الدراسات التوراتية وإسكات التاريخ الفلسطيني

بقلم: فهمي رمضاني

لم يستند المشروع الصهيوني إلى تأييد الإمبريالية الغربية فقط بل وجد أيضا دعما كبيرا من الدراسات التاريخية التي أعطت مشروعية لقيام دولة إسرائيل وعلى رأسها الدراسات التوراتية. وهو اتجاه تزعمه مجموعة من المؤرخين منذ نهاية القرن التاسع عشر، تزامنا مع ظهور الصهيونية وفكرة البحث عن وطن قومي لليهود. وتعتمد هذه الدراسات على قراءة أيديولوجية للتاريخ تعلي من شأن الوجود اليهودي في فلسطين وتعتبر مملكة إسرائيل القديمة حقيقة تاريخية لا جدال فيها للتأكيد على وجود استمرارية تاريخية بين مملكة إسرائيل القديمة ودولة إسرائيل الحديثة. وبذلك تسعى هذه الدراسات إلى توظيف التاريخ القديم لخدمة الأطماع السياسية وإنجاح المشروع الصهيوني، كما تعمل كذلك على طمس تاريخ الحضارات الأخرى التي مرت على المنطقة وإسكات التاريخ الفلسطيني القديم واعتباره من “التواريخ المستبعدة “على حد تعبير المؤرخ كيث وايتلام في كتابه “اختلاق إسرائيل القديمة”.

.يعرف وايتلام خطاب الدراسات التوراتية على أنه شبكة متداخلة وقوية من الأفكار والتوكيدات التي يعتقد ممارسوها أنها نتاج الدراسات العلمية الموضوعية بينما في الحقيقة ماهي إلا ممارسة للقوة وفرض لتصور معين للماضي لخدمة المشروع الصهيوني وبالتالي تجريد الفلسطينيين من ماضيهم. ولا ريب أن هذا الخطاب غير الموضوعي والذي يجانب الحقيقة التاريخية يعمل على تجاهل الكشوف الأثرية وما قد أماطت اللثام عنه من جوانب متعددة من التراث الثقافي والروحي الذي خلفته الشعوب التي استوطنت فلسطين وخاصة العنصر الكنعاني. ولكن السلطات الإسرائيلية التي تهيمن الآن على أغلب المجال الفلسطيني والتي تدعم الدراسات التوراتية لا تتوانى في طمس معالم الحضارة الكنعانية والبحث فقط عن آثار مملكة إسرائيل القديمة لدعم الوجود اليهودي في المنطقة.

يعتمد الباحثون التوراتيون على التوراة كمصدر أساسي للتاريخ باعتبارها الكتاب المقدس لليهود الذي يسرد بدايات هذا الشعب في التاريخ، لذلك يعتقد أغلبهم بأن  الوقائع التاريخية التي يسردها الكتاب المقدس حقائق تاريخية لا تناقش من ذلك تأكيدهم على الوجود التاريخي لمملكة إسرائيل القديمة التي نشأت حسب تصورهم حوالي 1200 ق.م. ونحن هنا لا نناقش وجود المملكة من عدمه، وإنما نسعى للكشف عن الإرادة  غير العلمية للباحثين التوراتيين الذين تحركهم دوافع سياسية ومصالح تتعلق بالأوضاع الحاضرة أي بالمشروع الصهيوني الراهن وليس بالتاريخ القديم للمنطقة. فيتحول بذلك التاريخ من علم دراسة الماضي إلى “وسيلة لتأكيد المطالبات الصهيونية بالحق في الأرض” على حد تعبير ادوارد سعيد. ففلسطين لا تمتلك تاريخا وحضارة حسب هذا التيار وإنما هي جزء فقط من تراب عاش فوقه أجدادهم قبل أكثر من ألفي سنة، الأمر الذي يقودنا إلى القول بأن إعادة بناء الماضي سواء كان مكتوبا أو شفاهيا هو عمل سياسي بالدرجة الأولى ولا يخضع في أغلب الأحيان إلى المعايير الأكاديمية والموضوعية.

يتبين لنا إذن أن الدوافع التي تحرك مدرسة الدراسات التوراتية هي دوافع إيديولوجية لها صلة وثيقة بصعود الصهيونية وسنبين هنا ما تدعيه هذه الدراسات من قراءات تروم من خلالها بناء تصور معين للماضي يسكت التاريخ الفلسطيني. فقد تجاهلت الدراسات التوراتية تاريخ فلسطين القديم نظرا لأن مجال اهتمامها هو إسرائيل القديمة، فتاريخ فلسطين لا وجود له إلا كخلفية لتاريخ إسرائيل، إذ أن كل الأبحاث الأثرية والدارسات التاريخية قد تعلقت فقط بتاريخ مملكة إسرائيل ويتم ذكر الحضارة الكنعانية كحدث صغير جدا في مسيرة التاريخ اليهودي الطويل وهو ما أدى إلى غياب المراجع المتعلقة بتاريخ فلسطين القديم. وما يعاب في هذا الإطار على الجامعات العربية هي أنها لم تنجح في تكوين نخب متخصصة في تاريخ الشرق القديم عامة وتاريخ فلسطين القديم خاصة عكس الجامعات الغربية التي اهتمت بتاريخ أديان الشرق القديم منذ القرن التاسع عشر. وقد توجد بعض الدراسات العربية القليلة التي تنحو نحو المجادلات السياسية والقراءات المتسرعة وغير المعمقة والتي تأثرت بالصراع العربي الإسرائيلي وهي مختصة أساسا في الفترة المعاصرة وليس في الحقبة القديمة لأنها تقتصر على توضيح القضية الوطنية الفلسطينية ليبدو بذلك كما لو أن التاريخ الفلسطيني القديم قد ترك لإسرائيل والغرب. في مقابل ذلك وجد المشروع الصهيوني مراجع هامة نشرت في أشهر الجامعات الغربية فاستند إليها لبيان أحقيته في المطالبة بالأرض الموعودة. ويدحض العديد من المؤرخين الذين وجهوا نقدا كبيرا للمدرسة التوراتية فكرة كون التاريخ الفلسطيني هو مجرد خلفية للتاريخ الإسرائيلي، إذ يعتبر كيث وايتلام أن تاريخ إسرائيل القديم ليس سوى لحظة قصيرة في التاريخ الفلسطيني الطويل. يقول إدوارد سعيد مؤيدا هذا الرأي “من أهم مظاهر نجاح الحركة الصهيونية كان غياب أي تاريخ رئيسي لفلسطين العربية ولسكانها وكأن شبكة التفاصيل الصهيونية ومسلسل أحداثها قد خنقت الفلسطينيين واستبعدتهم ليس فقط من العالم بل من أنفسهم أيضا”.

استندت الدارسات التوراتية إلى الكشوفات الأثرية التي ركزت على مناطق محددة دون أخرى وكأن هناك رغبة لإقصاء مجالات معينة لتبقى مطموسة لأنها فقط جزء من التاريخ الكنعاني الطويل، فقد ركز علماء  الآثار المسيسين على منطقة الضفة الغربية والتي يسميها الإسرائيليون “يهوذا والسامرة”، أما منطقة السهول المتفق على أنها أرض كنعان فهي ذات قيمة قليلة في عملية البحث عن إسرائيل القديمة لأن هدف علماء الآثار في النهاية هو التأكيد على الوجود التاريخي لمملكة إسرائيل وطمس الوجود الكنعاني وتجاهله وبالتالي إسكات التاريخ الفلسطيني واستبعاده. يقول نوث وهو أحد الباحثين التوراتيين في مقدمة كتابه عن تاريخ إسرائيل “صحيح بالطبع أنه من رحم اليهودية قد ولدت في التاريخ الحديث كينونة جديدة اسمها إسرائيل سعت للمطالبة بوطنها مرة أخرى في أرض إسرائيل القديمة وتحت رعاية الحركة الصهيونية”

تنكر كذلك الدراسات التوراتية الزمان والمكان على التاريخ الفلسطيني، فالخطاب التوراتي فرض تحقيبا معينا للتاريخ أبعد من خلاله دور الحضارات الأخرى خاصة الكنعانية، فبداية دخول المنطقة في التاريخ حسب القراءة التوراتية كان مع نشوء مملكة إسرائيل من العصر البرونزي المتأخر إلى العصر الحديدي دون ذكر أي دور للكنعانيين أو الفلستيين أو العموريين وما خلفته هذه الشعوب من تراث حضاري وثقافي وهو ما يؤكده جاك غودي  في كتابه “سرقة التاريخ: كيف فرضت أروبا روايتها الرسمية على العالم؟” حيث يعتبر أن الغرب قد فرض سردية معينة لتاريخ العالم أقصت الحضارات الشرقية وتجاهلت مساهمتها التاريخية. وهي نفس السردية التي نجدها لدى المدرسة التوراتية حيث قسمت تاريخ المنطقة إلى تحقيب خاضع للرؤية اللاهوتية الإسرائيلية مثل مرحلة الآباء مرحلة الخروج، ومرحلة الاستيطان وهي كلها تواريخ منحازة إذ يصبح تاريخ المنطقة مقترنا بتاريخ الشخصيات والأحداث الدينية في التراث التوراتي وهو ما يكشف عن طغيان الزمان التوراتي ليسكت التاريخ الفلسطيني، فلا يكون للتاريخ الفلسطيني معنى وأهمية إلا بكونه مسرح أحداث تاريخ إسرائيل والخلفية التي تطور فيها.

هذا بخصوص الزمان، أما بالنسبة للمكان فقد عملت الدراسات التوراتية على اختصاره ليصبح فقط الأرض الموعودة إذ ليس هناك حديث عن فلسطين أو كنعان أو أي مصطلحات أخرى فقط نجد “الأرض المقدسة “، “أرض التوراة” “إرتس إسرائيل” (أي أرض إسرائيل) وهي كذلك محاولة لسرقة المكان وتحويله ليصبح فقط متعلقا بالتاريخ الديني لإسرائيل.  أما المصطلحات التي يستعملها تيار البحث التوراتي للحديث عن فلسطين فهي ألفاظ سياسية وإيديولوجية تستعمل للمخاتلة ونفي التاريخ القديم للمنطقة من ذلك مثلا مصطلح الشرق الأوسط الذي يحمل شحنة سياسية تدل على فهم أوروبي ضيق للعالم. ويمكننا ذكر هنا بعض الأعمال التي أقصت المفهوم الجغرافي وركزت على المفهوم الديني للمكان كالدراسة الموسومة ب “الجغرافيا التاريخية للأرض المقدسة” حيث يستعمل المؤلف فلسطين كخلفية لفهم التطور التاريخي لمملكة إسرائيل وكأن هنا التاريخ الفلسطيني لا يذكر إلا ليخدم التاريخ الإسرائيلي، ففلسطين لا تملك تاريخا خاصا بها فتاريخها هو تاريخ إسرائيل وبالتالي تاريخ الغرب.

إنكار الزمان والمكان على التاريخ الفلسطيني يتوافق كذلك حسب الدارسات التوراتية مع غياب السكان عن هذه الأرض، ألم يروج المشروع الصهيوني إلى فكرة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” وهو ما نجده لدى أغلب علماء المدرسة التوراتية حيث يتجاهلون الوجود المتنوع للقبائل الكنعانية والشعوب الأخرى من فلستيين وعموريين، إذ يتم إسكات تاريخ الشعوب الأخرى التي استوطنت فلسطين والتي لم تكن يهودية. يقول نوث: “باعتباره تاريخا حقيقيا وأصيلا فإن تاريخ إسرائيل كان دوما وبشكل عميق متأثرا بالأرض التي نشأ فيها ” فهذه الأرض حسب هذه الرؤية هي حتما أرض خالية جاء شعب إسرائيل ليملأها. يقول أهاروني مدعما نفس الفكرة ” إن تلك الفترة التي تغلغلت فيها القبائل العبرية في المناطق المختلفة من البلاد حتى تبلور شعب إسرائيل الشعب الأول والوحيد الذي جعل من هذه الأرض وطنا له” وبذلك فقد جردت الدراسات التوراتية لفظ فلسطين من أي معنى ليصبح يعني  فقط الأرض الموعودة أو الأرض المقدسة لليهود التي تم إحيائها وتنميتها بعد أن كانت قفرة وخالية. يمكننا ان نجد صدى لهذه الأفكار في المقاطع الافتتاحية من إعلان تأسيس دولة إسرائيل “لقد كانت أرض إسرائيل مسقط رأس الشعب اليهودي، هنا تكونت هويته الروحية والدينية والقومية. وهنا حقق هذا الشعب الاستقلال وأنشأ ثقافة كان لها أثر قومي وعالمي. وهنا أيضا كتبوا الكتاب المقدس ووهبوه للعالم. جاهد اليهود طيلة القرون الماضية للعودة إلى أرض آبائهم. عاد اليهود بأعداد كبيرة في العقود الأخيرة فاستصلحوا القفار وأعادوا إحياء لغتهم وبنوا المدن والقرى وأسسوا مجتمعا قويا دائم النمو. لقد جلبوا نعمة التقدم لجميع سكان البلد وتطلعوا للتحرر والاستقلال “.

تؤكد الدراسات التوراتية في النهاية على أن تاريخ إسرائيل هو تاريخ متجدد يتم إحياؤه دائما في حين أن التاريخ الفلسطيني قد انتهى فهو ملك لإسرائيل فقط، أما السكان فسواء كانوا قد اندمجوا في إسرائيل أو تمت إبادتهم فليس لهم الحق في هذا التاريخ.

هنا قد نتساءل كما تساءل يونغ ” كيف نكتب تاريخا جديدا في حين أن التاريخ برمته هو تاريخ أوروبي ذكوري وينتمي إلى العرق الأبيض؟”.

 

 

أهم المراجع

  • وايتلام (كيث)، اختلاق إسرائيل القديمة، ترجمة سحر الهنيدي ، مراجعة فؤاد زكرياء، سلسلة عالم المعرفة، عدد 249، 1999.
  • دبور (عماد)، اليهودية القديمة، منشورات الجمل، بيروت، 2021.

نُشر هذا المقال بمجلّة حروف حرّة، العدد 24، مارس 2023.

للاطّلاع على كامل العدد:  http://tiny.cc/hourouf24

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights