نمط الانتاج المخامسي والجذور التاريخية للتخلف

 


بقلم: فهمي رمضاني

تعد مسألة نمط الإنتاج السائد قبل توطن الرأسمالية ببلدان المغرب العربي، من الإشكاليات التاريخية والاقتصادية التي حظيت باهتمام عدد لا بأس به من   والباحثين، وذلك في إطار محاولة فهم البنى الداخلية للمجتمعات الشرقية قصد بيان أسباب عدم إفراز المجتمعات المغاربية للرأسمالية مقارنة بالمجتمعات الغربية باعتبار أن نمط الانتاج هو المحدد للتاريخ وللأشكال الاجتماعية المتنوعة حسب الماركسيين.

وعلى الرغم من تعدد الأبحاث المتعلقة بهذه المسألة وجدّيتها من إيف لاكوست إلى سمير أمين مرورا بالجابري، فإن المؤرخ التونسي الهادي التيمومي قد نجح في قراءة الواقع النوعي للمجتمعات المغاربية وفهم إشكاليات التخلف من خلال ابتداعه لمفهوم جديد هو “نمط الانتاج المخامسي“ الذي تجاوز من خلاله القراءات الاستشراقية والاستعمارية والتي كانت في جانب كبير منها مسقطة وليست وليدة بحث تاريخي جاد وعلمي. لذلك سنعمل من خلال هذا المقال على التعريف بهذه النظرية (نظرية نمط الانتاج المخامسي) ودورها في فهم جذور التخلف التاريخي ببلدان المغرب العربي كما سنتطرق كذلك إلى أبرز النظريات الأخرى التي حاولت معرفة نمط الانتاج السائد قبل فرض الرأسمالية الغربية.

النظريات المتعلقة بنمط الانتاج

من أهم هذه النظريات، تلك المتعلقة بنمط الانتاج السائد قبل مجيء الاستعمار والتي اعتمدت على المادية التاريخية وعلى الماركسية من أجل فهم هياكل وبنى المجتمع والاقتصاد ونذكر من بينها:

نمط انتاج فيودالي1 خاص

تعتبر الروسية سفتلانا باتسيافا المنظّرة لهذه الفكرة وأبرز المدافعين عنها، اذ ترى أن نمط الانتاج الفيودالي الخاص يتميز بوجود نبلاء يمتلكون الأرض ومزارعين وأقنان مرتبطين إليها قانونيا. ومن أجل السيطرة على الأقنان والاستيلاء على عملهم وإنتاجهم في شكل ريع عقاري، يعتمد النبلاء على وسائل “إكراه لا اقتصادية”.

تعرضت هذه النظرية للعديد من النقد لأنها لا تتلاءم مع الخصوصيات الحضارية والثقافية لبلدن المغرب العربي، اذ لا يمكن الحديث عن الفيودالية للأسباب التالية: فالنبيل الفيودالي في أوروبا كان يمارس على الفلاحين في ضيعته السلطة السياسية والقضائية، كما كان يحتكر نوعية من السلاح: أي أنه كان يمتلك استقلالية مهمة عن الدولة بسبب ضعفها وتفككها السياسي، إذ كانت ممتلكات النبلاء عبارة على دويلات صغيرة مستقلة عن السلطة المركزية. في حين أن الأمر لم يكن على هذه الشاكلة في المغرب العربي حيث لم يبلغ الملّاك العقاريون ما بلغه نظراؤهم في أوروبا الفيودالية من استقلال سياسي حتى في فترات تراجع الدولة.

فضلا عن ذلك، فإن الأقنان في أوروبا الفيودالية حتى وإن لم يكونوا أحرارا فإنهم كانوا يمتلكون أدوات الإنتاج والعمل، كما أن الاستغلال المسلط عليهم لم يكن عميقا مثلما كان الأمر في المغرب العربي. فقد كان القن يعمل أياما على الأرض التي يشرف عليها النبيل وأياما لصالحه الخاص، كما أنه يتمتع بحوافز تشجيعية هامة الأمر الذي جعله يسهم في تحويل النظام الفيودالي إلى نظام أرقى هو النظام الرأسمالي.

نمط الانتاج الإتاوي

يعد سمير أمين أحد الماركسيين العرب الذين أسهموا في تقديم قراءات جديدة للمسائل المتعلقة بالتطورات التاريخية للعالم العربي وعلاقتها بالرأسمالية والعولمة.  ويؤمن هذا الأخير بوجود قوانين أساسية تحكم تطور كل المجتمعات الانسانية منها قانون التطور اللامتكافىء الذي يؤكد على وجود بلدان مركز مهيمنة وبلدان أطراف متخلفة ومهيمن عليها في كل حقبة تاريخية.

 حسب سمير أمين، يتميز نمط الانتاج الإتاوي بعديد السمات منها انقسام المجتمع إلى طبقتين هما: الفلاحون الحائزون للأرض وطبقة حاكمة تحتكر وظيفة التنظيم السياسي وتنتزع من جماعات الفلاحين إتاوات. تهيمن البنى الفوقية حسب سمير أمين على مجتمعات نمط الانتاج الإتاوي حيث يكون للدين تأثير كبير في الحياة السياسية والاقتصادية الأمر الذي يجعلها تتسم دائما بالاستقرار والسكون والركود.

على الرغم من أهمية الجهد التنظيري الذي قام به سمير أمين فإن نظريته تعرضت للكثير من النقد خاصة من قبل المؤرخ التونسي الهادي التيمومي الذي يرى أن نظرية نمط الانتاج الإتاوي هي مقولة ذات طابع تعميمي ولا تنطبق على كل المجالات العربية التي كانت لم تكن خاضعة لنفس السلطة السياسية أو لنفس البنى الاقتصادية والاجتماعية2.

نمط الإنتاج المخامسي: النظرية التي لم يقرأها العرب

يعتبر الهادي التيمومي من بين المؤرخين القلائل الذين أعادوا النظر في مسألة نمط الانتاج السائد في دول المغرب العربي في الفترة التي سبقت الحضور الاستعماري الأوروبي. فقد عمل على ايجاد قراءة جديدة للواقع النوعي الخاص بتاريخ المغرب العربي وذلك من خلال دراسة القاعدة المادية الانتاجية والبنى الفوقية والثقافية والهياكل الاجتماعية من أجل فهم أسباب عجز هذه المجتمعات عن إنتاج الرأسمالية.

بالنسبة لهذا المؤرخ، سيطر نمط الانتاج العبودي (المعتمد على العبيد) طيلة الفترة الرومانية ثم تواصل إلى حدود مجيء القبائل الهلالية وتأسيس الدولة الموحدية حيث أخذت تعتمل في رحم المجتمعات المغاربية بوادر جديدة كانت إيذانا بولادة نمط انتاج جديد سيحدد المصير الحضاري للمغرب العربي وهو نمط الانتاج المخامسي.

يعتقد الهادي التيمومي أن ابن خلدون قد تحسس-وإن بشيء من الضبابية- ولادة هذا النمط الجديد فالإشارات الاقتصادية التي وردت في المقدمة لم تكن وليدة الصدفة وإنما هي نتيجة للتحولات النوعية التي مست القاعدة المادية للمجتمعات المغاربية.  وقد مهدت لنشأة نمط الانتاج المخامسي ثلاثة مؤشرات تتمثل أساسا في تقلص موارد القرصنة نظرا لضعف القوة البحرية المغاربية وتراجعها مقابل الصعود القوي للمدن التجارية الإيطالية (البندقية، بيزا، جنوة) وتكثّف عمليات الاسترداد المسيحي بالأندلس. تراجعت كذلك موارد التجارة الصحراوية، خاصة تجارة الذهب، نتيجة انهيار المدن الداخلية وتحول المسالك التجارية نحو المدن الساحلية الأمر الذي أسهم في تراجع الموارد المالية للدول المغاربية. أما المؤشر الثالث فيتمثل في انتشار الفقر والبداوة والتبدي منذ مجيء الهلاليين وتراجع الفلاحة والعمران وتدهور الاقتصاد الذي أصبح قائما على تجارة متوسطية غير متكافئة مع الغرب اللاتيني.

ولا ريب أن كلّ ذلك سيؤدي إلى ظهور الخماسة وهي عقد فلاحي يهم قطاع الحبوب يتم عقده بين الخمّاس والملّاك العقاري ويمتد هذا نظريا على كل السنة الفلاحية (من سبتمبر الى جوان). وقد تطورت مؤسسة الخماسة نتيجة تقلص العبودية ونقص اليد العاملة التي تسبب فيها الانحسار الديمغرافي الناتج عن وباء الطاعون الأسود.

وقد مرّ نمط الإنتاج المخامسي حسب الهادي التيمومي بمرحلة صاعدة ومرحلة أخرى هابطة. امتدت المرحلة الصاعدة تقريبا من الدولة الموحدية إلى نهاية فترة السلطان الحفصي أبو فارس عبد العزيز (1394-1434) وتتميز هذه المرحلة بتطور قوى الانتاج وازدهار الاقتصاد وانتعاش المجتمع. إذ ليس من باب الصدفة أن ينتج المغرب الإسلامي في هذه الفترة عباقرة في كل المجالات: ابن رشد، ابن باجة وابن طفيل في الفلسفة، الشاطبي في الفقه، ابن خلدون، ابن عذاري، ابن أبي زرع، ابن قنفد، وابن الشماع في التاريخ، الادريسي، التجاني، وابن بطوطة في الجغرافيا. كما شاع في هذه الفترة تأليف الكتب الجنسية مثل كتاب الروض العاطر للنفزاوي  وكتاب نزهة الألباب للتيفاشي الأمر الذي يكشف وجود اندفاع نحو الحياة أنتج حضارة مغاربية في أوج ازدهارها.

و لكن سرعان ما سيدخل هذا النمط من الانتاج في مرحلة هابطة ستكون منعرجا حاسما سيجعل المنطقة تسبح في تخلف مريع إلى اليوم.  وقد اتسمت هذه المرحلة بتعطل قوى الانتاج وانهيارها نظرا لكون نمط الانتاج المخامسي قد ولد “كسيحا“ على حد عبارة الهادي التيمومي أو هو شبه معوق لأنه نمط إنتاج “مغلق“ حيث أن المنتجين المباشرين (الخماسة) لا يتمتعون بأية حوافز تشجيعية وبالتالي يصعب حصول تغيرات نوعية في صلب التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية أي إمكانية التحول نحو نظام اقتصادي أرقى مثلما كان الأمر مع أوروبا الغربية.

وبذلك يمكننا أن نفهم جذور التخلف الكامنة في طبيعة نمط الإنتاج المخامسي،“فالعمال الخمّاسة كانوا يعملون وفق مبدأ المجهود الأدنى“على حد عبارة الهادي التيمومي وبذلك لا يمكن أن تنتظر منهم أيّ زيادة في الانتاج أو أي تغيير في صلب القاعدة المادية.

يمكن إرجاع عدم تحمس الخمّاسة للعمل وللتغيير للأسباب التالية حيث كان الخمّاس خادما ومولى لسيده وليس هناك فرق جوهري بينه وبين العبد، لذلك كان من مصلحة الخمّاس بذل أقل ما يمكن من الجهد وبالتالي فإن هذه المؤسسة لا يمكن أن تؤدّي إلا إلى ركود الانتاج وتدهوره.

زيادة على ذلك، فإن “الطابع التغييبي“ للملاكين العقاريين بدول المغرب العربي جعلهم على حد عبارة الهادي التيمومي “مستقلين اقتصاديا“فهم أصحاب ريوع عقارية يستنكفون من متابعة العمل الفلاحي الذي يعتبرونه “معاش المستضعفين“كما أنّ استهلاكهم غير منتج، ولا ريب أن المثل الشعبي التالي يلخّص ما كنا بصدد شرحه: “اخدم يا خمّاس يا تاعس على الراقد الناعس”.  وعلى عكس الخمّاسة الذين كانوا مضطهدين الى أقصى حد ويعملون طوال السنة الفلاحية، فإن الأقنان في أوروبا الفيودالية كانوا يتمتعون بحيازة الأرض ولا يعملون إلا أياما فقط لفائدة النبيل ويخصّصون الأيام المتبقية لحسابهم الخاص.

لا ريب أن كل هذا سيؤدي الى تراجع قوى الانتاج وانهيار الاقتصاد وانتشار الفقر وبالتالي الدخول في مسار الانحدار والتخلف وقد تجلّى ذلك من خلال سيطرة المذهب المالكي نهائيا وغياب التجديد والاجتهاد حيث تحول التعليم الى تدريس للجهل خاصة بعد محنة ابن رشد. أما حصيلة الرحلات الجغرافية للرحالة المغاربة فقد كانت سلبية، إذ لم يجن منها أي فائدة اقتصادية أو علمية أو تقنية على عكس الرحلات التي قام بها الأوروبيين (كريستوف كولمب، ماجلان، فاسكو دي قاما …) التي ستفتح لهم عوالم جديدة وتكون سببا في تراكم رؤوس الأموال وانهيار النظام الفيودالي.

كما أن الأوبئة المتواصلة والدورية حولت المنطقة (المغرب الإسلامي) إلى “منطقة ضغط ديمغرافي منخفض“ على حد قول الأستاذ محمد الطالبي. دون أن ننسى كذلك بداية التفوق الأوروبي ثقافيا (ظهور الحركة الانسانية والبوادر الأولى للنهضة الأروبية) وسياسيا (بدايات ظهور الدولة القومية وتراجع الامبراطوريات القائمة على الدين) واقتصاديا (تراجع الفيودالية  وبداية ظهور الرأسمالية).

  

نعتقد أنّه لا يمكن فهم جذور التخلف بدون العودة الى البنى المادية والتشكيلات الاجتماعية والاقتصادية التي تكشف عن طبيعة نمط الانتاج السائد. فنمط الانتاج المخامسي هو نمط انتاج مغلق أعاق إمكانية التطور نحو الرأسمالية أو إمكانية تطوير قوى الانتاج لتحقيق التقدم والإقلاع الحضاري.

كما يتوجب علينا كذلك البحث في الأبنية الفوقية للمجتمع (سيطرة الدين، الاستبداد الشرقي، العزوف عن السيطرة على الطبيعة) من أجل فهم أدق لإشكالية التخلف التاريخي خاصة وأننا نعيش اليوم في خضم سياقات تاريخية لا تختلف كثيرا عما عشناه في الماضي ولعلّ ذلك هو المقصد الرئيسي من العودة للتاريخ.

ورد هذا المقال ضمن مجلّة حروف حرّة، العدد الأوّل، صص. 10-12

 كامل العدد متاح للتحميل على الرابط التالي: 
https://tounesaf.org/wp-content/uploads/2021/03/Hourouf-Horra-01.pdf

الهوامش

1 سنعتمد مصطلح الفيودالية Féodalité بدل مصطلح الاقطاعية لأنه الأدق علميا

2 أنظر كتابه المعنون Le Maghreb pré-moderne : généalogie d’un retard historique.

 

المراجع الأساسية

 

  • التيمومي (الهادي)، الغائب في تأويلات العمران البشري الخلدوني، تونس، دار محمد علي الحامي،2007.
  • التيمومي (الهادي)، الاستعمار الراسمالي والتشكيلات الاجتماعية ما قبل الراسمالية: الكادحون الخماسة في الأرياف التونسية (1861-1943)، جزءان، دار محمد علي الحامي وكلية العلوم الانسانية والاجتماعية بتونس، 1999.

 

 



Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights