بلادنا التي نكتريها…
|بقلم: حمزة عمر
يروى أنّ أحد السيّاح القادمين إلى بلادنا قال بعد أن عاين التناقض بين جمال المكان وقبح فعل سكّانه به “عجبا لكم !كأنّكم تكترون بلادكم”.
ولعلّه لا يوجد أصدق من هذه العبارة لتصف علاقة من يسكنون هذه الرقعة من الأرض ببلادنا، حتّى وإن شابها شيء من المبالغة، فأحيانا لا ترتقي تصرّفاتنا حتّى إلى سلوك “الساكن المؤقّت” أو المكتري الذي يحرص، إلى حدّ ما على الأقلّ، أن يعتني بمستقّره طول فترة إقامته فيه. وإن عدّدنا، فلا أظنّ نستطيع الحصر:بدءا من الأوساخ المتراكمة في كلّ مكان والتخريب المقصود للممتلكات العموميّة، منذ أن يكون المرء تلميذا على مقاعد الدراسة، والتقاعس الكبير في أداء الواجبات المهنيّة في الوظيفة العموميّة، إلى التعطيل المتواصل لمصالح العمل بسبب أو بغير سبب بدعوى المطالبة بالحقوق المشروعة وإلى التجاذبات تحت قبّة باردو وخارجها التّي لا يعنيها أحيانا أن تتمزّق البلاد إربا…
“رزق البيليك” هي العبارة التي تلخّص هذه العقليّة السائدة. بعد مرور أكثر من سبعة وخمسين سنة على إنهاء نظام البايات (البايليك) وإعلان الجمهورية، التي من المفروض أن تكون ترجمة لعبارة تعني “الشيء العمومي” (Res Publica باللاتينية)، لا زلنا لا نشعر أنّ هذا “الشيء” يعنينا. مازلنا نرى فيه ملكا شخصيّا لحاكم يتسلّط على البلاد والعباد كما يشاء.
يمكن أن نتقصّى جذور هذا الشعور بعيدا في التاريخ: منذ أن كان علاقة بعض الجهات بالدولة تقتصر على وصول باي المحال بجيشه لجمع الضرائب غصبا، إلى محتلّ لم يدخل هذه البلاد إلّا لنهب ثرواتها، إلى “زعيم” منح لنفسه كلّ المشروعيّة ليتصرّف في شؤون هذه البلاد كما يشاء، إلى مستبدّ لم يكن همّه إلّا الإثراء هو و”الجماعة”. هذه العلاقة التي تواصلت لقرون بين حاكم له كلّ السلطات للتصرّف في الشأن العمومي وبين رعيّة لا تملك من الأمر شيئا عزّز هذا التصوّر: ملك البلاد لا يعني أهل البلاد وإنّما يعني فقط حاكمها.
ومن المفروض أنّ مجيء الثورة حرّر عموم الشعب من هذا التصوّر. وفعلا، في الأشهر الأولى منها، شهدنا مظهرين هامين يؤكّدان أنّ التونسيين لمّا يحسّون أنّ الشأن العام يعنيهم جميعا، فإنّهم يولونه ما يستحقّ من العناية وأكثر:المرّة الأولى في شهر جانفي 2011 لمّا تمّ إنشاء لجان لحراسة الأحياء في كافة أنحاء البلاد، في ظلّ التضعضع الرهيب للمنظومة الأمنيّة آنذاك، وما ساد يومئذ من تضامن بين الجميع عندما شعروا أنّ ما يحدث يهمّ فعلا عيشهم ومصيرهم المشترك. والمرّة الثانية كانت لدى استقبال اللاجئين الفارين من الحرب الأهليّة في ليبيا، حينها كانت مجهودات إيواءهم ورعايتهم النابعة بشكل تلقائي عن المجتمع، لا عن السلطة، تنمّ عن سخاء منقطع النظير.
لكنّ ذلك لم يستمرّ طويلا…في غضون أشهر، ساد الشعور بسرعة أنّ سياسة الشأن العام تخرج شيئا فشيئا من يد الشعب إلى “نخبة” جديدة أو متجدّدة من أحزاب وشبكات متنفّذين وغيرها، وطغت الصراعات المفتعلة التي تحظى باهتمام إعلامي كبير لتغطّي على المشاغل التي تهمّ عموم الشعب. ولعلّ في ذلك بعض ما يفسّر نسبة المشاركة الضعيفة في كلّ المحطات الانتخابية منذ 2011 (إذ لم تتجاوز أبدا نصف عدد الناخبين). وذلك ما تلخّصه العبارات اللامبالية الطافحة بالمرارة التي نسمعها أحيانا “كلهم كيف بعضهم…كلهم سرّاق…كلهم يحبّوا على السلطة”.
لذلك كانت عقليّة الغنيمة هي أحد أبرز سمات السنوات الأخيرة. المعادلة كانت كالتالي: “الشيء العمومي” أمر يعني السلطة وحدها، والسلطة الآن ضعيفة، إذن فهو الوقت المناسب “باش نضرب ضربتي” من ذلك الشيء العمومي. ليس من المهمّ أن تتوقّف مصالح عموم المواطنين، حتّى الحيوية منها، لأجل مصالح قطاعية أو حتّى فرديّة ضيّقة. هي لعبة ليّ ذراع مع السلطة لجمع أكثر ما يمكن من المكاسب، فمن يدري، لعلّ السلطة تعود قويّة يوما ما فنندم على عدم استغلال هذه اللحظات الثمينة. والكلّ سواء في هذه العقليّة المقيتة التي لا تستثني من هم من المفروض أن يكونوا، نظريا على الأقل بحكم مستواهم التعليمي، أكثر الفئات وعيا…مثل هذه التصرّفات تبرّر ما كان في البداية همسا ليتحوّل إلى جهر فيما بعد “كنّا أفضل فيما مضى”…وفي الحقيقة، كنّا نساس بالعصا، وعبد العصا لا يعمل إلّا إذا كان سيّده قائما على رأسه…أمّا إذا غابت العصا، فهو يتساءل بدءا: ما الذي يدفعه ليعمل؟ قبل أن يعي أنّ للحريّة متطلباتها وأنّ الدافع ينبغي أن ينبثق من الداخل.
لا يكفي أن يقع التنصيص على مفهوم المواطنة في نصّ، مهما علت مكانته، ليكتسبها الشعب بين عشيّة وضحاها. لا يكفي التنصيص على اللامركزية وعلى السلطة المحليّة والديمقراطية التشاركية لكي يهتمّ الجميع بالشيء العمومي (هذا إن لم تعني اللامركزية إباحة الحقّ في الفساد على مستوى محلّي وجهوي)…ما نحتاجه هو إعادة بناء مفهوم السلطة لكي يتحوّل كلّ فرد من هذا الشعب من “كرّاي” إلى “ملّاك”، وهو تحوّل قد يستلزم زمنا. ولعلّ أقصر طريق إليه يكون بإصلاح جبائي يرسي مفهوم المواطن دافع الضرائب الذي لا “تسرق” الدولة ماله عن طريق الاقتطاع المباشر من أجرته، وإنّما يتحوّل طوعا إلى القباضة ليدفع نصيبه العادل من مصاريف الشأن العمومي فيشعر بعد ذلك أنّ من حقّه وواجبه مراقبة استعمال ما دفعه…وهذا ما يحتاج إلى مشروع متكامل، لا بوادر له حاليا…