سيوران والماليخوليا الغاضبة
|في إمكانية أن نخلص إلى كآبتنا بكل طواعية
بقلم: نور الهدى جلال
يمكن أن تصبح الكآبة هي الحدث الأعظم الملازم لوجودنا في العالم، حتّى تستدعي منا تأجيل موتنا العضوي يوما أو بضعة أيام دون رغبة في أي خلاص ميتافزيقي أو بحث هستبري على مبرر للحياة، أي مبرر لصدمة الميلاد التي وقعنا تحت وطأتها قسرا وتحمّلنا مسؤولية صياغة المعنى في كل مرة بحيث نحافظ على إمكانية أن نكافأ بحياة جديرة بأن تعاش.
يقول الشاعر الياباني ايشياكوا تاكوبوكو :
” كل شيء يبدو زائلا
واليوم الذي ألملم فيه أحزاني
في الطريق إلى الزوال “
إثر وعينا بحقيقة محدودية نوعنا، أي أننا متجهون نحو الموت على حد قول هيدغر “كينونة نحو الموت”، فنحن لا نصير إلى أنفسنا، الى ذواتنا الأصيلة إلا لحظة وعينا بحقارة موتنا. في هذه اللحظة تحديدا ما علينا إلا قبول واستيعاب هذه الحدة المرئية الملازمة لوجودنا -الإمكان اللا-علائقي الأكثر خصوصية-.
ومن هنا تصير فاجعة الموت هي المحرك الحيوي الأساسي في فعل تشكلنا، التشكل على نحو مرضي كئيب وقلق نحصّن فيه ذواتنا بكمّ الشاعرية المفرطة الملقاة من حولنا على نحو عشوائي، والتي تصوغها لنا الحياة في كل مرة في حمى اللغة، في المجاز والاستعارات، في الشعر المؤهل لاستنطاق المعنى المصلوب في الماليخوليا التي تسكن الأرواح المؤهلة للغرق والتحلل كلما كانت المياه التي تغلي داخل الطوفان دموية صرف.
يخط سيوران في “رسالة في التحلل” هذه الكلمات: ” ليس في وسعنا أن نتلافى الكينونة عن طريق الشروح. بل لا يسعنا إلا أن نكابدها، أن نحبها أو نكرهها، أن نعبدها أو نخشاها في ذلك التناوب بين الغبطة والرعب الذي يعبر عن حقيقة إيقاع الكائن بتقلباته وتنافر نغماته وسوراته اللاذعة المرحة”.
إزاء كينونة مليئة بالنضال والألم الصرفين، تضحي الكآبة حالة مرغوبا فيها تدفعنا لاستفزاز الحياة والاستمرار في خوض هذا العراك الأخرس إلى نهايته لأنها كآبة غاضبة، متوحشة، متطرفة تقف وجها لوجه أمام فكرة اننا بإمكاننا انهاء هذه الحرب الضروس في ان نصير إلى ذواتنا الحرة إلى ما يتعدى أنفسنا. لكن، ما الذي يشدنا؟ هل هو هذا الرعب الممتع للدوار؟ أم هشاشة أنطولوجية تكافح ضد سأمها وتعبها من الاستمرار؟ أم كآبة تصاغ داخلنا على أنها حقد حالم؟
وحده القلق -اليوتوبيا السوداء الموسومة بلون الغرق- يحملنا نحو ضرب من المقاومة الشرسة التي تحتدم داخلنا دون أن نحتمي بآلهة تفك أسرنا او تسارع إلى مواساتنا ورتق الهوة التي نراقب من خلالها أنفسنا.
كان سيوران منكبّا على حزنه يشتهيه أكثر من أي شيء. كانت فكرة الانتحار تدفعه إلى أن يحيا ورغبته في الموت تدفعه إلى أن يحظى بحياة جديرة بأن تعاش. كان يقول في ديوانه “المياه كلها بلون الغرق” أنه يحيا لأن بوسعه أن يموت متى شاء. لولا فكرة الانتحار لقتل نفسه منذ البداية. اليأس هو صرخة الأرواح العاجزة على استشراف مستقبل يليق بهذا التعفن الآني للبشرية. علينا إذن أن نصل إلى ذروة يأسنا ما دمنا لا نملك مبررا للحياة، فلماذا لا نستمر فيها دون إنهائها ما دمنا لا نملك مبررا للموت كذلك لأن الصراع الأعنف على الوجود يعلن كذلك تنازلا قسريا بنفس العنف.
يقول الشاعر الألماني رانيه ماريا ريلكه في قصيدة له كتبها ببرلين سنة 1899:
“من غور صبواتنا غير المتناهية
تنبجس أفعالنا المحدودة كنوافير هشة
سرعان ما ينسكب ماؤها بالارتجاف
لكن قوانا الفرحة
تلك التي تبقى خافية علينا
إنما تتجلى في هذه الأدمع الراقصة.”
نُشر هذا المقال بمجلّة حروف حرّة، العدد 24، مارس 2023.
للاطّلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf24