الاستفتاء أو تمييع الإرادة الشعبيّة
| من أطرف التعاليق الّتي قرأتها عن الاستفتاء الّذي كثرت الدعوة إليه مؤخّرا أنّه يجب استفتاء الشعب إن كان يريد الاستفتاء أم لا !
وحتّى إن أريد بهذا القول مجرّد الفكاهة، فهو يكشف عن مشكلة يطرحها موضوع الاستفتاء هذا. “الشعب” لم يعبّر عن رغبته في الاستفتاء وإن كان هناك تحرّك شعبي للمطالبة بمجلس تأسيسي، فلم أسمع بأيّ تحرّك يهدف إلى الاستفتاء على صلاحيات هذا المجلس. وهذه المطالبة بالرجوع إلى الشعب (دون أن يطلب الشعب ذلك) واتهام معارضي الاستفتاء بالخوف من إرادة الشعب هي في الحقيقة تمييع لفكرة الإرادة الشعبيّة. فالاستفتاء على صلوحيات المجلس التأسيسي ومدّته يعني أنّ “الإرادة الشعبيّة” المعبّر عنها في الاستفتاء ستحدّ من الإرادة الشعبيّة المعبرّ عنها بالانتخاب الّذي يرون أنّ نتائجه قد تكون خطيرة، في حين أنّ الاستفتاء المقترح لا يمكن أن يعبّر بتاتا عن إرادة شعبيّة، وأنّ المجلس التأسيسي المنتخب ليس بالخطورة الّتي يصوّرونها.
1) يعتبر داعمو فكرة الاستفتاء أنّهم سيرجعون أمر تقييد صلاحيات المجلس التأسيسي إلى الشعب. ولكن ليس الشعب من سيختار المدّة المستفتى عليها. فالشعب سيقتصر دوره على قول “نعم” أم “لا” على سؤال طرحه عليه طرف ليس له شيء يذكر من المشروعيّة، سؤال غير بريء بالمرّة. فإذا افترضنا أنّ السؤال المطروح هو “هل توافق على تحديد مدّة المجلس التأسيسي بـستّة أشهر؟” (كما ورد ذلك على لسان عدد ممّن يؤيّدون الاستفتاء)، وإذا افترضنا أنّ أغلبيّة الشعب تريد تقييد مدّة المجلس التأسيسي، لكن بسنتين أو ثلاث، فلن تجد الخيار الّذي يوافق تطلّعاتها، وستضطرّ للتصويت فقط لأنّها تؤيّد مبدأ التقييد، رغم أنّ الفرق بين المدّتين كبير جدّا. وبذلك، يمكن أن يقع، بإسم المشروعيّة الشعبيّة، تمرير قرار بعيد كلّ البعد عمّا يريده الشعب.
2) من المقترح أن يشمل الاستفتاء كذلك التصويت على النظام المؤقّت الحالي للسلط العموميّة، وذلك لإعطاء الحكومة المشروعيّة اللازمة لمواصلة مهامها، وليقتصر دور المجلس التأسيسي على وضع الدستور دون غيره من المهام. والنظام المؤقّت الحالي للسلط العموميّة يضع السلطتين التشريعيّة والتنفيذيّة بيد الحكومة ورئيس الدّولة. وبذلك، فإنّ هذا الاستفتاء الّذي ينطلق من المخاوف من دكتاتوريّة مجلس منتخب سيمنح الشرعيّة لحكومة غير منتخبة لها مطلق السلطات دون أيّ رقابة عليها !!! في الحالتين ستجمع السلطات بيد هيئة ما، ويبدو من غير المجدي، بل والاعتباطي، تخيير الشعب بين هيئة انتخبها وهيئة لم ينتخبها تعطى لها المشروعيّة الشعبيّة بمجرّد الاستفتاء وتظلّ قائمة حتّى إذا فشل المجلس في تحقيق مهمّته في الأجل المحدّد، بما أنّه لا وجود لما يحدّد مدّتها !
3) في طرح استفتاء على مدّة المجلس واستفتاء على النظام الوقتي للسلط العموميّة إلى جانب انتخاب أعضاء المجلس التأسيسي تعقيد للإجراءات أمام مواطن سيشارك للمرّة الأولى في حياته في انتخابات ديمقراطيّة. فالناخب سيكون مدعوّا في الخلوة لا لاختيار مرشّحه فقط، بل للقيام بثلاثة خيارات (إذا لم يقع اقتراح استقتاء على شيء آخر !)، ويخرج منها ليجد أمامه لا صندوقا واحدا بل ثلاث صناديق (عليه أن لا يخطئ في وضع الظروف فيها وإلا كان تصويته لاغيا أو معبّرا عن غير إرادته). كلّ ذلك من شأنه تنفير المواطن من المشاركة في هذه العمليّة، وهو الّذي كان حماسه محدودا للتسجيل في القائمات عندما كان الأمر يتعلّق بعمليّة الانتخاب وحدها.
4) تمّ اختيار طريقة اقتراع (على القوائم باعتماد النسبيّة حسب أكبر البواقي) تمنع تفرّد قوّة سياسيّة واحدة بالأغلبيّة داخل المجلس، بل أنّ هذه الطريقة ستمنح لأكبر القوى السياسيّة تمثيلا يقلّ عن وزنها الانتخابي. وبالتالي، لا مجال لهيمنة أيّ كان على القرار. قد لا يكون هناك توازن بين السلط من الناحية القانونيّة، بما أنّ المجلس سيجمع السلط بيده، ولكنّ تركيبة المجلس بتنوّعها وغياب هيمنة أيّ طرف عليها ستمنع من الناحية السياسيّة والواقعيّة أيّ اتّجاه نحو الاستبداد. ويجدر التذكير أنّ النظام السويسري لا يفصل بين السلط، بل يجمعها لفائدة المجلس النيابي، ولم أسمع مع ذلك من يتّهم النظام السويسري بأنّه نظام استبدادي !
5) يقول دعاة الاستفتاء أنّ عدم تحديد مدّة المجلس التأسيسي سيؤدّي إلى تمديد الوضع الوقتي إلى فترة غير محدّدة، وهو ما قد يؤدّي إلى التمديد في الفوضى وعدم الاستقرار اللّذان تعيشهما البلاد. وهذا القول ينطوي على مغالطة، فالفوضى الحاليّة ناتجة لا عن الطابع الوقتي للحكومة ولكن عن افتقادها إلى المشروعيّة الشعبيّة، بينما سيكون المجلس التأسيسي والحكومة الّتي ستنبثق عنه المشروعيّة الشعبيّة الكافية المتأتيّة من إرادة الناخبين لاتّخاذ أيّ قرارات، ولن يقتصر دورهما، عكس الحكومة الحاليّة، على تصريف الأعمال.
6) من الغريب أن يطرح موضوع الاستفتاء قبل شهر ونصف من الموعد الانتخابي (وهو ما يقابل الدقيقة 85 في مباريات كرة القدم). وكان يجدر بمن يتبنّاه أن يطرحه صلب الهيئة العليا عندما كان القانون الانتخابي مطروحا للنقاش. أمّا طرحه الآن، فيعني أنّه يجب تنقيح النصوص الخاصة بالتنظيم الوقتي للسلط العموميّة (لتمكين الرئيس المؤقّت من عرض مسألة الاستفتاء على الشعب) والقانون الانتخابي والقوانين المنظّمة للهيئة العليا المستقلّة للانتخابات، وهو ما يتطلّب وقتا، وهو ما يضاف إلى تحضيرات لوجستيّة ضروريّة (أقلّها اقتناء ثلاث صناديق عوض صندوق واحد في كلّ مكتب اقتراع !!). وهذا ما يجعل من غير الممكن تنظيميّا تطبيق مقترح الاستفتاء (وهو ما عبّر عنه الأستاذ عياض بن عاشور في حديث مع جريدة “الصباح” يوم 7/9/2011)، اللهمّ إذا تمّ تأجيل الموعد الانتخابي مرّة أخرى !
إذا أضفنا إلى ذلك الشبهات الّتي تحيط ببعض الأطراف الداعية إلى الاستفتاء (أوّل من دعا إليه “التآلف الجمهوري” الّذي يضمّ في معظمه أحزابا ولدت من رحم التجمّع وأحزاب ديكور في العهد البائد، ومنسّقه العام هو طارق من مبارك، النائب عن التجمّع لثلاث مدد)، يصبح مقترح الاستفتاء طريقة للتلاعب بالمشروعيّة الشعبيّة، بإسم المشروعيّة الشعبيّة. ربّما يطول عمل المجلس التأسيسي…ربّما يقع تهميش الوظيفة التأسيسيّة لصالح الوظيفتين التشريعيّة والتنفيذيّة. هذا وارد. ولكن إذا بدأنا انتقالنا الديمقراطي بالتشكيك في جدوى الانتخاب (الوسيلة الأولى بامتياز لتجسيم الديمقراطيّة) وعدم الثقة في من سننتخبهم، فإنّ ذلك يعني أنّنا نشكّ أساسا في صلوحيّتنا للديمقراطيّة ! وكما قال الوزير الأوّل في خطابه الأخير، لا يمكن أن ينتج عن اجتماع المجلس التأسيسي “إلا الخير”.