العمامة العلمانية: أحمد القبانجي… رحلة بين ثورتين
|بقلم: أنيس عكروتي
منذ عشر سنوات، انتظمت سلسلة من المحاضرات في إطار “مجلس ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد” خلال شهر رمضان وكان ضيف الليلة الثالثة استثنائيا: رجل محمّل بمجموعة من الثنائيات المتصارعة، يرتدي زيّ رجل دين شيعي بعمامة سوداء في دلالة على اتصاله بنسب الرسول محمّد ولكنّ أفكاره تقطع مع الإسلام التراثي الأصولي، إسلام ينظر إليه كعائق حقيقي أمام بناء دولة علمانية ليبرالية تساوي بين جميع مواطنيها ولا تفاضل بين أحد وأحد على أساس الدين والمذهب والعرق والجنس والميول الجنسيّة الخ..
ما يدعو إليه القبانجي ربّما يتمّ تفهّمه أو على الأقل لا يثير الاستغراب عندما يصدر عن سياسي أو مفكّر لا يوحى مظهره الخارجي بأيّ علاقة بالتديّن الشكلي، لكن أن يأتي على لسان شيخ معمّم فهذا يثير جدلا كبيرا وربّما تعتبره شخصيّات دينيّة تقليديّة بمثابة الطعنة في الظهر خاصّة أنّ القبانجي سليل عائلة دينية معروفة وخريّج الحوزة العلميّة في النجف الأشرف، بل أنّ أخاه صدر الدين القبانجي إمام جمعة النجف أفتى بأنّ أفكاره ضالّة وأنّه “منحرف العقيدة والفكر”.
العداء المعلن بين زعيم التيّار الليبرالي الإسلامي والحوزات أمر مفهوم، فالقبانجي إلى جانب إيمانه بقيم العلمانية والمواطنة فإنّه يركّز بشكل كبير في أفكاره على نقد العقل التراثي الشيعي الإمامي. فهو يصرّح في كتابه “خلافة الإمام علي بالنص أو بالنصب” أنّ صهر النبيّ والشخصيّة المحورية في التشيّع الإمامي لا يتمتّع بأيّ أفضليّة على بقيّة الصحابة في خلافة محمّد. كما يعتبر أنّ الإسلام الذي يرى نفسه فيه ليس ” دينا ودولة” (العبارة التي نُقلت على مؤسس الإخوان المسلمين والتي تلخصّ الانصهار بين الدين والسياسة) فكلّ ما يخصّ شكل نظام الحكم ومضمونه هو أمر دنيوي يتدبرّه الناس ولا علاقة له بالدين.
هذه أفكار تصدر عن شخص هو ابن المؤسسات الدينية التقليدية الشيعية وممّن انخرطوا مبكّرا في الدفاع عن أفكار الإمام الخميني ودولة الولي الفقيه. فالقبانجي الذي غادر العراق متوجّها إلى إيران، قاتل سابقا ضمن صفوف فيلق بدر إلى جانب القوّات الإيرانيّة ضدّ قوات بلده العراق خلال حرب الخليج الأولى وكان عضوا نشيطا في الباسيج (قوّات التعبئة الإيرانيّة).
من المفارقات أنّ “إيران الثورة”، التي لجأ إليها هربا من “جحيم البعث” والتي تمثّل في نظره الجمهورية الإسلاميّة النقيّة أو “حلم الأنبياء” كما وصفها محمد باقر الصدر أحد أبرز مراجع الإسلام السياسي بشقيّه الشيعي والسنّي، اعتقلت القبانجي سنة 2013 قبل أن يتم الإفراج عنه بضغط شعبي عراقي.
بعد سنوات خاض فيها عدٍة معارك وقاتل ببسالة لإعلاء راية الثورة الإسلامية وتصديرها إلى بلده وبقيّة الدول العربية، يخوض اليوم القبانجي معارك من نوع آخر فهو الذي يشنّ حربا بلا هوادة على الإسلام التقليدي الأصولي بأحزابه وشخصياته الدينية ونظمه الثيوقراطية، ويحمّل هذا التيّار مسؤولية لفظ عدد كبير من الشباب للإسلام رفضا منهم للاستبداد الديني وفرض نمط مجتمعي منغلق.
ويقول في إحدى محاضراته أنّه: “لا يزال مع جوهر الثورة وحلمها، لكن الجمهورية الإسلامية فشلت في تحقيق حلم الثورة ورسالتها، وهي تقدّم الآن إسلاما فارغ المحتوى، فهي لم تحدث تغييرا في روح الإنسان بل انساقت مع قشور وركزت على القضايا الشكلية مثل الحجاب، اللحى، منع الخمور، أمّا جوهر الإنسان فقد انسحق في خضم الصراع على السلطة وتنامي الاستبداد. “
حلّق طيف القبانجي في سماء النجف وكربلاء إحدى أبرز قلاع المؤسسة الدينية الشيعية حين تظاهر الشباب العراقي رفضا للإسلام السياسي ولفشل الأحزاب الدينية في بناء دولة قادرة على النهوض بالبلد، حتّى أنّ إحدى المتظاهرات في النجف الأشرف رفعت لافتة تحمل دعوة لقيام دولة علمانية!!
القبانجي بأفكاره الجريئة وتجاوزه لمربّع الاجتهاد والتجديد الديني، يثير جدلا متواصلا في وسائل التواصل الاجتماعي، وهو تجسدّ لالتقاء المفارقات فكما نجد فيه الفيلسوف ابن رشد بعقلانيته نجد فيه الشيخ محي الدين ابن عربي بعرفانيته فضلا عن شكله الشبيه برجال الدين وأفكاره العلمانية.
فهل ما يطرحه القبانجي من أفكار يساعدنا على بناء جسور متماسكة بين الدين كمكوّن ثقافي مهمّ والعلمانية كضمانة لبناء مواطنة حقيقية؟ وهل أنّ أفكاره تساهم فعلا في الانتقال من مواطنة دينية منغلقة على الآخر إلى مواطنة مدنية تستوعب الجميع؟
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد الثامن، أكتوبر 2021، ص. 3.
للاطلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf8