الإشارات الربانية وتحرير العملة التونسية
|منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات والأنباء تتوالى عن الصراع الكبير بين محافظ البنك المركزي وحركة النهضة. كر وفر وتستعر المواجهة في كل مرة يلتقي فيها الشيخ راشد بأمير قطر. ولا يمكن فهم الأبعاد الحقيقية لهذا الصراع دون استكمال المشهد بحدثين هامين. أولهما تصريح الشيخ راشد في الدوحة عشية الانتخابات بعزم الحركة على تحرير الدينار التونسي كليا خلال سنة 2012 مقابل وعد قطري بتوفير وسادة مالية تقدر بـ10 مليار دولار لمساندة هذا التحرير وتأمين مخاطره. أما الحدث الثاني فيتمثل في بالونة الاختبار التي أطلقتها الحركة ومفادها نية السيد حمادي الجبالي تعيين البشير الطرابلسي مكان السيد مصطفى كمال النابلي إبان تشكيل الحكومة. وقد تمكن هذا الأخير، في مواجهة أولى، من تأمين موقعه عبر إطلاق سلسلة من التصريحات والبيانات النقدية تلقتها المعارضة ونجحت من خلالها في تحوير مشروع القانون المنظم للسلط العمومية (الفصل 26) لتصبح سلطة تعيين المحافظ مشتركة بين الرئاسات الثلاث عوض أن تكون من اختصاص الوزير الأول كما كان الأمر في النص الذي اقترحته الحركة.
ولسائل أن يسأل لماذا تريد حركة النهضة وهي المطالبة بتسيير مرحلة انتقالية تغيير محافظ البنك المركزي؟ يبدو أن الحركة تتلقى ضغوطا كبيرة من الولايات المتحدة عبر حليفتها- ذراعها- قطر لفرض تحرير الدينار التونسي وهي ضغوط قديمة مورست على بن علي الذي تفصى منها لفترة قبل أن يذعن للأمر في نهاية المطاف واعدا بتحقيق ذلك تدريجيا خلال خمس سنوات إنطلاقا من سنة 2009 وبموفى سنة 2014 كما هو مذكور ببرنامجه الرئاسي لنفس الفترة. مقابل هذه الضغوط فقد صرح السيد مصطفى كمال النابلي بأنه لا مجال لتحرير الدينار كليا في هذا الظرف الاقتصادي الصعب الذي تتأرجح فيه أقوى العملات العالمية حتى في ظل توفر الوسادة المالية القطرية مفضلا أن يتم التحرير الكلي وفق مراحل مدروسة وعلى أساس اقتصاد قوي ومتماسك -بدلا من الضمان المالي- وهو ما لا يمكن أن يتحقق قبل خمس سنوات في أحسن الحالات.
والحقيقة أن مبلغ 10 مليار دولار يبدو كافيا ونظريا قادر على تأمين عملية التحرير كما أكد ذلك أستاذ الاقتصاد القدير المنصف شيخ روحه، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما الذي يقف وراء هذا السخاء القطري وهل من الصدفة أن يلتقي هذا العطف مع اشتراط تحقيق المطلب الأمريكي؟
حتما يحتاج الإنسان للكثير من السذاجة ليصدق أن حب تونس ومساندة الثورة هي أسباب كافية لتبرير هذا الكرم. وهو ما وقف عليه السيد حمادي الجبالي بنفسه إبان الزيارة الأخيرة لأمير قطر الذي تنصل من الوعود التي قطعها للحركة مكتفيا بتأكيد القرض الذي كان قد وعد بتقديمه لتونس في شهر جويلية عند التقائه بالسيد الباجي قائد السبسي. ويبدو أن الأمير قد ذكر الحركة بالمقابل المطلوب للحصول على دعمه. وبدون سابق إنذار تجمع بعض المنتمين للحركة والعاملين بالبنك المركزي يوم الخميس 19 جانفي 2012 وسرعان ما حولوا المطالب النقابية الغريبة (تمتيع أبناء الأعوان بأولوية العمل بالبنك وإدماج المتعاقدين مباشرة عوضا عن مبدأ المناظرة الذي أقره المحافظ) إلى مطلب سياسي بامتياز يتمثل في إقالة محافظ البنك مع الإشارة إلى أن هؤلاء الأعوان رفضوا المشاركة في الوقفة التي قام بها أغلب زملائهم دفاعا عن إستقلالية البنك في شهر ديسمبر ! قد تكون صدفة !
ويبدو أن المواجهة ستستعر في الأيام القادمة بين النابلي بشخصيته الصلبة والدعم الكبير الذي يحظى به من الفاعلين في الميدان الاقتصادي ومن المعارضة ومن قسم هام من العاملين بالبنك وبين الحركة التي تتعلق بالورقة القطرية بكل جوارحها، خاصة في ظل تدهور الأوضاع في ليبيا، لتحقيق ما وعدت به في برنامجها الانتخابي أو على الأقل شيء من النجاح يضمن لها دخول الانتخابات القادمة بشيء من المصداقية.
ولئن كانت الغاية النبيلة للحركة في النهوض باقتصاد البلاد تلتقي وغاياتها الانتخابية ولا ضير في ذلك، إلا أنه عليها أن تعرف، وأعتقد أنها تدرك ذلك، أن الدعوة لتحرير الدينار كليا ليست دعوة للجنة وأن ما تقدمه قطر هو سم في الدسم. وعليهم فقط أن يتذكروا أزمة التحرير المالي التي عصفت بنمور آسيا سنتي 1997 و1998. يومها كان الديمقراطيون يحكمون أمريكا بنفس الإستراتيجية التي يطبقونها اليوم “الإختراق الناعم” وكسر جرة العسل بدون حروب ولكن بالإغراء وبالمخابرات لتفتيت السلط الوطنية ويضاف لهذه الأسلحة اليوم وزير خزانة شرس يدعى تيموثي جايتنر.
هل يعتقد السيد الجبالي أن قطر ستسلم الوسادة المالية الموعودة لنا دفعة واحدة؟ لندير وفق مقتضيات المصلحة الوطنية عملية التحرير، وهذا هو عين المستحيل. أم أن قطر ستدفع لنا على دفعات في كل مرة يكون فيها الاقتصاد على شفير الهاوية نتيجة لهروب رؤوس الأموال والمضاربات les speculations à la baisse de Dinar وهي من أهم العوارض التي ترافق عمليات التحرير. وفي هذه الحالة ستصبح بلادنا تحت رحمة “أشقائنا القطريين وأصدقائهم الأمريكيين” في إعادة كارثية لسيناريو الإذلال الذي مارسته الولايات المتحدة على نمور آسيا بواسطة البنك الدولي وصندوق النقد.
ولئن كنت أساند الحكومة الحالية في منطق تعبئة الموارد وخاصة منها الخليجية فإنني لا أوافقها في اللعب بالسياسة النقدية التي نجح السيد منصور معلى في ضمان استقلاليتها النسبية وكرسها في القانون المنظم للبنك المركزي لسنة 1958 ودافع عنها المرحوم الهادي نويرة ولو بشيء من المبالغة أحيانا. والتحرير الجزئي(الترخيص المسبق والمنحة القصوى والحساب الجاري بالعملة الأجنبية) المعتمد حاليا في تونس يعتبر أفضل وضعية متناسبة مع اقتصادنا الهش مع ضرورة العمل فقط على التخفيف من الإجراءات والوقت اللازم للحصول على ترخيص تحريك العملة الوطنية لتمكين المتعاملين التونسيين من إنجاز الصفقات التي يعتبرونها ناجحة دون اللجوء لأساليب ملتوية. مع ضرورة تركيز جهاز فعال صلب البنك المركزي يعمل بالتعاون مع الشرطة الاقتصادية ووكالة المخابرات المقترح إحداثها على مكافحة عمليات تهريب الأموال.
ربما يكمن حل المسألة في أن يفهم سادة تونس اليوم أن قطر ليست قدرا لتونس وإنما خيار ممكن من جملة اختيارات وأننا نملك من الأوراق ما يجعلنا نضرب على الطاولة ونفرض عليها رؤيتنا. فقطر ستكسب أموالا في تونس (الديار القطرية في توزر ومصفاة الصخيرة مثلا). وتونس هي بوابتها الأخيرة لكسب شيء ما في ليبيا التي يبدو أنها خسرت فيها الرهان( تحالف الزنتان وعبد الرحيم الكيب والشراقة ضد الصلابي وعبد الحكيم بالحاج). أما الولايات المتحدة الأمريكية فهي أحرص من غيرها على المحافظة على المكانة التي إفتكتها في تونس من فرنسا إثر الثورة وعليها أن تفهم أن عليها أن لا تغالي كثيرا في ما تطلب إن كانت تريد أن تحتفظ بهذه المكانة وإلا فإن فرنسا، ساركوزي وجوبي Juppé اليوم وفرنسوا هولاند على الأرجح غدا، لن تتوانى عن بذل الغالي والنفيس لاستعادة دورها في تونس كي لا تخسر الجنرال توفيق في الجزائر ومحمد السادس في المغرب والإتحاد الأوروبي يساندها في هذه القناعة.
ربما ما يجب أن نفهمه في النهاية هو أن السياسة الدولية لا تحتاج لإشارات ربانية نتهيؤها بل لمعادلات قوة وضعف نحسن قراءتها