توكفيل في السونترـ فيل: قراءة في العشرية الديمقراطية التونسية (الجزء الأوّل)
ألكسي دي توكفيل. لوحة لتيودور شاسوريو. المصدر: ويكيبيديا
بقلم: عماد قيدة
ها قد مضت عشـر سنوات منذ حطّت الديمقراطية رحالها في أعلى نقطة من أفريقيا، وكأن هذا الاختراع الأثيني، يقول للعالم أنّ درجة استحقاقك لنعم الديمقراطية تقاس أيضا، من بين ما تقاس به، بمدى قربك الجغرافي من مهدها، أي من أوروبا.
عشر سنوات مضت من التهليل والاحتفاء، وحتى التطبيل للديمقراطية الناشئة، ودعاوى دعمها ومؤازرتها حتى تكون تونس مثالا يحتذى به لدى بلدان الجنوب التي لا تزال قاصرة عن حكم نفسها بنفسها، وعن “إبهار العالم” كما فعل الشعب التونسي.
في معرض حديثنا عن الديمقراطيات الناشئة، تحضرنا ذكرى المفكر والرحّالة الفرنسي ألكسي دي توكفيل، الذي لطالما اعتُبر خير من عاين وكتب عن الديمقراطية كمفهوم حاكماتي gouvernementalité يخص العالم الضيق للسياسة، بالإضافة إلى كونه نظاما وفلسفة اجتماعية تتغلغل في مستوى عدد لا نهائي من الممارسات داخل مجتمع العيش المشترك والفضاء العام.
في كتابه الأشهر “الديمقراطية في أمريكا” دوّن دي توكفيل عصارة تجربته من داخل مجتمع كان يعيش دمقرطة (تحولا نحو الديمقراطية) شاملة كانت تشحذ جميع جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسة، وقد أراده رسالة الى مواطنيه في فرنسا التي كانت لا تزال مشتتة بين أحلام التحرر ودعوات الملَكية والتسلّط.
تنبع أهمية استدعاء توكفيل اليوم من الحاجة الملحة إلى عقول ثاقبة الملاحظة وصارمة الحكم والنقد، موضوعيا لا ذاتيا، وهو الشيء الذي ندرَ وجوده خلال العشـريّـة الديمقراطية التونسية، والتي لم تنتج فكريا أكثر من دراسات نخبوية إما مطبّعة مع ديمقراطية صورية وإجرائية لم تؤثر في شيء على الواقعين الاقتصادي والاجتماعي، اللهم بالخراب ومزيد التقهقر، وإما محاولات فكرية رافضة لمشروع الديمقراطية المستوردة من بلدان لا علاقة لها بالديمقراطيّة، لكنها ظلّت صيحات منفردة لم تجد أذنا صاغية لا داخل أسوار الجامعة ولا خارجها.
تصل الديمقراطية في تونس اليوم إلى نفق مسدود حيث استوفت جميع شروط الفشل، الذي بات جليا حتى عند من لم يطلع على شيء من نظرية النظرية السياسة وتاريخ تطور الديمقراطية في الغرب وفي العالم.
1 ـ أزمة التمثيل السياسي
أحد أهم أسس الديمقراطية، هي كونها نظاما تمثيليا قبل كل شيء، يمنح للمحكومين حق اختيار من يحكمهم، فضلا عن تقديم الطبقة السياسية خيارات حقيقية أمام الناخب ليرى نفسه في أحدها. غير أن العملية الانتخابية بعد انتفاضة 2011 حافظت دائما على ظاهرة الاستقطاب الثنائي التي تضرب مبدأ حرية الاختيار في صميمه، وعادة ما كان هذا الاستقطاب يدور في فلك ثقافي أو هووي لم يسهم سوى في تعويم وطمس المشاكل الأساسية للناخب، الذي وإن كان انجرّ طوعا في البداية إلى التصويت إما لمن يبيعون الهوية، أو لأولئك الذين يناهضونها، إلا أنه راح مع تقدّم عمر الديمقراطية يدرك أن الهوية وحدها دون خبز عصيّة على الابتلاع، وهو ما أدّى بنا في الأعراس الانتخابية الأخيرة إلى مأزق تمثيلي حقيقي، صار فيها حفنة من المتعصّبين والمتفرّغين لمصلحة أحزابهم، هم من يقررون من يحكم السواد الأعظم الذي انخرط في نقاشات سيبرانية عقيمة لا تترجم إلى مساهمة انتخابية، ولا إلى تعبئة احتجاجية فاعلة.
تحول المشهد السياسي سريعا من ديمقراطية ناشئة إلى بارتيتوكرازيا Partitocrazia على غرار النمط الذي ضاق الايطاليون به ذرعا وثاروا عليه، وهو نظام الحزبوقراطية لا تسعى سوى الى تمثيل نفسها والدفاع عن مصالحها، حيث تقوم، حسب آلان تورين، بـ “مراكمة موارد هائلة ومستقلة عن المشاركة الارادية لأعضائها بحيث يصبح بوسعها من جراء ذلك أن تختار مرشحيها للانتخابات وتؤمن نجاح عدد منهم ضاربة بعرض الحائط مبدأ اختيار الحاكمين بحرية من قبل المحكومين”.
2 ـ مجتمع مدني بلا بوصلة
يعتبر المجتمع المدني بمفهومه الواسع أحد الأعمدة الأساسية للديمقراطية، فهو يمثل تلك الحلقة الواصلة بين مجتمع الناس العاديين وشواغلهم، وبين عالم السياسة وماكينته البيروقراطية. لاحظ توكفيل عن الديمقراطية الأمريكية أن أشكال التجمعات شديدة التنوع للمواطنين تضطلع، وبشكل شبه اعتباطي، بمهمة كبرى هي سد الهوّة بين تطلعات الفرد المنتمي إلى هذه التجمّعات وبين من هم على قمة هرم السلطة. فالقيمة الليبرالية لمفهوم المجتمع المدني تتمثل في الاعتداد بالنفس وروح المبادرة، وهي تجد مكانها في الكنائس ونقابات العمال والجمعيات البيئية وغيرها من التعاونيات التي ينتظم فيها المرء سعيا منه إلى تحقيق مصالح معينة لتلك الفئة حتى ولو كانت شبه مجهولة للعموم. بمثل هذه التجمّعات، يكتسب المواطن دربة ويمنح نفسه خبرة في المحاججة والمطالبة والتنازلات، تجعله مهيّئا للخوض في غمار السياسة وصنع القرار العام. نبدأ من هذه النقطة في نقد العقلية المدنية التونسية، فلقد أثبتت التجربة أن هذا التكامل المحمود بين الدولة والمؤسسات السياسية من جهة، والمجتمع المدني من جهة أخرى، غائب تماما في ذهنيتنا، إذ يظلّ يصطدم بذهنية ثنائية تفصل فصلا صارما بين من عليهم أن ينكبوا على الاشتغال بالسياسة دون غيرها وبين من تنتمي اهتماماتهم وتطلعاتهم إلى عالم “اللاسياسة”. جعل هذا التقسيم المجحف السياسيين يدورون في فلك “ما بعد السياسة” وهو مصطلح يحيل إلى نضوب ينابيع الايديولوجيات والأفكار السياسية والتبشير بحكم الخبراء، كما جعل من يمارسون العمل المدني محرومين من الولوج إلى مراكز اتخاذ القرار السياسي، هذا إذا يوصموا بالوصولية والتخفي وراء العمل الجمعياتي بغية تحقيق مطامح سياسية، وكأن تلك تهمة في حد ذاتها.
بعد انتفاضة 2011 تحول مفهوم المجتمع المدني ـ من كونه أحد أذرعة السلطة وأدواتها في إيهام العالم بلا تسلّطية الدولة من خلال بعث جمعيات ومنظمات ومنصّات وغيرها من “المبادرات” الوهمية والتي لا دور لها سوى تلميع سياسات الحزب الحاكم ـ إلى حالة عنوانها الوحيد الغموض حول الأجندات التي تحرّك عددا كبيرا من المنظمات غير الحكومية الناشطة في البلاد، فضلا عن التمويلات التي تضخ لمنتسبيها من جهات خارجية.
إلى جانب الناشطين المجتمعيين المشبوهين، نجد كذلك جمعيات ومنظمات تتّخذ تلقائيا قضايا مسقطة بشكل فاضح على واقع ليس لها، إذ هي عوضا عن الانطلاق من أوجاع المجتمع الذي هي فيه، تقوم باستيراد مشاكل أمريكو ـ أوروبية لا هي من بين أولويات مجتمعها ذي الديمقراطية الناشئة ولا هي واضحة للعيان.
لم يكن العمل المدني من تقاليدنا قبل حراك 2011، لذلك فشلت الثورة في بلورة أهداف واضحة ورؤية مجتمعية، غير سياسوية، لمستقبل البلاد، وهو ما جعلها تقع في براثن المتناحرين سياسيّا، حيث يسعى كل طرف إلى أن ينسب النجاح المفاجئ للثورة له ولنضالاته السابقة حتى وإن كانت نضالات لا ديمقراطية في سبيل دولة ثيوقراطية (لاهوتية) أو نظام تسلطي آخر تحت مسمى يساري أو قومي.
نشهد اليوم بعد تدابير تجميد البرلمان نفس الحالة من الشلل المجتمعي، الذي بوغت كالعادة بالقرارات المتخذة من أعلى هرم السلطة السياسية تجاوبا مع صوت الشارع الساخط، وقد غاب أي تمظهر جمعياتي تنظّمي من أي نوع كتجاوب مع هذا الحراك، وهو ما نتج عنه كالعادة ظهور راكبين على الحدث بعد نجاحه في زعزعة النظام القائم، مثل ما سمي “المجلس الأعلى للشباب” الذي نصب نفسه منبعا للحراك ومسؤولا على الحرص على تحقيق أهدافه.
3 ـ نقص المناعة الديمقراطية
من نافلة القول اعتبار أي ديمقراطية غير قادرة، بمؤسساتها السياسية والبيروقراطية، ومن خلال “الذهنية الديمقراطية لشعبها” على حد تعبير توكفيل، أن تمنع أو تقطع الطريق أمام الطامعين في التفرد السلطوي بالحكم، هي لم تكن يوما ديمقراطية من الأصل، فهذه الأخيرة كلّ متكامل تعمل ميكانيزماته السياسية والثقافية على نطاقات متوازية، وهي وإن تخلق بذلك جدلا متواصلا وتفاعلات متنوعة بين أقطابها، فإن الفيصل يكون دائما القانون المتفق عليه من قبل الجميع. أما بالنسبة للديمقراطية التونسية، التي احتفينا بجانبها الإجرائي وباركها المراقبون، وتوجتها أكاديمية نوبل بجائزة السلام، بقيت منقوصة وعرجاء لا من خلال غياب مشبوه لمرجعيات قانونية محورية مثل المحكمة الدستورية فحسب، بل وكذلك من خلال غياب الدمقرطة المجتمعية والاقتصادية والجامعية. تجثو إلى اليوم على صدر الاقتصاد التونسي سياسات لا هي ليبرالية ولا هي سياسات مطوّقة صريحة، بل هي طبخة وتوليفة من القوانين المكبّلة والفساد الشامل التي تخدم زمرة من العائلات المتنفذة منذ الاستقلال، تسدّ شرايين الاستثمار الخارجي وتحتكر سبل خلق الثروة بالنسبة لأبناء البلد من خلال سياسة إسناد رخص الاستثمار ورخص بيع الخمور وتغيير صبغات المؤسسات وغيرها.
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد السابع، سبتمبر 2021، ص.ص. 12-13
للاطلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf7