كيف تشكّلنا ذكرياتنا؟
|
بقلم: خولة القاسمي
“تلك هي طبيعة الذّاكرة: تخفي الأشياء ثمّ تعيدها دون إذنك، وغالبا ما تكون ناقصة ومشوّهة.”
كريستين كاشور
يؤمن معظمنا أن الذاكرة جزء مهم من هويتنا، بل أنها تشكل أساس هويتنا. وهذه الفكرة منطقية، فالذكريات المتعلقة بتجاربنا هي ما يشكّلنا في نهاية المطاف، أليس كذلك؟ ربما ليس بالضرورة. فإن كان الأمر كذلك حقا، إذن ما الذي يحدث لمن يفقد ذاكرته؟ هل تتلاشى هويته مع تلاشي الذكريات؟
إنّ تجاربنا تشكل هوياتنا وذكريات تلك التجارب لا تقل أهمية عن التجارب ذاتها. فبينما قد تبدو لك أحد تجاربك ثانوية للغاية إلا أنها قد تغير ببساطة ما تشعر به يومًا بعد ممّا قد يخلق سلسلة من ردود الفعل التي يمكنها أن تغيّر مجرى حياتك تماما. كما تلعب ذكريات الماضي دورًا رئيسيًا في كيفيّة تعاملنا مع ما يحدث في الحاضر والمستقبل.
إنّ الذاكرة من أعمق الأشياء وأكثرها غموضا ولكن لا أحد يصدّق أنها يمكن أن تكون مخادعة وغير واضحة مثل أي جانب آخر من جوانب الطبيعة البشرية، وأنها ليست شيئا يمكن الاعتماد عليه كلّيا. فما الذي يضمن لك أن ذكرياتك حقيقية لا شوائب فيها؟ وإلى أيّ مدى يمكنك الاعتماد على ذاكرتك لتشكّل نظرتك عن الحياة؟ الذكريات يمكن أن تتداخل بطريقة مربكة ويمكن لأشياء اخترعها عقلك أو رأيتها في أحلامك أن تتداخل ببساطة فتتسبّب في تشويه بعض الذكريات الحقيقيّة أو تحل مكانها تماما، والعقل البشري مؤهّل بما يكفي ليصدّق بأن هناك أشياء حدثت حقا بينما هي لم تحدث سوى في بعض جزئياتها.
ربّما لا تحبّ شخصا ما وترى أنه يتصرف بشكل يسيء إليك وربّما تكون متأكدا أنه يفعل ويقول أشياء معيّنة فقط ليثير غيظك، لكنّك لاحقا تتعرّف على هذا الشخص بشكل جيّد وتدرك أنّك مخطئ تماما بشأنه. ذلك يحدث بسبب الانطباع الخاطئ الذي شكلته ذاكرتك عن هذا الشّخص عند أوّل لقاء وحين لم تسنح لك الفرصة للتعرّف عليه بشكل جيّد بنت ذاكرتك معطيات كاذبة عنه وجعلت عقلك يصدّق أن ما أخبرتك به حقيقي ولا شكّ فيه.
وهذا مجرّد مثال قد يشرح كيف تتمتع الذاكرة البشرية بالقدرة على التّلاعب بأيّ معطيات متوفّرة فتقنع وعيك بأشياء لا حقيقة لها. ولكننا مع ذلك نبني تجاربنا في الحياة بشكل كبير ونتصرف وفقا لما تمليه ذاكرتنا لأنّنا بمرور الأيّام والسّنوات ننسى الأحداث والتفاصيل التي كوّنت تجاربنا ولا يبقى سوى ما خزّنته الذاكرة العاطفية من مشاعر أثارتها تلك التجارب.
الذكريات أساسية في حياتنا لأنها تسمح لنا بأن ننمو ونتعلّم كيف نكون أشخاصًا أفضل. فهي تلقّننا دروسًا مهمّة عن الحياة، وتشكّل مشاعرنا حول المواقف والأشخاص ثمّ تخزّنها، وهي تساعدنا على تأمّل أخطائنا والتعلّم منها. ومع ذلك فإنّ الذكريات بحلوها ومرّها لا تحدّدنا لأن العقل البشري قادر على إعادة تشكيلها والتلاعب بها، ولأنّ معظم الأشياء -لحسن الحظّ أو لسوئه- لا تدوم إلى الأبد، ولأنّ كل شيء عرضة للتغيير والاختفاء بمرور الوقت وذكرياتنا ليست استثناء، فالذكريات مقدّر لها أن تتلاشى، والعقول التي تُخزّن الذكريات تتلاشى أيضا في النهاية.
ولكن، إذا كانت ذكرياتنا مخادعة وآيلة للتلاشي، وإن لم تكن أساس هويّتنا، فما الذي يشكّل هويّتنا حقّا، وهل يمكن لأيّ منّا أن يدرك بيقين وثبات ما تقوم عليه هويته الخاصة وهويتنا كبشر بشكل عامّ؟
صدر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد الثالث، ماي 2021، ص. 15.
لتحميل كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf3