اختلاف الشعوب من اختلاف ثقافاتها
|بقلم: كريمة بريكي
ممّا وقفت عليه الأنثروبولوجيا الناشئة في القرن التاسع عشر زمن المدّ الاستعماري الأوروبي تقسيم البشر إلى متحضر، وغير متحضر. أو إلى ”متحضر”Civilisé وبدائي Primitif. وإلى متحضر ومتوحش Sauvage الخ، ولعل هذا التفضيل مردّه مختلف المصاعب المنهجية والفكرية التي تورطت فيها الأنثروبولوجيا الناشئة والتي أشار إلى الكثير منها الباحث الفلسطيني ادوارد سعيد في كتابه “عن الاستشراق”.
لنقل أنه ما من شعب لا ثقافة له وما من إنسان لا ثقافة له. فالثقافة في اللغة العربية تعني الحذق في تصور الأشياء، وصناعتها وتَعني أيضا السيطرة أو التفوق في استخدامها وأن كلمة مثقف يصبح معناها نخبويا، وربما طبقيا وقد ينتج عن ذلك إلغاء شعوب برمتها لأنها لا تحذق ولا تسيطر، لا تصنع فهي إذن بلا ثقافة وبدائية أو متوحشة. لذلك لا يمكن أن ننظر الى الثقافة من زاوية معيارية Normative وبالتالي من زاوية قيمية Axiologique
فالمقاربة المعيارية L’approche normative هي المقاربة التي تنظر إلى الوجود من خلال القيمة. سواء القيمة الجمالية (القبح والجمال)، أو القيمة الأخلاقية (الخير والشر)، أو القيمة المنطقية (الصواب الخطأ)، أو القيمة الدينية (الحلال والحرام)، مثال ذلك أن ننظر في عادات الآخرين عامة من منطلق الحلال والحرام عندنا أو من منطلق الذوق الجمالي الشخصي كأن نفضل اللباس الأوروبي على ،’الصاري’ الهندي أو “الجبة” على “الحرام الجريدي” أو “الشاشية التونسية” على “الشاشية الليبية”… هذه المسائل هي فقط مسائل تعوّد وطول مراس يكسب المرء ذوقا مخصوصا ويجعله يَميل إلى هذا الشيء بدل شيء آخر والى هذا اللون بدل اللون الآخر وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأحكام الدينية فهي أيضا خاصة بأمة أو بثقافة وهي إما قبول أو إدانة أما حلال أو حرام وما تحلّه ديانة، تحرمه أخرى وربما يبلغ الاختلاف داخل الديانة الواحدة إلى حدّ التقاتل كما بين الشيعة والسنة في الإسلام أو الكاثوليك والبروتستانت في المسيحية.
هذا النوع من المقاربة المعيارية غير علمي وغير موضوعي وغير كونية بل هي تشكل ضربا من ضروب توزيع الاستحسان والاستهجان بدل الانقطاع لدراسة الظاهرة الثقافية على ما هي عليه وبالصورة التي تلقانا بها في واقع الناس وفي مِراسهم اليومي بصرف النظر عن الحكم لها فليس المطلوب من دارِس البوذية أن يصبح بوذيا أو داعية من دعاة البوذية، ولا أن يصبح عدوا لها، بل المطلوب أن يسعى لفهم البوذية من داخل منطقها وبحسب ضروراتها الذاتية وكأنما هي عالم برمته ورؤية للعالم لا تخلو من معانٍ إنسانية لا نملك إلا أن نحترمها في إطار احترام أهلها.
-فهل يعني ذلك أن احترام الثقافات من ضرورات المنهج العلمي في دراستها؟
يتطلب البعد الإبستمولوجي أن نُقبل على دراسة الظواهر كما هي ودون أن نتدخل في وجودها فنزيّفها أو نتقوّل عليها، إذن نحن مدعوون إلى أن نترك لها الوجود الذي هو لها فنصفها ونحاول الإلمام بمكوناتها حتى إذا استوفيناها قدر الإمكان أو أصدرنا بشأنها حكما يبقى بالضرورة مفتوحا على احتمالات ربما لم ننتبه إليها أو صفات فاتتنا كأن نقول بعد ملاحظة الماء من جميع الأوجه أنه سائل لا لون له ولا طعم ولا رائحة فإذا اكتشفنا يوما ما خاصية جديدة أضفناها أو كأن نُعرف الذهب بصفرة اللون ولين الملمس وصلابة الجسم وعدم قابلية الصدأ حتى إذا اكتشفنا خاصية جديدة أضفناها إلى خصائصه المعلومة من قبل، وهو ما يؤكد لنا أن المقاربة العلمية تبقى دائما منفتحة على المستقبل وهي تتضمن في ذاتها الاعتراف الصريح بأنها ليست تامة ولا نهائية وهي أيضا قابلة للمراجعة والتصحيح أي أن المقاربة العلمية هي بالضرورة مقاربة نسبية وقابلة للإثراء إلى ما لانهاية له
ولعل هذا البعد الابستيمولوجي يبين لنا مصاعب البحث العلمي ويلزمنا بعدم المجازفة بإطلاق الإحكام العامة دون استيفاء شروطها، لأنه يطرح مسالة خطيرة _رغم أنها مسالة كلاسيكية في الحقيقة_ هي مسالة العلاقة بين ما نسميه أحكام الوجود Jugement d’existence، وأحكام الوجوب Jugement de valeur، وهذه المصاعب تكون أكبر وأكثر تعقيدا حين يتعلق الأمر بالظواهر الإنسانية التي هي بطبيعتها متعددة الأبعاد فهي بيولوجية وبسيكولوجية واجتماعية واقتصادية ودينية وتاريخية فكل ظاهرة إنسانية هي ظاهرة شاملة كما كان يقول عالم الاجتماع الفرنسي مارسال موس Marcel Mauss.
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 21، أكتوبر 2022
للاطلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf21