قراءة في رواية “جزيرة الأشجار المفقودة” لألف شفق: بحث عن هوية أم تعميق للهاوية؟
|بقلم: رجاء عمّار
لا تستسهل ألف شفق الكتابة ولا تتّخذها وسيلة للتنفيس من أجل استمتاع شخصيّ ضيّق الرؤى، إذ نلمس ذاك البحث المطوّل في الكتب التي اشتغل أصحابها على الموضوع الذي تودّ التركيز عليه، ولا يتوقّف الأمر عند مصدر واحد، وإنّما تحرص على التنويع بين معارف علميّة وتاريخ وثّقه أهل الاختصاص وآخر زخرت به الأسطورة إضافة إلى الموروث من العادات، وتمزج كلّ هذا الزاد بنفسها الإبداعي الذي وإن ميّزها، فاعتماده دائما دون محاولة للتجديد، سيغيّر وجهة المراد، فالبصمة الشخصيّة للمبدع لا تعني أنّه يلجأ إلى ذات الأسلوب ويطرح نفس القضايا وإن أضاف إليها أخرى، ولقي مجهوده إعجابا ورواجا كـ”ماركة مسجّلة”، وبما أن الكاتبة ذائعة الصيت فرواياتها تتمتّع بقيمة تسويقيّة مضافة، وهو ما يجعلها مسؤولة أكثر كي تنوّع وتجعل لكلّ أثر سردي بصمة خاصّة أو على الأقل علامة فارقة.
الشجرة تعرف وتحسّ وتتذّكر، هذا ما أرادت الكاتبة أن تؤكّده في الرواية، وعدم استيعاب البشر – كمخلوقات كلامية أساسا- لغة النبات، فذاك لا يعني أنّها لا تتواصل وتتفاعل بطريقتها في الواقع، وللشخصيّات الحقّ في فعل ما تشاء خيالا مع احترام خصوصيّة عالمها وما يحكمه من منطق تتميّز به، كما وجب أن تحسن التعامل مع بقية عوالم الرواية للمحافظة على السلاسة السرديّة.
تتذكّر الكاتبة ذلك، فتحاول الاستدراك في قفلات الفصول التي تتكفّل فيها شجرة التين بالسرد، تفتّش عن رابط وإن لم يتّسم بالمتانة، معوّلة على انشغال القارئ العاطفيّ، مقدّمة له منفذا ما، انفراجا، تعقيدا تشويقيّا، ليتغاضى عن عدم ارتقاء الوصل إلى مستوى الجودة إقناعيّا -كأن تعرف بعوضة اسم من قَرَصَته وتواتيها فرصة أن تحدّث من يهمّه شأن صاحب هذا الاسم-، وغيرها من شقوق سدّت لمجرّد تلفيق الرأب وكفى… غير أنّه يبقى جليّا، والسبب هو أنّ الرواية مشروخة، وهو ما يفسّر أمورا كثيرة، من بينها عدم موازنة الكاتبة بطريقتها السرديّة التي اختارتها، بين الشطرين الرئيسيين، هذه الموازنة أدنى سمة مقبولة، فالأحسن السعي إلى التكامل كيلا يلاحظ القارئ تصدّعا وإن طفيفا.
لا يمكن إنكار الجهد المبذول في الرواية للتحسيس والدفاع عن القضية البيئيّة كموضوع مركزي تفرّعت عنه مسائل أخرى لا تقلّ أهميّة، إن لم تمثّل العامل الأبرز فيما يشهده كوكب الأرض من خراب، والمقصود، في هذا السياق، الحرب بمحفّزاتها وأحداثها ونتائجها التي تبقى مضطرمة وإن خمدت نار الاقتتال.
يكمن المشكل السردي -ربما- في انصباب الهمّ على القضايا وهي كثيرة، وهو ما جعل الاهتمام بجودة الحبكة لا يحافظ على نفس مستوى الكفاءة، فرغم أهميّة الفكرة الرئيسيّة في الوقت الراهن تحديدا وعمق الأفكار المطروحة، إلّا أنّ الكاتبة لم تجعل من نصّها جوهرة دون شوائب، بل حين يقلّبها القارئ قد يزعجه الوميض الطاغي في عرض المعلومات دون تشذيبها أو جعلها فصوصا لهذه الحلية التي متى لمسها الذهن في بعض المواطن تخلخلت وتناثرت، فيغيب شرط أساسيّ للاستساغة، وهو عمليّة إدماج المعلومة في النسيج الحكائي وجعلها منسجمة كأنّها جزء منه.
إذن، تمّ اتّخاذ النصّ وسيلة لا غاية، فالهدف هو المهمّة التي اضطلعت بها التينة، فجاءت فصولها أقساما من تقرير بيئي تحسيسي، أمّا الباقي فثانوي، لا جدّة فيه رغم طابعه المستميت في الدفاع عن الاختلاف ورمزيّته مهما كان السياق، وهو ما اعتادت الكاتبة طرحه في أغلب رواياتها، فلا تخلو نصوصها من المناداة بحقّ المر أن يحبّ شخصا من ذات الجنس، ويتّسم الشخصان دائما بخصال حميدة ويقدّمان العون ولا يسيئان إلى أحد… أي اعتماد ذات منهج الدفاع، فكأنّهما ملكان بين البشر الذين من بينهم من يرفضهم فقط لأنّهما “شذّا عن قاعدة”، إضافة إلى أجواء العرافة والاعتقاد في القوى الغيبية -كالعادة، هناك طرف مؤمن وآخر يعقلن ويعارض- ومسألة الأديان.
يتبوّأ التفكّر في هذه المواضيع مرتبة الضرورة إذ لا بدّ من جعلها حاضرة في محاولة لدفع العقليّات أن تتخلّص ممّا خزّنته من رفض يولّد الكراهية والتعصّب، إلّا أنّه وجب تنويع أساليب الطرح، حتى لا تغدو الروايات مجرّد نسخ، وإن تغيّرت الشخصيّات والظروف، فهي تعالج المشاكل بذات الرؤية، أما في السياق الحالي لهذه الرواية، كان همّ الكاتبة وشاغلها هو شطر التينة أما الشطر الآخر فاسترضاء للقارئ الانفعالي العاطفيّ المحبّ للسيناريوهات الهوليودية، وإن حفظ مضمونها وعرف إلى ما ستؤول إليه الأمور، وهي بذلك أضرّت بقضيّتها بهذا التوجّه الذي اتّبعته، فلن يعنيه الشجر ولا الحيوان ولا الحروب ولا المقابر الجماعيّة ولا الأوبئة ولا من فُقد: المهمّ أنّ العلاقة بين الأب وابنته سرى فيها التفاعل من جديد فيغلق الرواية “فرحا مسرورا”، ولعلّها الرغبة في الإبقاء على شقّ تتسلّل منه نسمة حياة خالية من دسم العبث ودون ألوان مطابقة لطبيعة الوجع.
يمكن اعتبار الفصل الأوّل تلخيصا للرواية إذ تضمّن مآل الأحداث، وهو كشف مجانيّ لأسرار الحبكة السرديّة، ما أفرغ رحلة التشويق اللاحقة من جدواها، إذا تمّ تحديد المصير والبتّ في مرافئ الوصول، يغدو الجري مصحوبا باللهاث ادعاء لتعب لا موجب له، والسعي إلى الإنقاذ وهم لن ينطلي ما دام الغرق قضاء، كما لم تتّسم هذه البداية بالقوّة التي تنجح في استنفار لهفة الاطّلاع بل هي منفّرة، وقد لا يجتازها القارئ ليكتشف ما حوته الفصول من ثراء -بغض النظر عن تلك الجمل-الشعارات المتداولة حدّ فقدانها الكفاءة الدلاليّة، وهو ما نستشفّ أنّ الكاتبة تعيه، غير أنّها لا تجد مهربا ملائما، وتكرّر الجمل ذات الصبغة الحكمية التي أكّدت إحدى شخصيّاتها أنّها فقدت مفعولها ولا تمثّل حلّا لمجابهة الواقع، فما الذي يمكن استخلاصه من هذا الاعتراف الضمنيّ إذا ورد من مبدع يُنتظر منه شحذ القريحة أو التنقيب فيها كي يقدّم خلاصة جهد مغاير للمعهود؟ هل هو الإفلاس فكرا وأسلوبا؟ هل انهار منجم اللغة وما بقي سوى حجارة الكلام يرصّفها كلّ على هواه معتقدا أنّ فعله هذا إبداع؟ هل هي دعوة صريحة للتسليم بعدم وجود وجه للرمز لم يتمّ اكتشاف ملامحه بعد؟
نأى العنوان عن اعتباره خيارا موفّقا، فهو لا يعدّ التغريدة البليغة التي تتغنّى بكلّ ما ورد في الرواية، ولا شدوا مشوّقا للاطّلاع ولا زقزقة حيرى، وإن كمن فيها الاستفهام عن هويّة هذه الجزيرة التي فقدت أشجارها، وهي التي عانت أكثر من هذا الفقد، الذي وإن اتّسع رمزيّا فهو يضيق، لأنّ الاهتمام تركّز على الجذور والجذع والغصون، وبقيت الأوراق مهملة ملقاة تذروها ريح السرد الذي تجاهلها وأكرمها بقسوة اللامبالاة.
قد لا يكون الأمر ذا بال بالنسبة لكاتبة اسمها يكفي كي يتهافت القرّاء على جديدها، مهما عنونته، ببصيرة مبهورة بكلّ ما تقدّمه، إذ تعدّ جميع النصوص -قديمها وجديدها وما سيكتب- عملا لا يمكن التشكيك في فرادته، بما أنّه من تأليف “فلانة” فتلك ضمانة “اقرأ وعيون فكرك مغمضة””، وهو ما لا ينتمي إلى منطق العمليّة الإبداعيّة التي تشهد أطوارا مختلفة، فقد يرتقي الكاتب بمستواه وقد يتقهقر إذ يقدّم نصّا بمنسوب إبداعي ضئيل أو يكرّر ما سبق وطرحه، ويظلّ يدور كصوفي في ذات الدائرة دون أن تنجح قريحته في التحليق إلى عوالم أخرى ويكتفي الجناح المفرود بالرفرفة.
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد23، فيفري 2023
للاطلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf23