هل مات ابن رشد حقّا؟
|في التوطئة التي تحمل عنوان “هل عاد ابن رشد من المنفى؟” في مستهل كتابه “الهجرة إلى الإنسانية”، انطلق فتحي المسكيني من “اعتراف ” طريف ومؤلم في الآن ذاته ألا وهو أن ابن رشد قد مات في ذاكرة العرب مرتين : مرة عندما نفي إلى مدينة اليسانة ذات الغالبية اليهودية بتهمة التآمر على السلطة، وكان هذا التآمر عبر خلق جهاز جديد للحقيقة مستمد أساسا من المنطق الأرسطي ومن الحكمة الإغريقية بوجه عام في مواجهة السلطة القائمة. والمرة الثانية التي مات فيها ابن رشد – وهي أشد ألما – هي اللحظة التي تحول فيها اسمه من ابن رشد إلى افيرواس Averroès، أي اللحظة التي تحول فيها من فيلسوف عربي مسلم حاول أن يفكر في أفق الملة إلى آخر بعيد عنا، مجردا من أية هوية .
لا شك أن نكبة ابن رشد كانت عملا عاما (قوميا) دعت إليه ضرورة سياسية ودينية واجتماعية، ولكن هذا هو قدر كل الفلاسفة الذين حاولوا أن يفكروا في ظل السلط القائمة من سقراط إلى ماركس. ولعل هذا ما ميّز العصور السابقة عنّا. ذلك أن السؤال الذي لا نكف عن طرحه اليوم: لماذا لم يعد لدينا فلاسفة؟ هو سؤال فارغ من المعنى، لأننا فقدنا كل الإمكانات التي يمكن أن يولد فيها الفيلسوف. وهنا علينا أن نسأل أنفسنا بشكل جدي: هل أننا اليوم مستعدون حقا لتقبل فلاسفة جدد؟ يبدو أن الأمر هنا لا يتعلق بمجرد القبول من عدمه، وإنما المسالة تتعلق بكوننا اليوم غادرنا منطقة الخطر، تلك المنطقة التي كان فيها قديما ظهور الفيلسوف أمرا ممكنا،بل أكثر من ذلك يكون من الضروري على الفيلسوف أن يظهر فيها مثلما يشهد على ذلك كامل تاريخ الفلسفة (سقراط، غاليلي، ديكارت، سبينوزا …).
لقد كان ابن رشد في العصر الوسيط مثالا جيدا على قدرة الفيلسوف على المواجهة وعلى جدارته في تدبير المدينة وإدارة شؤونها. وعلى الرغم من انه لم يبتدع نسقا خاصا به (مثل مشروع كانط النقدي أو الجدل الهيغلي …) واكتفى بالشرح والتعليق على أعمال أرسطو حتى نعت باسم ” الشارح الأكبر”، إلا انه كان الجسر الذي عبرت من خلاله أوروبا نحو حداثتها واستطاعت في المقابل تأسيس مسار طويل من العقلانية. و” سيفرح ابن رشد حتما بهذا اللقب ولن يجد فيه استنقاصا من قيمته “، كما يقول المسكيني، باعتبار أن هذا اللقب نقله من مجرد فيلسوف عربي مسلم، ينضوي تحت أفق الملة إلى فيلسوف كوني داخل أفق الإنسانية. ولكن السؤال الذي يستفز عقولنا هو التالي: هل حقا مات ابن رشد؟
ليس من السهل أن نجيب على هذا السؤال خاصة عندما يتعلق الأمر بالحديث على ابن رشد الذي قال عند احتضاره ” تموت روحي بموت الفلسفة “. لا معنى إذن لموت الفيلسوف ما دامت الفلسفة لن تموت، أي مادامت الأفكار لها قدرة رهيبة على الطيران مثلما ينسب إلى ابن رشد نفسه إثر عملية إحراق كتبه.
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 26، ماي 2023.
للاطّلاع على كامل العدد وتحميله: http://tiny.cc/hourouf26