خدعة الوطنية
|بقلم: أمين الزقرني
تتفنن الدولة في استخدام الخدع التي تنال بها تطابقك مع الآخرين وعدم اختلافك عنهم. “الوطنية” في تجلياتها المختلفة هي أهم تلك الحيل.
تعمل الدولة على أن تقوم بالتضحية بكل ما له قيمة في حياتك من أجل “خير البلاد”، مستخدمين في ذلك “الحس الوطني”. في كثير من الأحيان، تكون التضحية بأثمن ما لديك – حياتك.
يستغل ذوو السلطة والقوّة والمال “الأغنامَ” للقتال في الحروب من أجلهم، وهم ينجحون باستمرار في القيام بذلك، مستعملين خدعة “الوطنية” و”الواجب” لابتزاز الجماهير أخلاقيا وتعريضهم للقتل من أجل مشروع لا طائل منه في الغالب. هل سمعت بشخص ثري أو مؤثر أو ذو سلطة قد حارب مطلقا من أجل وطنه في أي من الصراعات الحديثة؟ هم يرسلون الأغنام بدلا عنهم، وفي النهاية يجنون المنافع أو يتجنّبون العواقب دون أن يعرّضوا أنفسهم للخطر. أما الأغنام فإنهم يستجيبون بكل إخلاص إلى نداء الواجب، ويزحفون نحو الموت عن طيب خاطر، منشدين الأغاني الحماسية، من أجل أن يتم تفجير رؤوسهم في أحد الساحات الأجنبية الملطخة بالوحل. وعندما تُرسل الجثة إلى المنزل تلتف حولها العائلة والأصدقاء وقد اغرورقت أعينهم بالدموع، معدّدين مناقب الفقيد.
ما يحدث في الحقيقة هو أنه قد تم خداع المحاربين من طرف أصحاب السلطة وكتل المصالح الخاصة. ثمة نفاق مفضوح في شعار “القتال من أجل الوطن”. إنها لعبة خطيرة وغير مجدية.
من أصل ألف صراع، هناك 999 صراعا مصطنعا أو وهميا أو عابرا أو لا طائل منه، ولا يستحق أكثر من خمس دقائق من جهد حياتك، فما بالك بتعرّضك للقتل من أجله. لا شيء إطلاقا تم كسبه من خسارة مئات الملايين من “الأرواح الشجاعة” و”الشهداء” الذين تم قبرهم، ما عدا المكاسب لأصحاب السلطة وشركات الأسلحة. أما فيما تبقى من واحد في الألف من “القضايا العادلة”، فقد يكون من الأنجع أن تتيح للآخرين القتال نيابة عنك، بما أن هناك الملايين من الأغنام الذين هم سعداء ومستعدّون، بل ويهرولون ويتدافعون من أجل أن يُقتلوا أولا.
قد يخامرك السؤال: “وماذا لو أن الجميع رفض أن يذهب للقتال؟” في الواقع، فإن الحشود سوف تتسابق نحو الصفوف الأولى لتلبية “نداء الواجب”. فأغلبية الناس تكاد تكون مغشيا عليها، وهي مخدّرة ومبرمجة وعرضة للتأثر بالحماسة والبهرجة ومستعدة لتندفع فورا إلى أي واجهة في أي مكان من العالم للقتال والموت من أجل “قضية” لا يعلمون أي شيء عنها، ولم يسمعوا بها إلا منذ ستة أشهر. أما لو حدث أن الجميع في العالم قد رفض الذهاب للقتال، فلن يكون هناك حينها من حروب أصلا! سيكون هذا تحسنا ملحوظا بلا شك!
حسنا، قد تحتاج إلى أن تقف وتحارب من أجل حقوقك، ولكن سيكون ذلك في حالات جد نادرة، تكون فيها حياتك مهدّدة، ولا مناص لك فيها من القتال –إذ غالبا ما تكون هناك حلول أخرى لتسوية المسألة.
في حالات عامّة أكثر، مثلا لو أنك تجد منفعة في الحفاظ على “نمط الحياة” الحالي للبلاد، فإنه من المجدي ترك الآخرين يقومون بذلك، فهم متطوّعون ومبرمجون للحرب.
وعلى أي حال، فإن جميع الوضعيات هي عابرة ومؤقتة، وليس هناك بالضرورة وضعية أفضل من غيرها. العمل على النجاح في جميع الوضعيات سيكون أكثر فائدة من خسارة الحياة للمحافظة على وضع هو متغيّر بطبعه.
ولكن ماذا لو أن “قوى الشر” في العالم (النازيين أو داعش مثلا) قد أخذت بزمام البلاد والعالم، ألن يستوجب ذلك التصدّي لها ومحاربتها؟ وهل هذا على أساس أن القوى التي تحكم البلاد والعالم الآن هي قوى خير خالص؟ لا يمكن بأي حال توقّع إن كان العالم سيكون أفضل أم أسوأ، ولكنه سيكون مختلفا حتما. والخسارة فيه لن تضاهي خسارة الحياة، والربح فيه لن يعتمد على تصنيف نسبي عابر ومؤقت لهذه القوى.
أغلب الناس يعرّضون أنفسهم للمخاطر وليس لديهم أدنى فكرة عن حقيقتها، حاملين نظرة رومنسية وغبية عن الحرب كانوا قد استلهموها من مسلسلات الكرتون للأطفال ومن أفلام الحروب. سيكون من الأفضل لشخص يريد أن يغامر بحياته أن يعرف حقا الكثير من الأشياء قبل أن يلقي بنفسه:
– الماكينات السياسية الحقيقية، الرشاوي والصفقات التي تحدث في الكواليس؛
– الإحساس الناتج عن إيقاف رصاصة عالية السرعة بالرأس؛
– مليارات الدولارات التي يحقّقها بعض الناس نتيجة هذه “التضحية”؛
– ليس هناك أي “مكافأة” مطلقا من عند “الله” على هذه المجهودات النبيلة؛
– عمق الألم والأسى والمعاناة التي تسببت بها هذه “الحركة الشجاعة” لكل من الزوجة والأبناء والأصدقاء وبقيّة المحبّبين؛
– استيعاب عدم جدوى كل هذا في جميع الأحوال؛
– رؤية المستقبل وكيف أن هؤلاء الأعداء قد أصبحوا أفضل الأصدقاء وأن لا أحد يتذكّر أي شيء مما كان في السابق؛
– الالتحاق ببعض الاجتماعات “الاستراتيجية” ورؤية كيف يخاطر الجنرالات بحياة رجالهم، بالآلاف وبدون شفقة، من أجل كسب عسكري تافه (200 متر إلى الأمام، أو الحصول على هضبة).