هل أعلن 7 أكتوبر عن بداية تشكل نظام دولي جديد؟

بقلم: فهمي رمضاني

تتحدد ملامح النظام الدولي من خلال معرفة شكل العلاقات بين الدول وفهم الأطراف الأكثر قوة والأكثر نفوذا مقارنة بغيرها، وهو ما يساعد على تشخيص نمط التفاعل بين الفاعلين الدوليين في مختلف المجالات. وتتدخل هنا الأحداث الكبرى والتحولات التاريخية الجذرية في إعادة تشكيل النظام الدولي ورسم ملامحه، فقد حسمت مثلا الحروب البونية صراعا دوليا بين قوة سائدة وقوة صاعدة، فأسهمت بذلك في تشكل نظاما دوليا أحادي القطبية تزعمته الإمبراطورية الرومانية. أعلنت كذلك الثورة الفرنسية في 1789 عن تشكل نظاما دوليا جديدا أسهمت الحروب النابليونية بجزء كبير في صياغته، لكنه لم يدم طويلا، إذ انتهى في 1815 مع مؤتمر فيانا الذي أعاد صياغة ملامح العلاقات الدولية وكرس سيطرة أوروبا الغربية إلى حدود اندلاع الحرب العالمية الأولى، حيث ستبرز قوى دولية جديدة ومشهد جغراسياسي قطع مع إرث القرن التاسع عشر وأدخل العالم بقوة إلى روح القرن العشرين.

 ومع نهاية الحرب العالمية الثانية سيتشكل من جديد نظام دولي ثنائي القطبية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي في إطار ما عرف بالحرب الباردة. وقد مثل سقوط جدار برلين في 1989 وتفكك الاتحاد السوفياتي في 1991 إعلانا عن صياغة جديدة للعلاقات الدولية، انتهى فيها التاريخ حسب البعض وانتصرت فيها الليبرالية الغربية الديمقراطية، وقد اتسم النظام الجديد الذي صاغته الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين بمجموعة قيم ليبرالية غربية فرضتها هذه الدول على الجنوب، كشرط للالتحاق بركب المجتمع الدولي. وفرضت الولايات المتحدة الأمريكية في هذه الأثناء والتي قدمت نفسها على أنها المرشدة الأخلاقية للإنسانية أو شرطي العالم، قواعد اللعبة السياسية العالمية خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001.

ولكن شهدت السنوات الأخيرة، تحولات كبرى وأحداث مهمة إقليميا ودوليا تعامل معها البعض على كونها بداية مؤشرات ولادة نظام دولي جديد. ومن أهم الأحداث التي بشرت بهذا المخاض، نذكر حرب روسيا على أوكرانيا وتحولات الاقتصاد العالمي وتفوق مجموعة البريكس التي تضم البرازيل وروسيا والهند وجنوب افريقيا والصين اقتصاديا على مجموعة الدول الصناعية السبع في سنة 2020 وقد أصبح هذا التكتل قوة سياسية ودبلوماسية فاعلة في المجتمع الدولي. وفي سياق الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، مثلت أحداث السابع من أكتوبر من سنة 2023 نقطة تحول مهمة، حيث أثارت نقاشات عديدة حول العلاقات الدولية وتوازن القوى والنظام الدولي، ومع أنها لم تعلن رسميا عن بداية تشكل نظام دولي جديد، فإن الساحة العالمية شهدت ردود فعل وتأثيرات مختلفة متعلقة بالصراع، قد تسهم في إعادة تشكيل ديناميكيات جديدة في السياسة الدولية.

أعلن تفكك الاتحاد السوفياتي سنة 1991 عن ولادة نظام القطبية الأحادية الذي تزعمته الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين، وقد شهد هذا النظام تأزما غير مسبوق في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، تجلى ذلك بوضوح من خلال الأزمة التي تمر بها الديمقراطيات الليبرالية، فإلى جانب موجة الشك التي طالت قيم الديمقراطية الليبرالية الغربية كالإيمان بالحرية والتقدم، سيطرت التوجهات الشعبوية على المشهد السياسي الغربي في السنوات الأخيرة. وقد وجهت هذه التيارات نقدا لاذعا للأسس التي قام عليها النظام الدولي الجديد كالعولمة والانفتاح والتنوع، الأمر الذي أدى إلى ضرب أعظم إنجاز للسياسة والاقتصاد في الغرب وهو بناء مجتمعات حرة تؤمن بالعقيدة الليبرالية الغربية وتصطف وراءها، فوجد بذلك الغرب نفسه في السنوات الأخيرة بصدد الدفاع عن مشروعه الليبرالي حتى داخل مجتمعاته نفسها.

 ويشير المفكر يورغ سورنسن في كتابه “إعادة النظر في النظام الدولي الجديد” إلى كوننا نعيش مرحلة الدولة الهشة سواء في العالم المتقدم أو النامي وذلك بسبب نهاية صلاحية السرديات التي تأسس عليها الفكر الليبرالي الغربي، حيث لم تعد الإنسانية تثق في المنجز الحداثي على الشاكلة الغربية. إلى جانب ذلك، تعاظم في السنوات الأخيرة دور القوى الصاعدة التي تطالب بنظام دولي عادل ومتعدد الأقطاب وهي بالأساس روسيا والصين، حيث تسعى هاتان الدولتان مع قوى إقليمية أخرى كتركيا وإيران وجنوب إفريقيا إلى تعطيل النظام الدولي الحالي الذي يسيطر عليه الغرب وتقويضه. ويظهر ذلك من خلال غزو روسيا لأكرانيا منذ فيفري 2022 وبداية تصرف الصين كقوة عالمية، حيث تسعى إلى السيطرة في محيطها الإقليمي ثم الدولي ومن هنا يتنزل تحركها ضد تايوان ومحاولتها تركيز نفوذها في المحيطات والبحار المجاورة لها، فكثر بذلك النقاش حول إن كنا نعيش عصر الإمبراطورية الامريكية مقابل القوى الإقليمية الصاعدة أو أننا في مرحلة مخاض فلا نحن في زمن الإمبراطورية الامريكية ولا عالم القوى الإقليمية، وهو ما حدا بالمفكر يورغ سورنسن إلى القول بأننا مقبلون على عالم تتبعثر فيه القوة بأكثر مما سبق.

وقد أدى كل ذلك إلى ولادة عالم متوزع على اتجاهات متناقضة، فهناك غرب يريد لقيمه الليبرالية أن تنتشر وتتقدم أكثر، لكنها تشهد تراجعا داخله، في مقابل ذلك هناك روسيا والصين اللتان تبحثان عن قيم تقليدية قومية تواجه بها الغرب. ويمكن اعتبار هاتين القوتين بمثابة قاطرة عالم متحول تعتزم إصلاح النظام الدولي على نحو جذري وترفض النظام الغربي بكل ما يحمله من عيوب ونفاق كازدواجية المعايير والكيل بمكيالين. في كل هذه السياقات المتحولة والمتوترة، جاءت حرب السابع من أكتوبر أو حرب غزة لتعلن ربما عن بداية تشكل نظام دولي جديد وأفول النظام الأمريكي.

ففي البداية، يمكن القول بأن فلسطين تشكل مرآة تعكس موازين القوى في العالم، فإضافة إلى أهمية موقعها الاستراتيجي، إذ التقى الشرق والغرب أكثر من مرة في هذه المنطقة، فهي كذلك آخر حالة استعمار في العالم المعاصر اعتبرها البعض بمثابة ذلك الخيط الأخير الذي يربط دول الجنوب العالمي بماضيها. وفيها كذلك، تتجسد بصورة واضحة ازدواجية المعايير الغربية، من خلال تبرئة إسرائيل من كل ما ارتكبته منذ بدأ استيطانها وترتكبه من جرائم مروعة بحجة حقها المزعوم والمطلق في الدفاع عن نفسها. وهذا الحق هو بالنسبة للغرب أهم من الحفاظ على أرواح الفلسطينيين وأهم من القوانين الدولية. لذلك كشفت حرب غزة عن مأزق النظام الدولي الحالي الذي يعيش نوعا من الفراغ والفوضى التي تولدت من ازدواجية المعايير التي تأسس عليها هذا النظام. وبذلك فقد الغرب اغراءه حسب تعبير أحد المفكرين ولم يعد حديقة القيم والأنوار والتقدم، بل إن الكيان الصهيوني الذي روج له الغرب باعتباره واحة للديمقراطية وسط أنظمة شرقية متخلفة، لم يعد كذلك وبالتالي فإن هذه الرجة التي تعرض لها النظام الدولي الحالي بعد حرب غزة قد تكون إيذانا ببداية تشكل قوانين دولية جديدة متحررة من الاستعمار وتنصف أكثر بلدان الجنوب.

كشفت حرب غزة كذلك عن الفشل الأمريكي الذريع في إدارة النظام الدولي، إذ لم تنجح الإدارة الامريكية في كبح جماح حليفها الاستراتيجي أو التأثير عليه للتوصل إلى حل عادل ودائم، وقد أظهرت الاستراتيجية التي تعتمدها الولايات المتحدة الامريكية عجزها عن فهم التغيرات الحاصلة في العلاقات الدولية منذ عشرين سنة، فقد واصل بايدن اعتماده سياسة ازدواجية المعايير من خلال تمسكه بالموقف الأمريكي التقليدي في الدعم المطلق لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.  وتبرز هذه الازدواجية والتناقض الصارخ من خلال إدانة جرائم الحرب التي يرتكبها الجيش الروسي في أوكرانيا والتغاضي عن فظائع الجيش الصهيوني في فلسطين، فقد اكتفت الإدارة الأمريكية بالإعراب عن قلقها من الممارسات الصهيونية كلما ارتكب الجيش الإسرائيلي مجزرة في حق الشعب الفلسطيني. كما تواصل الإدارة الأمريكية سياستها الممنهجة في منع الأطراف الدولية من الاستحواذ على ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

إلى جانب ذلك، أعلن السابع من أكتوبر عن بروز قوى دولية جديدة أصبحت فاعلة أكثر على الساحة الدولية وأهمها الصين التي شرعت منذ سنوات في اكتساب مكانة مهمة في الشرق الأوسط خاصة بعد تطويرها مشروع طريق الحرير الجديد والتغلغل أكثر في المنطقة عبر الشراكات الاستراتيجية. وقد اهتمت الصين بمنطقة الشرق الأوسط وحاولت ان تدلو بدلوها في القضية الفلسطينية مستغلة سوء سمعة  الولايات المتحدة في المنطقة خاصة بعد تورطها في حرب غزة مع حليفها الإسرائيلي .وقد أثبتت كذلك الصين بأنها يمكن أن تكون وسيطا دبلوماسيا شانها شأن الولايات المتحدة الأمريكية فقد صالحت بين إيران والسعودية سنة 2023 وجمعت بين الفصائل الفلسطينية المختلفة في بكين وبذلك فإنه بإمكانها أن تلعب دورا دبلوماسيا يضاهي الدور الأمريكي لكنها لا تزال حتى اليوم تتعامل بحذر مع ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ولم تطرح بعد أي مبادرة جدية تهدف إلى تحقيق السلام في المنطقة وعموما فإن أحداث السابع من أكتوبر تجري في مصلحتها.

أما بخصوص روسيا فهي تعد أيضا من أهم المستفيدين من طوفان الأقصى، فقد أشيحت كل الأنظار والإمدادات العسكرية عن أكرانيا لتركز على غزة وإسرائيل وهو ما فسح المجال لروسيا للتصرف بحرية أكثر والارتماء في أحضان الصين ومحاولة تكوين تحالف روسي صيني ضد الولايات المتحدة الأمريكية كما حاولت روسيا تقديم خطاب داعم لفلسطين نسبيا ومعارض للغرب وذلك لكسب الرأي العام العربي والإسلامي ودول الجنوب العالمي الأمر الذي قد يسهم في جعلا قوة بديلة عن الولايات المتحدة الامريكية في ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

أكد طوفان السابع من أكتوبر على بداية تخلخل أسس النظام الدولي الحالي، إذ جاءت هذه الحرب في سياق عالمي تتحول فيه الموازين من الجبهة الأطلسية نحو الشرق الأوراسي، وتتزايد فيه المعارضة للغرب من قبل قوى إقليمية تقترح قيما جديدة لتسيير العلاقات الدولية. وتتخذ كل هذه القوى من الشرق الأوسط نقطة انطلاق لخوض غمار الصراع على النفوذ وبسط الهيمنة.

 

أهم المراجع

  • يورغ سورنسن، إعادة النظر في النظام الدولي الجديد، ترجمة أسامة الغزولي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، جانفي 2020.
  • جوان دياس، حرب غزة وتداعياتها على موازين القوى في النظام الدولي، أوراق سياسات، مؤسسة الدراسات الفلسطينية.

نُشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 36، خريف 2024.

للاطّلاع على كامل العدد: tiny.cc/hourouf36

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights