انتفاضة 17 ديسمبر: اليقظة من الحلم ..
|بقلم: محمّد حمدي
-
مدخل
كل حراك ثوري هو نتيجة حتمية لواقع إجتماعي وإقتصادي وسياسي معين يهدف إلى تغييره نحو ألأفضل وبما يتماشى ومع متطلبات الواقع الاجتماعي والاقتصادي المأمول وكل حراك يستهدف بالضرورة تغيير ما هو كائن بما يجب أن يكون. ومن الطبيعي أن تسبق كل حراك إرهاصات فكرية تمهّد له وتشرحه وتبين سوءاته وتحرض الناس على الانتفاض عليه على أمل تحقيق ما هو أفضل في جميع نواحي الحياة وإن أي حراك حتى إن كان عفويا وغير منظم فهو ناتج عن واقع إجتماعي إقتصادي مرير أساء لغالبية الناس فولّد نوعا من الكره والنفور تجاه ما هو سائد كمنظومة سوسيوبوليتيكية كاملة تخدم فئة دون أخرى ولا تحقّق العدل الاجتماعي بين الناس فيسارعون إلى تغييرها ولو بالقوة ويبقى التغيير رهين الوعي بإشكاليات الراهن وعيا جمعيا لا فرديا نخبويا. قد يكون دور النخبة التوعية والتحسيس لكن النخبة بّاتها غير قادرة على التغيير دون نشر ذاك الوعي بين السّواد الأعظم القادر على الفعل حين تُمسّ أهم حاجاته المادية. فمحرّك الثورة الفرنسية لم الوعي الفكري فحسب بل كان الواقع الاقتصادي المتردي والجوع الذي طال السواد الاعظم من الناس وإنقطاع الأرزاق عنهم وفساد الحاكم وجوره ولا مبالاته بوضع رعاياه. ففي هذا السياق تتنزل مقاربتنا لحراك 17 ديسمبر في البواعث والمسار والمآل.
-
بواعث الانتفاضة
إن أيّ فعل إنساني هو فعل نسبي بمقاس العلمية المطلقة أو الحقيقة المطلقة فالخطأ والاصابة جائزان والفعل السياسي هو فعل إنساني بما يتبعه من خيارات اقتصادية تتجلى في المنوال الاقتصادي وما يتبعه ذلك من إجراءات تنعكس سلبا أو إيجابا على الوضع الإجتماعي للأفراد. فمنذ التسعينات كان خيار الدولة التونسية من الناحية الاقتصادية خيارا ليبراليا يعتمد على إقتصاد السوق بما فيه من خوصصة للقطاع العام وتمكين المستثمرين من الانتصاب والتسهيل الجمركي وتعديل مجلة الاستثمارات وتحرير الدينار والتفويت في قطاعات الدولة العامة لصالح شركات عابرة للقارات والانخراط في منظومة العولمة وما يتبعه ذلك من شروط مجحفة من قبل صندوق النقد الدولي الذي يسند قروضا بشروط مجحفة وما يطلبه من إصلاح هيكلي لبنية الاقتصاد الذي هو في الأصل إقتصاد معاشي محدود الموارد وغير مهيكل وليس له القدرة التنافسية مقابل المنتوج الغربي الذي غزا الأسواق وقضى على المنتوج الوطني. لقد شهدت تونس بداية نموا اقتصاديا محترما نتيجة بيع القطاع العمومي ونتيجة إقبال المستثمرين عليها نتيجة للشروط الميسرة لهم كعدم دفعهم للضرائب لمدة 5 سنوات من الانتصاب ووفرة اليد العاملة الرخيصة وقلة تكلفة الانتاج. لكن مع مرور السنوات إتضح فشل هذا الخيار فبدأت ملامح الفشل تظهر في إرتفاع نسبة العاطلين عن العمل وإرتفاع نسبة البطالة بين أصحاب الشهائد العليا وعدم قدرة السوق التشغيلية على إستيعابهم وتراجع مداخيل الدولة وضعف الموارد وبدأت نتائج التفويت في القطاع العام تظهر وتنعكس على الدخل الفردي وعلى مستوى العيش ونمط الاستهلاك، فسارعت الدولة إلى مزيد التفويت فيما بقي من القطاع العام والى الاقتراض مما زاد الوضع سوءا وصارت الدولة مرتهنة للدائنين وارتفعت نسبة المديونية وتراجع النمو الاقتصادي وغلت المعيشة. هذا من الناحية الاقتصادية أما من ناحية الحريات العامة والخاصة فقد كانت تونس دولة بوليسية بإمتياز تصادر الحقوق والحريات وتكمّم الأفواه وتواجه المنتقدين للخيارات الاقتصادية بقبضة من حديد وتقمع كل نفس معارض وكانت تدير انتخابات شكلية يمجدها الاعلام الموجه ويزيف الارقام ونسب النمو ونسب التشغيل والبطالة. كان التضليل والتعتيم شاملين فضاق الناس ذرعا بتدهور الحالة الاقتصادية والتضييق عليهم في موارد رزقهم إضافة الى فساد الحاكم وبطانته وإبتزازهم للناس فانتشر الفساد في كل مفاصل الدولة.
لقد ولّدت هذه الأوضاع حالة من الاحتقان واليأس لدى فئة الطيقة الوسطى والفئات الضعيفة الدخل ولدى الشباب المعطّل عن العمل وكانت بوادر الانتفاض تتجلى يوما بعد آخر. إلى أن إنفجرت بحادثة إنتحار محمد البوعزيزي ذات 17 ديسمبر حين صادروا عربته التي يرتزق منها ..
حينها تمسّك النقابيون والمعارضون بالوضعية وصعّدوا الأمر وانتفضوا وكانت تلك شرارة الانتفاضة الاولى التي كانت نتيجة حتمية لوضع اقتصادي واجتماعي متردّ.
إذا يمكن إعتبار أن العاملين الاقتصادي والاجتماعي هما المحرّك الاساسي لأحداث 17 ديسمبر وقد تجلى ذلك من خلال الشعارات المرفوعة … “التشغيل إستحقاق يا عصابة السراق” … “شغل حرية كرامة وطنية” …
فالوضع الاجتماعي كان عاملا رئيسيا في تأجج حراك 17 ديسمبر والّذي هو محصلة طبيعية لخيارات اقتصادية خاطئة باعت البلاد ورهنتها للغرب الاستعماري وسحقت أيناءها سحقا وجوّعتهم ودفعت بهم للتمرد على منظومة كاملة من الفساد والافساد .. منظومة فئة من البرجوازية المتنفذة والمرتبطة مصالحها المالية بالخارج …وبدفع من المعارضين الميدانيين والذين هم في الأصل نقابيون، من قوميين ويساريين، تواصلت الانتفاضة وانتشرت رويدا رويدا لتعم كامل البلاد إنطلاقا من سيدي بوزيد لتشل بداية المناطق المهمشة تاريخيا والتي لها تاريخ إنتفاضي طويل يعود الى سنة 1864 مرورا بالانتفاض ضد المستعمر الفرنسي وهو ما يسمى بمثلث الرعب أو التمرد الذي يضم قبائل الهمامة والفراشيش وماجر …
3. الحراك في ذكراه الرابعة
سنوات أربع مرت على هذا الحراك الذي يرى البعض أنه غيّر وجه العالم وأطاح بحكام وصعد بآخرين وماتبعه من توظيف خارجي له وماتبعه من خراب حل ببعض الدول وماتبعه من أجندات خارجية وظفته لتحقيق مآربها في المنطقة .. فمحليا هل حقق أحلام المنتفض؟؟
كانت إنتفاضة إجتماعية بإمتياز شعارها التشغيل والقطع مع التهميش والتوزيع العادل للثروة وما يعنيه ذلك من عدالة إجتماعية تتجه نحو مناطق أو أرخبيل الفقر تاريخيا والمقصود به المناطق الداخلية ذات الموارد الطبيعية الجمّة والمحرومة منها فنفطها وغازها وفسفاطها وفلاحتها لم تزدها إلا بؤسا وتهميشا وحرمانا. ثلاث سنوات مرت وجاءت حكومات وذهبت اخرى ولم تجن هذه المناطق إلا البؤس ومزيدا من التهميش والحرمان وبات المواطن الذي كان يطالب بالشغل والحرية والكرامة يلهث وراء أمرين أساسيين:
– لقمة العيش حيث أصبح يعاني من الغلاء المشط وتدهورت مقدرته الشرائية وبات عاجزا عن توفير الضروريات
– الأمن حيث اصبح مطلبه الرئيسي توفير ألأمن له لضمان حياته
لقد ظهرت أشياء لم تكن تخطر يوما على بال المنتفضين كالإرهاب الذي بات ظاهرة تؤرق المواطن واستهدفه في حياته ولقد شهدت البلاد عدة عمليات إرهابية من شمالها الى جنوبها وظهرت حركات متطرفة تنادي بقيام دولة إسلاموية وحركات قسمت المجتمع إلى مسلم وكافر وهو ما صدم عامة الناس وجعلهم ينسون مطالبهم الأساسية في التنمية والتشغيل .. بقطع النظر عمن وراء هذه الممارسات ومن يديرها ومن تستهدف وما الغاية منها ومن اللاعبون الاساسيين فيها، فإن حلم المواطن البسيط بات يتلخص في النقطتين سالفتي الذكر … وبدأت الاهداف الحقيقية للحراك تتلاشى ويتم تناسيها رويدا رويدا.
وقد ساهم الاعلام في ذلك بدرجة كبيرة كما ساهمت الحكومات المتتالية في تهميش هذه الاهداف عن قضد واضح وسعت المنظومة الجديدة الى إعادة رسكلة نفسها مستغلة ضعف حكام ما بعد انتخابات 23 أكتوبر وتواطئهم مع رموز المنظومة السابقة للعودة وبقوة …
لقد خابت آمال المنتفضين وذهبت أحلامهم أدراج الرياح وبات حديثهم عن التنمية والتشغيل والعدالة والمحاسبة محل تندر ولم يعد إلا القلة يتحدثون عن ضرورة تصحيح المسار وما أفرزته الردة من عودة قوية للمنظومة السابقة حيث وبعد إنتخابات 26 نوفمبر 2014 التشريعية عاد رموز الفساد الى تبوإ المناصب الكبرى في الدولة ودخلوا البرلمان من جديد في ثوب جديد وتحت يافطة حزب الدستوريين وهو حزب نداء تونس ..
سقطت أحلام المنتفضين وأتقن أهل الردة اللعبة وأزاحوا المنتفضين جانبا وحلوا محلهم لقد أعادوا صياغة انفسهم موظفين المال والاعلام والقوى الخارجية وثيقة الصلة بهم وحولوا مسار الحراك …
ماذا بقي للمنتفضين غير الذكرى والأحلام؟
هل مازال بالامكان تصحيح المسار ؟
يرى بعض المتفائلين من أبناء الحراك أن المعركة مع أنظمة الفساد مازالت طويلة وأن مقارعتهم مستمرة ولو لزم الامر العودة الى نقطة الصفر وأنه مازال بالإمكان تحقيق أهداف الحراك وتغيير الخارطة السياسية وهدم المعبد فوق رأس رواده وأن ما يحصل من أمر هو مجرد مرحلة وأنهم خسروا معركة ولم يخسروا الحرب … قد يكون تفاؤلهم مبررا لأنه من الصعب أن تعود ألامور إلى حالها الأول وبات من العسير عودة الاستبداد فحتى زمرة المنظومة القديمة تخشى أن تقع في هذا الخطأ لأن ألامر ليس بالسهولة التي قد يتصورها البعض وأن الانحراف مؤقت كما يراه البعض .. إنحراف ناتج عن عدة عوامل تتجاوز قدرة المنتفضين وتتداخل فيها عدة جوانب محلية وإقليمية ودولية …