حتّى نتحرّر من ثقافة الخوف…
|وصلتني منذ مدّة طويلة رسالة عبر البريد الالكتروني أقل ما يمكن في وصفها أنّها مرعبة. تروي هذه الرسالة “حياة” امرأة بعد موتها داخل قبرها في تفاصيل دقيقة مخيفة حتّى يبدو كأنّ كاتب الرسالة عاشها بنفسه. هذه المرأة ورغم أنّها كانت مؤمنة فإنّها أوشكت أن تتعرّض للعذاب، وبئس المصير، لأنّها كانت تؤخّر صلاة الفجر وفعلا ” سارت أمام منكر ونكير في سرداب طويل حتى وصلت إلى مكان أشبه بالمعتقلات …” وكادت أن تعذّب فعلا لولا هدف الدقيقة 90، إذ جاءها دعاء من ولدها قام بترشيحها إلى الدور القادم، وهي نهاية مفتعلة ذكّرتني بالحلقات الأخيرة لبعض المسلسلات المصريّة الفاشلة.
أغضبتني هذه الرسالة جدّا وقمت بتسجيل”احتجاج شديد اللهجة” لمرسلها (تشبّثا بتقاليدنا العريقة في الشجب والتنديد والاستنكار) إذ اعتبرتها تكريسا لهروب من مواجهة الواقع وإغراق في تفاصيل غيبيّة لا تزيد ولا تنقص (ولو أنّ في الرسالة نقطة ايجابيّة إذ أنّها كتبت بأسلوب سليم يكشف عن موهبة قصصيّة من المؤسف أن تذهب في مثل هذا الاتجاه). ..حكاية عذاب القبر هذه لم تثر في يوم من الأيّام اهتمامي لأنّي أعتبر أنّي لست في حاجة لمعرفة شيء عنها. كلّ ما أحتاج لمعرفته عن مرحلة ما بعد الموت أنّ من يعمل عملا صالحا سيعيش النعيم الأبدي وأنّ من يغلب شرّه سيعيش عذابا أبديّا. كانت حكاية هذه الرسالة ستذهب طيّ النسيان لكنّني فوجئت مؤخّرا بأنّها موجودة مرّة ثانية في صندوق بريدي غير أنّ شخصا آخر هذه المرّة قام بإرسالها ممّا يعني أنّها ظلّت طوال هذه الفترة تتنقل من شخص إلى آخر ولا أتصوّر أنّ كلّ من يتسلّمها تبلغ به “المتعة” حدّا يجعله يرغب في أن يشاركه فيها أشخاصا آخرين بل الأرجح أنّ ذلك يعود إلى خوف من سوء العاقبة خاصة أنّ كاتب الرسالة يقسم “بالعزيز الجبّار”(اختيار دقيق للصفات الإلهية) على من يتسلّم هذه الرّسالة أن يبعثها “لكلّ الموجودين” ولعلّ ذلك يعني تهديدا لمن لم يفعل بعذاب أشدّ من المذكور في الرسالة. بعدها بأيّام قرأت في الركن الدّيني لإحدى الصحف اليوميّة التونسيّة حكاية عن أحد الزهّاد سمع من يتحدّث عن عذاب القبر فخاف خوفا شديدا وركض بعيدا ثمّ وجد بعد ذلك ميّتا (وهي فرصة له ليحيط علما بالجانب التطبيقي لعذاب القبر بعد أن استمع لجانبه النظري). الأسلوب الّذي وردت به هذه القصّة كان لا يخلو من التمجيد والتعظيم من شأن هذا العابد الزاهد المتبتّل الّذي بلغت به التقوى حدّا جعله يموت خوفا لتتماهى بذلك صورة المسلم التقيّ مع الإنسان الخائف المرعوب. الكتب الّتي تتحدّث عن عذاب القبر وأهوال يوم القيامة تباع أحيانا على قارعة الطريق وتلقى إقبالا كبيرا. خطباء المساجد لا يقصّرون في الإشارة إلى عذاب العصاة في الآخرة وحتّى في الدنيا… كلّ هذا وغيره يدلّ على أنّ ثقافتنا موسومة بالخوف والتخويف….
نربّى منذ الصغر على الخوف، الخوف من الله القويّ الجبّار العزيز المنتقم ويحذّرنا آباؤنا من ارتكاب أيّ هفوة ولو كانت بسيطة بدعوى أنّ الله “سيحرقنا بالنار” إن فعلنا. إذا استعملت يدك اليسرى للأكل، حتّى وإن كنت ولدت أعسر، فإنّ ذلك يعني أنّك مثيل للشيطان[1]…إذا أبديت جرأة ونشاطا توصف بأنّك “شيطان” وليس مثيلا له هذه المرّة[2]…نكبر ويكبر خوفنا معنا… عدم طاعة الوالدين، حتّى وإن كان ما يطلبانه بادي التعسّف، عقوق وهو أحد الكبائر. الحبّ معصية كبرى تستنزل غضب الله[3]… إطلاق العنان للإبداع قد يصبح تطاولا على الذات الإلهية يستحقّ سخط الله (وقد كفّر بعضهم أبا القاسم الشابي عندما قال بيته الشهير: “إذا الشعب يوما أراد الحياة..فلا بدّ أن يستجيب القدر” بهذه التعلّة)… أمّا التفكير في تحديث التشريع الإسلامي، حتّى وإن كان ذلك بالاستناد على روح القرآن الكريم ومقاصده، فهو الطامة الكبرى الكفيلة باقتطاع تذكرة مباشرة إلى الجحيم والخلود فيها أبد الآبدين …
كيف يمكن أن تكون علاقتنا بالله إذا كنّا نربّى منذ الصغر على الرعب منه؟ هل يمكن أن نكون مؤمنين حقّا إذا كان الله يقدّم إلينا كجبّار ساديّ يتلذّذ بتعذيب خلقه حتّى على أصغر الهفوات؟ أ ليس الإيمان هو المحبّة الخالصة للّه؟ أ تجتمع المحبّة مع الخوف البالغ درجة الرعب؟ أ ليس الرعب أقوى المبرّرات للوقوع في الكره وبالتالي الخروج عن دائرة الإيمان بما أنّه من الصعب على الإنسان أن يحبّ قامعه؟ أ ليس في هذه النوع من التربية انحرافا عن جوهر الذات الإلهية بما أنّ الله هو كذلك الرحمان الرحيم الغفور التوّاب العفوّ؟ لماذا تنسى هذه الصفات وتظلّ فقط نظريّة ولا تذكر إلا على مضض وافتعالا كما في قصّة عذاب القبر آنفة الذكر؟
إنّ فكرة الخوف المهيمن على ثقافتنا يمكن أن تفسّر، ولو بشكل جزئي، وجود اتّجاهين متضادين ومتطرّفين (وكلّ تطرّف مذموم) في المجتمع اليوم: اتّجاه أوّل محدود جدّا ولكنّه موجود على كلّ حال يتمثّل في البعد عن الدّين الإسلامي سواء كان ذلك باتّباع طريق التنصّر (وقد رأيت مقطعا في أحد المواقع يبرّر فيه أحدهم تنصّره بأنّه وجد الله في الإسلام بعيدا عن البشر، وأيّ بعد أكثر من أن يكون الله قامعا لخلقه، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا) أو باتّباع طريق الإلحاد أي نبذ فكرة الدّين نهائيّا وأعتقد أنه في الحالتين وقع هناك دمج في الأذهان بين ثقافة مصطبغة بالدّين تكرّس الخوف في جلّ جوانبها وتمنع من تحقيق الذات وبين الدّين ذاته ممّا أدّى بأصحاب هذا الاتّجاه أن يهربوا إلى حلّ جذريّ عنيف وتبسيطيّ للغاية إذ رفضوا الدّين (الإسلامي) اعتقادا أنّه تسبّب في وجود هذه الثقافة. أمّا الاتّجاه الثاني الأكثر انتشارا هذه الأيّام فهو”التديّن المفرط” الّذي يمارسه بعض الشبّان بإطلاق لحاهم وارتداء “عرّاقية” وقميص فضفاض والحرص على أن يكون السروال مشمّرا يعلو الكعبين بما لا يقلّ عن 2,5 مم وكذلك بعبوس الوجوه والتذمّر من الانحراف عن “السلف الصالح”. هؤلاء هربوا من الخوف إلى مزيد من الخوف فداووا خوفهم المتولّد من الخضوع لسلطة الخوف إلى الانخراط في هذه السلطة وممارستها ضدّ الآخرين. هؤلاء يظنّون أنّهم امتلكوا الطمأنينة وراحة البال في طرفة عين ولكن ما امتلكوه حقّا هو السلطة، سلطة الاستحواذ على “الحقيقة المطلقة” والتحدّث باسمها وحتّى إجبار الآخرين على الانصياع إليها فتراهم يعظون الفسّاق العاصين (و ربّما قد كانوا منهم بالأمس) بل ويمارسون أحيانا الإفتاء في ثقة المتيقّن من علمه الغزير…
ولا تقتصر آثار هذه الثقافة على إنتاج التطرّف باتّجاهيه، فمثل هذه المواقف تبقى، إلى حدّ الآن فيما أرى، هامشيّة ومقتصرة على عدد محدود من الأفراد ولكن لعلّ خطورة هذه الثقافة تكمن في كونها لا تقتصر على الجانب الديني “البحت” بل تمتدّ لتشمل كافة جوانب الحياة وتؤسّس للاستبداد والقمع في جميع مستوياتها وهو ما يعزى إلى ما يمكن تسميته ” الطابع التأسيسي للدّين” (لعلّها سمة مشتركة لمجتمعات ما قبل الحداثة) إذ أنّ جميع السّلط في المجتمع،انطلاقا من العائلة (سلطة الزوج، الأب) وصولا إلى الدّولة، تستمدّ مشروعيّتها بشكل من الأشكال من الدّين حتّى وإن كانت علاقتها بالدّين لا تعدو أن تكون شكليّة، إذ أنّ النظرة إلى الدّين في هذه المجتمعات لا تعرف الوقوف عند حدود العبادات والغيبيّات بل لا بدّ أن يكون له (أي الدّين) موقف من كلّ ما يحدث في المجتمع، فلا تتأسّس سلطة داخله إلا بمباركته، ففيما يخصّ السلطة السياسيّة مثلا نجد أنّ بعض الدّول “الحديثة” تستند إلى مفهوم الإجماع المأخوذ من علم أصول الفقه (وهو مفهوم غامض لا اتفاق على مضمونه بين الفقهاء وهذا الغموض يستغلّ من طرف من يملك القوّة اللازمة للتحدّث باسمه) لتبرّر قمعها لجميع من يخالفها بدعوى حماية المجتمع من الطغمة الفاسدة الّتي تهدّد “إجماع” المجتمع. وتتعزّز هذه المشروعية إذا كانت السلطة السياسيّة تحتكر الحديث باسم الدّين وذلك من خلال تدويل مؤسسّاته كدور الإفتاء[4] واحتكار وظيفة الإشراف عليه وتعميم الدعاء لوليّ الأمر على المنابر، ولا ننسى أنّ طاعة وليّ الأمر مبدأ متّفق عليه بين جلّ المذاهب على اختلاف أسسها إذ يؤسّسه الشيعة على نظريّة عصمة الإمام (وهي نظريّة يبدو أنّه وقع تبنّيها من قبل أنظمة معاصرة غير شيعيّة) ويؤسّسه السنّة على الخوف من الفرقة حتّى إن كان الحاكم وصل إلى الحكم بطريقة غير شرعيّة إذ يقول الشافعي أنّ أيّ قرشيّ غلب على الخلافة بالسيف حتّى بايعه الناس فهو خليفة[5]. فالعلاقة بين الحاكم والمحكوم في مثل هذه المجتمع لا تتأسّس على عقد اجتماعي عقلاني يقوم على توازن بين حقوق وواجبات كلّ منهما بل أنّ كفّة الميزان تميل بشكل واضح في اتّجاه تكريس واجب الطاعة المطلقة لوليّ الأمر، باعتبارها فريضة دينيّة، بما تعنيه هذه الطاعة من خضوع وامتثال و..خوف، إذ يكون من يعارض هذه السلطة أو يجرؤ على مناقشتها زائغا ضالا مضلا منحرفا عن “إجماع المجتمع” يجب استئصاله للحفاظ على كيان “الأمّة”. لذلك إذا ما تمادى صاحب السلطة في الظلم فإنّ الحلّ هو الصبر “الجميل” على الأذى (فرارا من وصمة الانحراف هذه) وانتظار قد يبلغ الأبديّة لمجيء الحاكم المثالي الّذي تتماهى صورته عندنا مع صورة “المستبدّ العادل”، ذلك المستنير الّذي يمسك بزمام جميع الأمور بيده ويقودنا بعصاه إلى تحقيق الفردوس الأرضي وهذا النوع من الحكم “يفترض إماما معصوما ومالكا للحقيقة بالكشف والإلهام، حكم يفصل بين الراعي والرعيّة ويجعل بينهما نفس المسافة الّتي تفصل راعي الإبل عن إبله”.[6]
نتاج هذه الثقافة إنسان خائف والإنسان الخائف هو إنسان سلبي لا يفكّر ولا يفعل إلا إذا أذن له بذلك، وقلّما يؤذن له… يفكّرون بالنيابة عنه ويفعلون بالنيابة عنه وليس أمامه إلا إحناء الرأس والخضوع وإلا عدّ عاصيا فاسقا مارقا. الإنسان الخائف تحاصره المحظورات الكثيرة فتكبته وتسكته وتلجمه وتغتاله وتجعله يدمّر نفسه ويدمّر غيره ولا يجد طريقا للاحتجاج إلا في اللاشعور[7]. الإنسان الخائف لا يستطيع أن يختار حياته لأنّها محدّدة سلفا بأطر ضيّقة يعدّ الخروج عنها انتحارا اجتماعيّا. الإنسان الخائف إنسان خائر العزم، لا يؤمن بنفسه لأنّه يعتقد أنّ مواهبه ستذهب سدى في ظلّ مجتمع لا يقدّرها بل ويرتاب منها بما أنّ ثقافة الخوف كفيلة بقتل أيّ شكل من أشكال الابتكار والإبداع، أو على الأقلّ حصرها في أضيق نطاق ممكن(ككتابة قصص عن عذاب القبر)، لأنّ الإبداع لا يكون إبداعا إلا إذا كانت فيه جرأة، والجرأة تثير في نفس من تربّى على الخوف أسئلة من قبيل : هل ما سأقوم به حرام؟ هل سيعاقبني الله إن قمت بذلك؟ وسيجيب نفسه في أغلب الحالات بما يمليه خوفه ، فحتّى إن كان العمل “مستساغا” فإنّ القواعد “الشرعيّة” من جنس “عدم الإلقاء بالنفس في المهالك” و”اتّقاء الشبهات” والأمثال السائدة من نوع “اخطى راسي واضرب” و”اللي خاف نجا” ستقوم بعملها. وإن تجرّأ وأبدع فإنّه سيخاطر أن يتعرّض للنبذ من مجتمع مستعدّ لأن يأخذ بأقوال أيّ من الّذين نصّبوا أنفسهم بوّابين للجنّة يدخلون إليها من يشاؤون ويخرجون منها من يريدون والجاهزين على الدوام لإصدار فتاوى التكفير والاتهامات بنشر الفسق والفجور والبحث عن الشهرة الرخيصة وانتهاك المقدّسات ومخالفة النصّ الصريح و”إجماع العلماء” في حقّ أيّ مخلوق يمكن أن تصل به نفسه الأمّارة بالسوء إلى ارتكاب جريمة الإبداع والعياذ بالله !
ومن المشروع التساؤل: لماذا يسود ثقافتنا كلّ هذا الخوف؟ لماذا يفرض علينا أن نخاف؟
لعلّ هذا السؤال يجد جوابه في هذه العبارة للأستاذ علي المزغنّي: ” الخوف شعور من لا قدرة له على مواجهة الآخر”[8]… التقينا بالآخر وعلمنا أنّه “سبقنا إلى الحضارة بأحقاب” كما يقول ابن أبي الضياف فلم نقدر على مجاراته فآثرنا الانكفاء على أنفسنا والاكتفاء بما نعرفه ولا نكاد نعرف غيره وهو ديننا. انكببنا عليه وضخّمنا قشوره وفضلات قشوره واعتبرناها الدّين نفسه، من تمسّك بها سلم ومن حاد عنها ضل… غرقنا في تفاصيل تافهة عن الدّين وتشبّثنا بها وجعلنا منها قضايا مصيريّة (كالحجاب مثلا) واتّهمنا من ناقشها بالتآمر مع الآخر لطمس معالم هويّتنا. نرفع رؤوسنا أحيانا فنجد أنّهم ابتعدوا عنّا شوطا آخر فلا نفكّر في اللحاق بهم بل ننكبّ أكثر على كتب السلف الصالح ونترحّم على زمنهم الّذي كنّا فيه سادة العالم (بل ونعيش في ذلك الزمن) ونظلّ نجترّ آراءهم ونكرّرها ولا نحيد عنها حتّى وإن كانت خرقا أبلاها الزمن ونظنّ بعد ذلك أنّنا تشبّثنا بهويّتنا وبلغنا طمأنينة المتمسّك بدينه…”هكذا نحن، فضّلنا الطمأنينة على مواجهة الأزمة، ولكنّها طمأنينة أفيون وارتياح مؤسّس على تغييب للحاضر وإحضار للغائب”ّ[9]…الخوف في الثقافة السائدة عندنا هوالقيد الّذي يحول دون الانفلات من عقال “هويّتنا الدينيّة”، نربّى عليه حتّى لا نجرؤ على التفكير في التحرّر منها ونحن نراه أمامنا سيفا مشهرا في وجوهنا، وهو سلاح من فقد قدرته على الإقناع ولم يجد له ملاذا إلا الإرهاب والتخويف.
المشكل ليس في الدّين نفسه، بل في القراءة الّتي نحملها عنه، فدلالة نفس النصوص تختلف اختلافا بيّنا بحسب الطريقة الّتي نقرأها بها، إذ أنّ المعنى الّذي يستخلصه المعتزلي من القرآن الكريم ليس هو نفس المعنى الّذي يفهمه الأشعري أو الصوفي من نفس النص، وليس إسلام الغزالي مثل إسلام إبن رشد وما إيمان إبن تيميّة كإيمان الفارابي ولا الدّين عند حسن البنّا هو الدّين كما فهمه الطاهر الحدّاد أو الحبيب بورقيبة… المشكل أنّ القراءة الطاغية اليوم هي قراءة الخوف وهي قراءة تنفي كلّ القراءات وترميها بالخروج عن الدّين وتقدّم نفسها على أنّها القراءة الصحيحة الوحيدة يضلّ من خرج عنها ضلالا بعيدا، قراءة تمنع التفكير خارج دائرتها وترفض كلّ فكر مخالف لها ولا تقبل بالآخر ولا تتسامح مع فكره إلا في أضيق الحدود، قراءة زعمت الالتصاق بالنصّ حتّى “أزهقت” روحه وأهملت حكمته وعزلته عن سياقه وجمّدته في مكانه، قراءة قلّصت الدّين إلى نظام شمولي قمعي يراقب الفرد في أدقّ حركاته وسكناته ويمسك بخناقه ويحاصره بدائرة “الحرام” حتّى لا يكاد يترك له متنفسّا، قراءة تكرّر نفسها منذ قرون وتعجز عن إنتاج الجديد ومع ذلك تزعم لأتباعها أنّها الحقّ الّذي لا محيد عنه وتغرقهم في طمأنينة التأسّي بالسلف الصالح، طمأنينة الأفيون… في حين أنّ الدّين أرحب بكثير من أن يقف عند حدود هذه النظرة الضيّقة…” صحيح أنّ الدّين استعمل في بعض الأحيان لتخدير الشعوب لكن الدّين في جوهره استجابة لحاجة إنسانيّة، وهو يجيب عن تساؤلات عميقة عند الإنسان، حول مصيره وحول علاقة الدنيا بالآخرة وعن عديد الأسئلة الأخرى الّتي تصنع المعنى. وبما أنّ الدّين يستجيب لحاجة إنسانيّة فإنّه يمكن توظيفه لصالح الشعوب وقد أثبتت ذلك العديد من التجارب التاريخيّة الّتي قام فيها الدّين بدور محدّد في تحرّر الشعوب”[10]. ولا يمكن أن يكون الدّين تحرّرا أن اختزلناه في قراءة واحدة تزعم امتلاك الحقيقة وتمجّد الخوف وترهب التقدّم في حين أنّ تاريخنا يزخر بقراءات متنوّعة “ثوريّة” همّشت واضطهدت وقمعت في ظلّ هيمنة ثقافة الخوف، هيمنة لا تجب أن تدعنا ننساق إلى التبسيط الاستسهالي والمماهاة بين الدّين وثقافة تزعم أنّها الدّين…
ورغم أنّ الثورة قد ساهمت في كسر حاجز الخوف وأصبح بإمكان كلّ شخص أن يعبّر بحريّة عن أفكاره، إلا أنّ رواسب الخوف ما زالت باقية في طيّات نفوسنا، قابلة لأن تظهر من جديد، فتحرّرنا (الجزئي) من الخوف ليس محصّنا ضد الانتكاسات…وليست هناك حلول جاهزة لاجتثاث ثقافة الخوف من جذورها ولكن أعتقد أنّ ذلك لا يكون إلا بتعريتها وكشف مساوئها وفضح تهافتها وهو ما يمكن للفنّ أن يقوم في إطاره بدور هام…الفنّ ثورة دائمة على ما هو بال والتزام أزلي بمعانقة المثالي وإدانة متجدّدة للقمع والتخويف والتخدير[11] …ثورة تخيف صانعي الخوف وتكشف عريهم، وما التهديدات الّتي تعرّضت لها الأخت روان بنرقيّة إثر مقالها “من الرئيس الجديد لجمهورية الحزن ” إلا انتفاضة من أصيب في كعب آخيل بعد أن أبصر نفسه أمام المرآة…وكنموذج لدور الفنّ، اخترت في نهاية هذا المقال أن أورد هذا النص الّذي لعلّه يلخّص التربية القائمة على الخوف . النصّ للأديب الراحل إحسان عبد القدّوس ومقتطف من آخر مجموعاته القصصيّة “لمن أترك كلّ هذا؟ “…الحوار التالي دار بين الأب رحمي الّذي صفع ابنته بعد أن ضبطها متلبّسة بـ”الشخبطة” (على الورق وليس على الحيطان) وبين المربيّة سميرة:
“-لا يهم..إنك تجالسينها وتعملين عندي منذ قريب.. وأمامي فرصة لأختبرك.. وعلى كل حال إنّ ضرب البنات هو أحسن الوسائل لتربيتهن..إني أربّي ابنتي على الخوف..يجب أن تخاف منّي حتّى تخاف من أن ترتكب أيّ خطأ..وحتّى تخاف أن تخرج عن طوعي عندما تكبر..
وقالت سميرة :
-هذه أسوأ طريقة لتربية البنات..البنت الخائفة هي البنت المعذّبة..والبنت المعذّبة هي الّتي تلقي بنفسها في أوّل مصيبة تصادفها..
وقال رحمي وهو يلوي شفتيه احتقارا لما يسمعه وربّما احتقارا لسميرة نفسها :
-لقد عاشت أمّها معي وهي خائفة دائما..كلّها خوف..وكانت من أنظف وأشرف وأعقل الزّوجات..
وقالت سميرة برنّة ساخرة :
-ولهذا ماتت..رحمها اللّه..
وتجهّم وجه رحمي أكثر وقال بلهجة حادّة:
–إنها خالفتني وتحرّرت من الخوف منّي بأن ماتت..لم أكن قد سمحت لها بالموت .. وأحطتها بكلّ ما يضمن لي أنّها لن تموت..ورغم ذلك ماتت..وأبشع ما فعلته أن تموت وتركت لي ابنتنا فوزيّة لأحمل همّها وحدي، ودون أن تقدّر أنّي لا أستطيع أن أكون أمّا وإن كنت اعتبر خير أب..
وقالت سميرة وهي تنظر إلى رحمي في تعجّب ودهشة:
–ربّما ماتت من الخوف[12]..”
نشر هذا المقال بمدوّنة “من تحت الرماد تنهض العنقاء ” في أربعة أجزاء تحت عنوان “ثقافة الخوف” صيف سنة 2008.
الهوامش
[1]قرأت في إحدى المجلات العربيّة الموجّهة للأطفال والّتي تعرف انتشارا واسعا أنّ استعمال الشوكة والسكّين بما يعنيه من تناول للأكل باليسرى بدعة غربيّة تبعدنا عن ديننا.
[2] رأيت أمام إحدى المدارس الابتدائيّة فتاة تتحدّث مع أمّ صديقتها بثقة وجرأة نالتا إعجابي فلمّا انصرفت وصفتها هذه الأمّ بـ”الشيطنة” وقلّة الأدب! فالطفل المثالي لدى الأولياء هو”العاقل” أي الخامل المرعوب الّذي لا يجرؤ على التلفظ بكلمة.
[3] أو حتّى ما دون الحبّ، ففي إحدى المرّات عبّرت عن إعجابي بجمال إحدى الممثّلات أمام طفلة من العائلة لا يتجاوز عمرها عشر سنوات فما كان من هذه الأخيرة إلا أن شهقت في استنكار وأسرعت إلى أولي الأمر لتبلغهم بهذه الخطيئة !
[4] انظر في هذا الإطار : أسماء نويرة بن دعيّة، مفتي الجمهورية في تونس: المؤسسّة والوظيفة، تونس، سراس للنشر، 2001.
[5] انظر في هذا الإطار: محمّد الجويلي، الزعيم السياسي في المخيال الإسلامي: بين المقدّس والمدنّس، تونس، سراس للنشر، 1992.
[6] سليم اللغماني، “الحداثة والديمقراطيّة”، في علي المزغنّي وسليم اللغماني، مقالات في الحداثة والقانون، تونس، دار الجنوب، 1994، ص 170.
[7] من المثير للفضول أن يكون سبّ الدّين من الأمور الشائعة في حالات الغضب، أمّا مستويات السلطة الأخرى، فحدّث ولا حرج.
علي المزغنّي، “في الحداثة والقانون”، المرجع السابق، ص. 34.[8]
[9] سليم اللغماني، “استقلالية المستوى القانوني وإمكانية التحديث”، المرجع السابق، ص 48.
[10] القولة لبورقيبة. وردت في: لطفي حجّي، بورقيبة والإسلام: الزعامة والإمامة، تونس، دار الجنوب، 2004، ص. 185.
[11] مسرحيّة خمسون، للفاضل الجعايبي، الّتي عرضت في تونس سنة 2009 مثال جيّد على هذا الدّور. رأيت المشاهدين يخرجون منها باسمين جذلين ، وبعضهم كان يقهقه كأنّه كاد يشاهد عملا بلغ الغاية في الإضحاك، وما ذاك إلا لأنّهم نفّسوا عن أعباء ثقيلة جاثمة فوق صدورهم كابتة إيّاهم وذلك عبر مشاهدة عمل يدين، أخيرا، خمسين سنة من الخوف، وهوما كانوا عاجزين عن فعله آنذاك.
[12] إحسان عبد القدوس، “إلى أين تأخذني هذه الطفلة” في لمن أترك كلّ هذا؟، مجموعة قصصية، القاهرة، أخبار اليوم، 2008، ص ص. 10-11.