التنمية البشرية: هل هي محض هراء؟
|بقلم: حمزة عمر
نطلق في اللغة العربية عادة مصطلح “التنمية البشرية” على ما يمكن ترجمته حرفيا من الأنجليزية بـ”المساعدة الذاتية” أو “التنمية الذاتية”. لا شكّ أنّ المصطلح العربي مخاتل، إذ أنه يبعث على الاعتقاد أنّ المادة المقصودة ذات طابع علمي، بما أنّ هناك مؤشرا للتنمية البشرية يعتمده برنامج الأمم المتّحدة الإنمائي وتُصنّف بموجبه الدول حسب مستوى التنمية لديها بشكل لا يقتصر فقط على الجانب الاقتصادي، وإنّما بأخذ جودة حياة المواطنين بعين الاعتبار. لا علاقة بين الأمرين رغم الاسم المتطابق. منذ بضعة أعوام، أثار إحداث شهادة إجازة في التنمية البشرية بإحدى الكليات التونسية موجة من السخرية على شبكات التواصل الاجتماعي، إذ اعتقد الكثيرون أنّ جامعاتنا الموقّرة أصبحت تعتني بتدريس الترهات لطلبتها.
ربّما يشكّل غياب الطابع العلمي أبرز نقد قد يوّجه إلى هذه التنمية البشرية. قد لا تكون الحياة في حدّ ذاتها علما، ولعلّ خوض غمارها أقرب إلى الفنّ منه إلى العلم، لكن المشكل أنّ هناك علما قائما بذاته يتقاطع بشكل كبير مع ما تزعم التنمية البشرية، وهو علم النفس. خطا هذا العلم خطوات عملاقة منذ نشأته جعلته لا يكتفي فقط بالجانب التحليلي، بل أضحت له مقاربات شديدة العملية تهدف إلى تحقيق تغييرات ملموسة في سلوك الأفراد الذين يلجؤون إليه. مقارنة بذلك، ما هي المقاربة التي تقترحها التنمية البشرية؟
من الصعب إيجاد جواب واحد لذلك. مهما بالغ روّاد التنمية البشرية، فإنّ ما يمارسونه ليس علما على الإطلاق، حتى وإن تحدّثوا عن “قوانين” من طينة “قانون الجذب”. بضاعتهم في أغلب الأحيان مجموعة من الأقاويل التي يتفّوه بها بعض اللسنين من ذوي الكاريزما التي تفترض قدرة عالية على التواصل يقنعون بها من يستمع إليهم أنّهم يمتلكون حكمة مفارقة هم قادرون على ترجمتها عمليّا في حيوات المتلقّين.
في الكثير من الأحيان، لا تكون المادة المروّجة غير وهم محض. هذا من قبيل إقناع الحمار أنّه أسد. حتى إذا استبطن ذلك، سيفتضح أمره متى كان في مواجهة أسد حقيقي ذي أنياب ولبدة. بمعنى آخر، قد ينطلي الأمر على المتلقي متى كان في بيئة بعيدة عن المؤثرات الخارجية. لكنّه متى خرج إلى الحياة، سيجد كلّ القناعات المصطنعة تهوي في واد سحيق.
كما أنّ التنمية البشرية تقدّم نفس الوصفات تقريبا للجميع. الكلّ لديها قابلون للتغيير بشكل إيجابي في مدى قصير. الجميع منذورون للعظمة بشكل من الأشكال، مهما كانت إمكاناتهم ومهما كانت مساراتهم الشخصية. في ذلك جانب من الحقّ، فالقدرة على التغيّر كامنة في الجميع، ولكنّها في الحقيقة ليست متاحة لديهم بنفس المقدار. لا يمكن مثلا لشخص محدود الذكاء أن يتحصّل على جائزة نوبل للفيزياء مهما أراد ذلك.
وتبالغ التنمية البشرية عادة في تقدير قيمة “العزيمة” في إحداث التغيير المأمول. لا شكّ أنّ الرغبة في إحداث تغيير إيجابي هي الخطوة الأولى إليه، لكنّها لوحدها لا تكفي لشيء. كم من قرارات نتّخذها تحت تأثير صعود مفاجئ لمنسوب العزيمة، خصوصا في بعض المناسبات المميّزة كرأس السنة وذكرى الميلاد: أن نأكل أكلا صحيا، ألا نبالغ في السهر، أن نمارس الرياضة بانتظام… ثم لا تلبث هذه القرارات أن تذهب هباء منثورا.
هل يعني ذلك أنّه يجب نضرب بالتنمية البشرية بطمّ طميمها عرض الحائط؟ من المؤكّد أنّ ضررها في بعض الحالات أكبر من نفعها، لا سيّما في الحالات المرضية كالاكتئاب الحاد التي قد تستدعي حتى تدخلا طبيّا والتي يكون فيها تدخّل “خبراء التنمية البشرية” ضربا من الدجل. لكن إذا كانت الأمور لا تزال على حال من “العادية”، قد يكون في التنمية البشرية بعض النفع. لنتذكّر ما قلناه قبل قليل من أنّ الحياة فنّ، وللفنّ طرقه الخاصة التي يقف العلم أمامها مذهولا. أحيانا تضحي كلمة يقولها صديق بطريقته الخاصة أشدّ نفعا من أعمق محاضرة يقدّمها أعتى الخبراء النفسيين. ليست الطرق المنهجية العلمية هي وحدها ما تؤثّر في النفس. النفس أعقد من ذلك. ربّما يمتلك شخص ما قدرة ما على التأثير في الآخرين يمكنها استعماله بشكل إيجابي. حتى إن لم يكن قادرا على التأثير في الجميع، فيمكنه أن يؤثر في البعض، وحسبه ذلك. في كلّ الحالات، يلعب المتلقي دورا حاسما ليحدّد إذا كان بإمكانه الاستفادة. عليه هو أن ينتقي ما يناسب طبعه وميوله ولا ينتظر فرجا ينزل عليه كالوحي الإلهي. أن تنتظر لقاء “حكيم” يهديك سواء السبيل هو من قبيل العيش بالأماني. لا ننسى الإسم الأصلي: “المساعدة الذاتية”. على المرء أن يكون على درجة من الوعي تخوّل له أن يعرف ما يمكن أن يساعده. قد يكون ذلك من قبيل الصياغة المعاصرة لعبارة “اعرف نفسك بنفسك”.
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 28، جويلية 2023.
للاطّلاع على كامل العدد وتحميله: http://tiny.cc/hourouf28