في المسرح الرحباني: “لولو”…انكسار الحلم
|بقلم: حمزة عمر
غالبا ما يتماهى مسرح الرحابنة مع الحلم والمثالية ورفض الخضوع للواقع، حيث يتحوّل الركح إلى مساحة تتشبّث بكلّ قوّة بأهداب الأمل ويصير صوت فيروز لواء المقاومة ضدّ كلّ ما في الواقع من ظلام. غير أنّ مسرحيّة “لولو” التي أخرجها برج فازليان وعرضت لأوّل مرّة بمسرح البيكاديلي ببيروت سنة 1974 تشكلّ أحد الاستثناءات لهذه الصورة، بل أنّ الحلم فيها يخرج مكسورا جريحا تحت أنين الهزيمة.
تبدأ المسرحية بخروج لولو (فيروز) من السجن بعد خمس عشرة عاما قضّتها فيه بتهمة قتل، قبل أن تتّضح براءتها في النهاية. تخرج وتعلن نيّتها في تصميم واضح: المجتمع قبض منها مسبقا ثمن جريمة لم ترتكبها، وبالتالي فمن حقّها أن تقتل من شاءت، باسم تلك الفترة الطويلة في ظلمات السجن. ويسود الهلع أرجاء المدينة، فالكلّ كان قد وقف ضدّها، باستثناء ماسح الأحذية “البويجي” (نصري شمس الدين)، والقاضي نفسه (وليم حسواني) يعلن: قد أدنتها فقط بناء على رأي الأغلبية! كانت لولو تهديدا قبل سجنها، والآن أمست تهديدا أشدّ ضراوة، ولا بدّ من إخماده.
كلّ المسرحيّة تنبني على هذا التهديد، وكيفيّة مواجهته. تقترح زوجة القاضي (هدى حدّاد) في البداية أن لا تُترك لولو لهواها، وأن تختار لها الجماعة من يجب قتله ! يُرسل إليها طبيب نفسي (هاروت ألميان) متخفّيا ليحرّر فيها تقريرا يودعها مستشفى المجانين، وفي مشهد كوميدي، ينكشف أمره بسهولة للولو، بل ويشاركها الغناء. ويحاول أحد السياسيين (جوزيف صقر) استغلال قضيّتها فيزيّن لها قتل خصمه الانتخابي بدعوى أنّ ذلك سيكون حتما لصالح المجتمع.
تواجه لولو كلّ ذلك بسخريّة مبطنة. تعبث بالطبيب النفسي وتساير السياسي وتستعمل الكناية لتوهم الجميع أنّها قتلت البويجي. هو انتقامها الذي يبدو أنّها تسير فيه ببرود صارم لا يقيم اعتبارا لأيّ عقل ولا لأيّ عاطفة، بل أنّها تبلغ قمّة العبثية لمّا تقرّر أنّها ستختار ضحيّتها وفقا للقرعة، ولا تعفي حتّى البويجي، مساندها الوحيد آنذاك، من الدخول في هذه القرعة وتطمئنه قائلة: لا تخف، احتمالية موتك لا تتجاوز نصفا من الألف !
لكن كان فيما بعد للولو مساندون آخرون، وهم “القبضايات”، أولئك الذين يزعمون أنّهم من عتاة المجرمين وأرباب السجون. جاؤوا لتكريم لولو التي عرفت السجن كما لم يعرفه أحد منهم، وشدّ أزرها أمام بقيّة المجتمع، غير مبدين أيّ اهتمام بتبرئتها. تعلّق الأمر بأخوّة بين مهمّشين، بين أولئك الذين نبذهم المجتمع فتحالفوا ضدّه وأعلوا القيم التي نُبذوا من أجلها. المجتمع الذي أدان لولو لغير جريمة ليس له أن يدّعي الفضيلة، ولا أن يرفض الإجرام. لولو تستغلّ الموقف وتنصّب نفسها زعيمة للقبضايات وتوظّفهم لإشاعة الخوف في النفوس. ظلّ البويجي استثناء وحيدا في دائرة المساندين، ذلك أنّه كان منذ البداية على يقين من براءتها، ولم يشكّك فيها، ورغم أنّه ظلّ تحت أمرها في مختلف ما طلبته، فإنّه كان بعيدا عن كلّ دوافع إجراميّة. فقط رغب، وهو الرجل البسيط، أن يساهم في قصّة أكبر منه.
يبدو أنّ الشيء الوحيد الذي ظلّ نقيّا وصافيا لدى لولو هو ذكرى حبّها القديم لنايف (جوزيف ناصيف). رغم أنّه لم يزرها طوال فترة سجنها، إلّا أنّها صنعت منه أسطورة في خيالها مبنيّة على وعده إيّاها بالوفاء إلى نهاية الدنيا، لكن يبدو أنّ الدنيا انتهت عنده لمّا دخلت هي السجن (على حدّ تعبير البويجي)، إذ أنّه تزوّج وأنجب ودخل حلقة المتنفّذين. ورغم ذلك، حاول نايف استمالته إليها مستجديا بالحبّ القديم، غير أنّها كانت أقوى من ذلك حتّى خرج من عندها طريدا مهانا. أبدت صلابة كبيرة في مواجهته، غير أنّها تشارف على الانهيار فور رحيله، وتعلن جنازة حبّها، أو بالأحرى جنازة حياتها، إذ تغنّي “الله معك يا هوانا”.
المشهد الختامي للمسرحيّة لا يخلو من تقلّبات. كانت لولو قد دعت الجميع، بما فيهم من كانوا دائما ضدّها، إلى حفل راقص على شرف جدّها، وخلاله يحاول مجنون القرية اغتيالها، لكنّها تنجح في ترويضه، فيعترف أنّ زوجة القاضي هي من دسّته، ويكثر اللغط ويتبادل الحاضرون الاتهامات، وينفضّ الحفل على صوت المجنون يقهقه صارخا “فلتت الدولة ع الناس”. وتبقى لولو لوحدها مع جدّها فتقول:
خلصت الحفلة
خدني لعندك يا جدي
المجنون إلو حق يحاكم العالم
طيارات رمادية متل الترغل
انفجار القنابل فضي بلون الشمس
ناس بالخنادق.. ناس بالبارات
العدالة كرتون.. الحرية كذب
صار الحبس كبير.. وكل حكم بالأرض باطل
حلّو يطلع الضو…وكاسك يا جدي
كلمات قاتمة ولا شكّ، بل لعلّها الأكثر قتامة على الإطلاق في تاريخ الفنّ الرحباني. حتّى عندما فقدت الملكة ابنتها في مسرحيّة بترا (1977)، لم تخل عباراتها من أمل. هنا ليست العدالة البشرية وحدها موضع التساؤل، بل العدالة الإلهية نفسها تصير محلّ شك. ولم يعد طلوع الضوء استبشارا، بل استفهاما استنكاريا لا جواب عنه. وكأنّنا بلولو إذ تسير رفقة جدّها في نهاية المسرحية قد أعيتها السبل، فلم تجد غير شبح الماضي لتلقي نفسه بين أحضانها. والجدّ كان شبحا فعلا، إذ أنّه لم ينبس بكلمة رغم فداحة الأحداث التي شهدها. قد اختار ألّا يمنح نفسه أكثر من دور المتفرّج.
عكس شخصيّة الجدّ، لا يخلو بناء شخصيّة لولو من استفهامات. مسارها منذ بداية المسرحيّة حتّى قبيل المشهد الختامي تصاعدي، كلّ ما فيه يبدو محرّضا لها على الانتقام لسنوات عمرها المهدورة، وهو ما يدفع للظنّ أنّ الدعوة إلى الحفلة هو من باب الفخّ (شبه المكشوف) الذي تنصبه لولو لمن ناصبوها العداوة. على أنّنا نكتشف أنّ المؤامرة كانت ضدّ لولو لا من قبلها، أي أنّ الدعوة كانت بريئة تماما. هل كان الحفل عنوان صفحها عمّا اقترفه المجتمع بحقّها؟ هل كانت منذ البداية تضمر المسامحة، واختلقت قصّة الثأر فقط من باب إثبات الذات؟ هل كانت تدبّر أمرا وقطعته محاولة الاغتيال؟ لا يمكن الجزم بشيء من ذلك، فقد أهملت المسرحيّة التعرّض لبوادر هذا التطوّر. لكن من المرجّح، بالنظر إلى المثاليات الرحبانية، أن تكون لولو قد اختارت أن تصفح، حتّى مع كونها عاجزة عن النسيان.
هذا الاضطراب في بناء شخصيّة لولو يوازيه اضطراب أخرى في بناء المسرحيّة، وتحديدا في المقاطع المغنّاة فيها. فمن مجمل وقت المسرحيّة البالغ ساعة و45 دقيقة، نجد 27 دقيقة من الأغاني التي لا علاقة لها بسياق المسرحية، أي ربع وقت المسرحية. وإذا كان الرحابنة حرصوا على اختلاق الذرائع فيما يخص بعضها (كما في “سانتا لوشيا” التي تأتي في تبادل التعريف بالمواهب الغنائية بين لولو والطبيب، أو “سهر الليالي” التي تأتي في سياق الحفل المقام على شرف الجد)، فإنّهم أهملوا ذلك في البعض الآخر، بل أنّ بعض الأغاني كانت نشازا على السياق: مثلا، بعد حوار لولو مع السياسي وتسجيلها لاسمه على لائحة القرعة، تفاجئنا بغناء “من عزّ النوم”، ولا نفهم العلاقة بينهما. أمّا ذروة “الحشو المغنّى”، إن صحّ التعبير، فتكون عندما تغنّي هدى حدّاد “يا بيّاعة خديني”…زوجة القاضي، المتسلّطة الباردة المولعة بالمظاهر، تندفع، خلافا لكلّ ما تنمّ عليه شخصيّتها، صادحة بأغنية عاطفية تخلو من أيّ عمق قد يجعلنا نغفر لها حشرها. هذا التشظّي في بنية المسرحية يعتبر تراجعا بارزا، مقارنة حتّى بالأعمال الأولى للرحابنة، وسيستمرّ فيما بعد مع “ميس الريم”.
لعلّ هذا التشظّي انعكاس لواقعه. كانت “لولو” آخر مسرحيات الرحابنة قبل اندلاع الحرب الأهليّة في لبنان التي كانت نُذُرها تبدو شيئا فشيئا. لعلّ تلك المساحات المغنّاة الشاردة كانت بمثابة الواحات المصطنعة داخل مناخ متوتّر، في الواقع كما في المسرحية. غير أنّ هذه المساحات لم تغيّر كثيرا من النظرة المتشائمة الغالبة على هذا العمل: دولة ضعيفة ينخرها الفساد تخضع فيه العدالة للترضيات وتضحي فيه مصائر الأفراد ملهاة عابثة. كانت “لولو” صرخة يائسة أمام مصير محتوم يلفّ بسواده كلّ الأرجاء.