطر 43-44-45 ثمّ الأسطر 60-61-62-63-64 من المقال: يتهم الشيخ راشد الغنوشي ما يسمّيها القوى العلمانية بمحاولة تجريد الدين الإسلامي عامّة وفريضة الصوم على وجه الخصوص من أبعادهما السياسية. ثمّ يذكّر أنّ الإسلام من خلال المساجد و القرآن و السنة النبوية الشريفة لعب دورا مؤثّرا و حاسما في “تأجيج الروح الوطنية لدى الأوساط الشعبية و تعبئتها في الكفاح ضد المستعمر“. ومرّة أخرى، و بقطع النظر عن التساؤلات الأخرى التي يثيرها مثل هذا القول (مثلا ماهي الأبعاد السياسية التي يمكننا كمسلمين أن نستشفها من فريضة روحية بالأساس كفريضة الصوم؟!!! )، فإنّه ما يمكن أن يفهم، أنّ الكاتب يرى أنّ الإسلام هو دين و أداة سياسية في نفس الوقت و هو ما يقوّض الزّعم القائل بأنّ حركة النهضة ستسعى إلى الفصل بين الدين و العمل السياسي و تستنكر تسييس المساجد و دور العبادة و تدعو إلى تحييدها حيادا تاما.
4- في كامل المقال، يقابل الكاتب كما رأينا بين المؤمنين المسلمين و العلمانيين (مستفيدا من عدم تمكّن أغلبية الشعب من هذا المصطلح و التباس مفهومه عنده و قرنه له بالكفر و الإلحاد)، إلا أننا نتفاجأ في السطر37، بأنّه يستبدل العلمانيين “بالشخصيات الحداثية “. لكن لماذا هذا التنافر المفاجئ و الصاعق بين الإسلام و الحداثة؟ أليست حركة النهضة حركة إسلامية تحديثية؟ ألم تردّد مرارا و تكرارا أنّها لن تستهدف المكاسب الحداثية للمجتمع التونسي؟ ألم يستفد حزب العدالة و التنمية التّركي أيّما استفادة من مؤلفات الشيخ الغنوشي و أفكاره التنويرية؟ لماذا إذن هذا التعارض؟ مجرّد زلّة قلم؟ نرجو أن يكون كذلك. لكن حتّى وإن كان مجرّد زلّة قلم، ألم يعلّمنا علم النفس التحليلي la psychanalyse، و خاصّة المقاربة الفرويدية، أنّ هفوات الأفعال و زلات القلم و اللسان تعبّر أيّما تعبير عن رغباتنا الدفينة الحقيقية التي استطاع الإنسان إخفائها و كبتها في مرحلة نفسية معينة لتقديم صورة جميلة تتلاءم مع المقتضيات الاجتماعية؟
5- في السطر 36 من المقال، يجدّد الشيخ راشد الغنوشي لومه على تأجيل الانتخابات، و هو تحسّر و لوم ردّدته حركة النهضة في عديد المناسبات. بالرغم أنّ الكلّ، يعلم أنّ الدولة التونسية لم تكن، لأسباب موضوعية لوجستية، قادرة على احترام الموعد الانتخابي المقرّر يوم 24 جويلية. كانت قادرة على إجراء أيّة انتخابات مهما كان نوعها نعم لكن كان من المستحيل أن تنظّم انتخابات ديمقراطية حرّة و نزيهة. لكن كيف يمكن لحركة النهضة الداعمة للديمقراطية و الشفافية أن تلوم الحكومة المؤقتة على سعيها لضمان النزاهة و تكافؤ الفرص بين مختلف القوى السياسية في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي ؟ أم أنّ الحكومة ، بحرصها هذا، حرمتها من فرصة مهمة يمكن أن لا تعاد لكسب الانتخابات و هو ما يفسّر هذا اللوم المتجدد و المستمر؟ خاصة و أنّه في الفترة السابقة لموعد 24 جويلية، لا يختلف اثنان أنّ حركة النهضة كانت الحزب الأكثر تحركا و حضورا مستفيدة من عدم جاهزية الأطراف السياسية الأخرى حتى و إن انتهجت أساليب غريبة عن العمل السياسي (خلاص فواتير الماء و الكهرباء، تنظيم دروس مراجعة مجانية لتلاميذ الباكالوريا…) و حتى إن قدمت آنذاك خطابا منمّقا، مزينا بالمساحيق، خاضعا لعدد كبير من الجراحات التجميلية إذا ما قارناه بخطاب الشيخ الغنوشي في هذا المقال.
ألاّ يحقّ لنا بعد كل هاته النقاط المفصلّة أن نستنتج بطريقة تأليفية عقلية دون الحكم على النوايا أو الوقوع في الحسابات السياسية الضيقة أن الشيخ الغنوشي حتىّ و إن أكّد مرارا على أنه متمسك تمسكا شديدا بالديمقراطية فله فهم مخصوص لها؟ ألا يتضح لنا من خلال أفكاره (لا نواياه )، أنّه يختزل مفهوم الديمقراطية في الإجراء الانتخابي (حتى و إن لم يتوفر في هذا الإجراء حدّ أدنى من النزاهة و التكافؤ) دون المبادئ القائمة عليها من مواطنة مدنية، و احترام لحق الاختلاف و مساواة أمام القانون و عدم توظيف الدّين لأغراض سياسية و ضمان لحرية المعتقد؟ ألا يظهر لنا زعيم حركة النهضة بهذه الرؤية الاختزالية للديمقراطية على شاكلة ما يسمّيه بعض المفكرين” بالديمقراطي الإستراتيجي أو بالديمقراطي كإستراتيجيا le démocrate stratège” الذي لا يرى في الديمقراطية إلا وسيلة للوصول إلى الحكم دون الوفاء لتعاليمها فيما بعد؟
أنا لم أكن و لست و لن أكون ضدّ أيّ تيّار سياسي مهما كان يمينيا، وسطيا أو يساريا أو أعارض أيّ نمط مجتمعيّ مهما كان. لكن من حق الشعب التونسي صاحب السيادة الأوحد و صاحب الكلمة الأخيرة أن يكون على إطلاع على جميع المعطيات السياسية بكلّ وضوح ونقاء بعيدا عن المغالطة حتى يتمكن من أن يختار عن وعي و مسؤولية المستقبل الذي يراه الأفضل.