قراءة في فيلم الجايدة
|بقلم: أنيس عكروتي
يعود بنا الفيلم إلى منتصف خمسينات القرن الماضي إبان الاستعمار الفرنسي لتونس، أحداثه تدور في ثنايا وأزقة مدينة تونس.
بدأ الفيلم بمشهد يجسّد الخيانة الزوجية، المشهد كان صادما جدا للزوجة المتضررة بفعل غدر زوجها ومشاركة أختها الوحيدة في الجريمة.
معاناة هذه السيدة لم تتوقف هنا بل تواصلت فيما بعد من خلال التجني عليها ورميها في ” دار جواد ” (وهو المكان / الظاهرة الاجتماعية الذي سيتمحور حوله جانب كبير منه أحداث الفيلم كما يدل عنوانه).
ثم تنفرج أزمتها (وأزمة المرأة التونسية المضطهدة عموما) في آخر مشاهد العمل مع إصدار مجلة الأحوال الشخصية في 13 أوت 1956 التي قضت بإلغاء ” دار جواد ” وقامت بعدة إصلاحات منصفة للمرأة وقتها مقارنة بما كانت تتعرض من جور.
سلمى بكار وهي المعروفة بنشاطها الحقوقي والنسوي جسدت من خلال هذا الفيلم، عدة مظاهر من تسلط المجتمع الذكوري على المرأة باعتبارها الحلقة الأضعف مجتمعيا.
دار العقاب أو كما سميت بدار جواد جمعت داخلها نساءً ينتمين إلى شرائح اجتماعية وعمرية مختلفة ولكن يتشاركن في المعاناة.
فمن السيدة المثقفة ذات النسب (التي ضحت بمسيرتها الأكاديمية من أجل الاعتناء بأطفالها وزوجها البرجوازي سليل العائلة العريقة) والتي رفضت الركوع تحت أقدام زوجها الخائن إلى السيدة التي تشكو من ضعف زوجها أمام تسلط حماتها والشابة التي عاشت طفولة خالية من العطف والحنان ثم وجدت نفسها محبرة على الزواج بشيخ عجز عن إشباع عواطفها إلى الفتاة التي أحب قلبها شابا مناضلا ضمن الحركة الوطنية أصيل الشمال الغربي (باجة تحديدا) ولكن علاقتها به جوبهت برفض خالها ” البلدي ” الذي يرى في غير سكان العاصمة أشخاصا لا يليقون بمقام العائلة، إضافة إلى علاقته الوطيدة بالحكم المتجانس حينها مع سلطة المستعمر إلى الفتاة المتشردة دون سند عائلي إلى الفتاة ذات البشرة السوداء التي عوقبت لأنها أحبت رجلا أبيضا (وهنا إشارة إلى العنصرية رغم السبق التاريخي التونسي في الغاء الرق)
تتعدد مشارب النساء وهواجسهن ومشاكلهن، ويصل الخلاف بينهن (داخل دار جواد) إلى إسقاط الفروق الاجتماعية ثم سرعان ما يعين بأن معانتهن واحدة ومن الضروري أن يتلاحمن للدفاع على حقوق المرأة التونسية.
هذه المرأة التي لم يقتصر التسلط عليها من طرف الزوج أو الاب أو بقية أطراف العائلة، بل شمله إلى مؤسسة الحكم والمؤسسة القضائية المرتكزة على رجال الدين أساسا (شيخ يمثل المذهب المالكي وآخر يمثل المذهب الحنفي) وهي إحالة على التحالف بين السلطة السياسية والمؤسسات الدينية التقليدية ضد إسناد أي حقوق مشروعة للمرأة التونسية حينها.
هذه المؤسسة الدينية الرسمية تسلطت حتى على مفكرين وإصلاحيين نبشوا في هذا الموضوع وتصدت لهم بكل شراسة، وحرضت عليهم حتى عامة المجتمع التونسي تحت عناوين أخلاقوية.
بالنسبة للجوانب التقنية والفنية، الموسيقى التصويرية عبرت بشكل كبير على تلك الفترة وعلى الخصوصية التونسية.
بالنسبة للتقنيات السينمائية لفت نظري التركيز (خاصة في بداية الفيلم) على تصوير حركة الساقين أثناء المشي في دلالة رمزية على رغبة المرأة في التحرر والانعتاق من السجن الكبير التي تعيش فيه.
بالنسبة لاختيار أسماء وألقاب الممثلين والممثلات، أعتقد أن إدارة العمل وفقت في هذا الجانب خاصة من حيث تبيان الفروق الاجتماعية خاصة بين الحضري والريفي.
الملابس كذلك تم اختيارها بعناية ومن الواضح أنه تم بذل جهد كبير في انجازها.
ملاحظة أخرى لافتة للانتباه هي المتعلقة بالاغلبية النسائية سواء في عدد الممثلات أو حتى في إدارة العمل من تقنيين وفنيين. وهذا ربما يعكس الطابع النسوي للفيلم والقضية الأساسية المطروحة.
أما الأداء التمثيلي، فكان في مستوى عال من الحرفية والدقة ولم نلحظ فروقا كبيرة بين أصحاب وصاحبات التجربة التمثيلية الكبيرة والممثلين والممثلات الشباب وهذا ما يعكس تأطيرا جيدا للممثلين وروح التعاون والانسجام داخل المجموعة.
خلال الفيلم نجد مرواحة بين النسق السريع والتشويق، وجمود الأحداث والملل والسقوط في الروتين اليومي (ربما بسبب تكرر فصول المعاناة نفسها بشكل متواصل ومماثل).
الإطار المكاني كان ضيقا وحتى مضمونيا تم التركيز على القضايا المجتمعية النسوية أساسا (رغم الاشارة في بعض المشاهد إلى مظاهر النضال ضد المستعمر).
حتى عندما تم وصل صورة المرأة بالمشاركة في معركة التحرير الوطني تم الاكتفاء بمشهد واحد يجسد مظاهرة نساء تونسيات يطالبن ببرلمان وحكومة وطنيين.
وهذا يمكن تفهمه قياسا على أن سلمى بكار أرادت التركيز على الاضطهاد المجتمعي الذي تعاني منه المرأة التونسية.
شخصيا، لم أشاهد عملا تطرق لدار جواد باستثناء بعض المشاهد في مسلسل عنبر الليل (انتاج مؤسسة الاذاعة والتلفزة الوطنية، اخراج الحبيب المسلماني). عموما نجح الفيلم في ايصال جانب من معاناة نساء تونس في تلك الحقبة الزمنية خصوصا ونحن في حاجة لعدة أعمال فنية تعتني بتاريخ تونس القديم والمعاصر، في انتظار انتاجات سينمائية تونسية أخرى في مستوى جيد، تدعم قدرتنا على المنافسة العربية والافريقية ولما لا العالمية.