حقوق الطفل وواجبات التربية. مقال لفيليب ميريو*

ترجمة: خالد جبور

غنيةٌ عن التعريف المعاركُ التي خاضها جانوز كوركزاك من أجل الاعتراف بحقوق الطفل. وهو يرى أن جوهر هذه الحقوق إنما هو ضرورةُ أن يعترف البالغون بالطفل باعتباره كـائنا كاملا وفـي الآن نفسه أن يضعوا في حسبانهم أنه فرد غير تام الاستكمال، وباعتباره ذاتا جديرة بالاحترام، وذاتا بحاجة إلـى الدعم والمساندة. والطفل ذات تُحترمُ لأنه مشارك بالفعل في الشرط الإنسانـيِّ تمام المشاركة (إنّ “هموم الصغار ليست البتة هموما صغيرة.”  كما يذكرنا بذلك جانوز). الطفل يحتاج، بسبب عدم نضجه البدني والعقلي، إلى حماية قانونية مناسبة تضمن له حقوقا أساسية هي ضَمَانَة رفاهيته ونموه ونضجه.

 

اتفاقية حقوق الطفل: بين الحقوق الأساسية وحقوق المُشاركة

استعادت الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل هذه الثنائية إذ عرضت لنوعين من الحقوق: الحقوق الأساسية وحقوق المُشاركة. أما الأولى، فهي ما يُعبّرُ عنه بعبارة ” الحقّ فـــي “، أي الحقوق الواجب على المجتمع أن يضمنها لكـل طفل، وهـي بذلك فروض وواجبات على البالغين. وهذه الحقوق إنما هي الحق في النسب والجنسية، والحق في معرفة الوالدين، والحق في الانتماء إلى أسرة، والحق في التغذية والسكن اللائقين، والحق في الصحة، والحق في المساعدة بالنسبة للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، والحق في التربية والتعليم، والحق في الحياة الخاصة، والحق في الحماية من كل أشكـال المعاملة السيئة والاستغلال الرّبحيّ، والحق في التّمتّع بكـل الضمانات القانونية في حالة شبهة بخرق القانون الجنائي…

 وأما حقوق المشاركة فهي” أحقية الطفل فـي”، وتشمل على وجه التخصيص الحقوقَ المُتضمَّنَة في المادتين 12 و13 من الاتفاقية. وتقول هذه الحقوق بأن الطفل بإمكانه أن يمارس بنفسه بعض الحريات المدنية. وبذلك لابد أن يكون قادرا على ” التعبير عن آرائه بكـل حرية بخصوص كـل مسألة من المسائل التي يهتم بها”، وأن يُسمعَ في كافة أطوار الإجراءات القضائية أو الإدارية التي تعنيه، وأن ” يتمتع بحرية البحث عن الأخبار والأفكار وغيرها، وحرية نشرها، في وطنه وخارج حدود وطنه، كائنة ما كانت صيغتها: شفهية، أم مكتوبة مطبوعة، أم أشكال فنية.” بل وأكثر من ذلك، فالدول الموقعة على الاتفاقية من واجبها أن تحترم حق الطفل في التفكير، والإيمان والانتماء لأي دين،” كما تضمن له حقه في الانتماء لتنظيم من التنظيمات وحقه في التجمّع السلمي؛” إلا أن كل هذا مُقيّد مشروط بسن الطفل ودرجة نضجه وقدرته التفكير والفطنة.

ولئن كانت أجرأة الحقوق الأساسية محطّ تدقيق منتظم وتقييمات مستمرة، فإن تنزيل حقوق المشاركة لا تفتأ أن تكون بلا شك مسألة شائكة تطرح مشكلات شتى، وبيان ذلك أنه لمّا كـانت الحقوق الأساسية مسألة مستحقات فإن حقوق المشاركة مرتبطة بمسألة واجبات. والحقوق الأساسية أنما تُطبَّقُ – أو بالأحرى من الممكن تطبيقها- عبر مؤسسات تحرص على احترام النصوص التشريعية التي تحدد مدارات تلكم الحقوق؛ والحال أن حقوق المشاركة لا تجد إلى التجسّد سبيلا إلا إذا توفرت شروط في ظل وضعيات حيث الراشدون والأطفال أنفسهم يضطلعون تمام الاضطلاع بواجب التربية. الحق في السكن متعلّق بإجراءات التطبيق والتنزيل، أما الحق في التعبير عن الرأي فهو مرتبط بمسألة تربية. فبدون مصاحبة تربوية متطلِّبة، وبدون توفر وضعيات ملائمة للطفل تمكنّه من التخلّص من نزعاته ونزواته الأولية، وتجعله مُحصَّنا من ضروب التنميط الذي يمارسه عليه المجتمع والإشهار، ومن شتى ألوان السطوة العاطفية أو الإيديولوجية أو التجارية الربحية، فبدون ذلك كلّه لا تعدو حقوق المشاركة أن تكون محض حقوق جوفاء. والأنكى من ذلك كون هذه الحقوق قد تصير ضرا وشرَّا لقضية حقوق الطفل إذِ أنّ التظاهر بتوفير حقوق المشاركة لأطفال لا عِلْمَ لهم بها، يؤدي في أغلب الحالات إلى خسارات، بل إلى اعتداءات وخروقات انطلاقا منها يصدر المتخصصون أحكاما من قبيل: ” وقد نبهنا إلى ذلك من قبلُ”، وانطلاقا من ذلك يُعبِّرون عن رفضهم حقوق الطفل لأنها – بالنسبة لهم- مجرد ذر للرماد في العيون خطير.

أَ حقوقُ المشاركةِ محضُ وهمٍ؟” 

  فإن نحن نظرْنا في برهنة هؤلاء وبراهينهم، وجدناهم يتساءلون: كيف يمكن للاتفاقية أن تعرض لحرية التعبير لدى الأطفال، وكيف يمكن أن تشجعهم على المطالبة بالحق في الجهر بمعتقداتهم الدينية أو قناعاتهم، وأكثر من ذلك، كيف تقول إن من حق الأطفال تأسيس جمعيات ونشر شتـى الأفكار والمعلومات؟ ألسنا، والحال كذلك، في ضرب من المشي على الرؤوس عوض الأقدام؟ وما لا يُدركُ إلا في أعلى أطوار صيرورة التربية ألا نعتبره قد أُنْجِزَ وتحقق؟ وبكل بساطة، ألا نمنع عنّا تربية من هم حديثو عهد بالعالم، باسم تقدير مزعوم؟  ألسنا نمنح الأطفالَ الحقوقَ لكي نتفادى إلزامهم باحترام واجباتهم؟ وأنكى من ذلك”: ألا يمكن القول إن هذه الحقوق حجبٌ مُحتشم لاستقالة الراشدين وإلقائهم العبء على كاهل الأطفال ليقرروا مصير العالم، إذْ لم يعودوا على بيّنة ممّا يجدر بهم نقله إليهم وتعليمهم إياه؟ إننا هنا أمام مخاطرتين: فمن ناحية، نحرم الطفل من حقه في الطفولة مع ما يتضمن هذا الحق من لا مسؤولية ضرورية، ومن ناحية أخرى، نضعه في موقع الطاغية المستبد، فيُلزم بأخذه على محمل الجدّ حتى في أصغر نزواته، ويصير بذلك وكأنه مدبر للعالم حتـى أنه يحدّد مصير والديه والقائمين على تربيته.

ولننظر الآن نظرة عن قرب في ما تضمنته الاتفاقية، وبالتحديد في مطلع المادة 12، وهي مادة حمّالة رمزيات على كـل المستويات، فنقرأ : ” تكفل الدول الأطراف في هذه الاتفاقية للطفل القادر على تكوين آرائه الخاصة حقَّ التعبير عن تلك الآراء بحرية في جميع المسائل التي تمس الطفل، وتُولى آراء الطفل الاعتبارَ الواجبَ وفقا لسنه ونضجه.” إذا أقررنا بأن هذه الصياغة ليست محض تسوية بين ضربين من الوعي متفاوتين وتوفيق بينهما على مستوى التحرير فقط، فإنها، بالرغم من إقرارنا هذا، تطرح مشاكل شائكة تظهر ما إن نتساءل عن سبل التوفيق بين “الحق في التعبير عن الآراء” والتحفظ بخصوص القدرة على التفكير وبناء الآراء، وعن كيفية إيلاء الاعتبار لرأي الطفل مع الأخذ في الحسبان سنه ودرجة نضجه، ومع العلم أيضا أن نص الاتفاقية ذاتَه يشير إلى السن التي فيها نبلغ شتى درجات النضج. وما السبيل إلى تحديد المسائل التي تمسّ الطفل وما الذي تعنيه بالضبط؟ أهي المسائل التي يهتم بها أو تلك التي تعنيه؟  وضمن كـل هذه المسائل التي تعنيه، أيها بالضبط يستطيع الطفل التعبير عن التفاعل بخصوصها وتقديم رأي يؤخذ بعين الاعتبار؟ وهل يجب أن نولي الاعتبار لآراء الطفل بخصوص توازنه الغذائي أو بخصوص التخصصات التي يدرسها بالمدرسة؟ أيجب أن نناقش الأطفال نقاشا حاسما في كل معطيات حياتهم اليومية؟ أيجب أن نحاججهم لإقناعهم بجدوى كل قرار نتخذه لمصلحتهم؟

وانطلاقا من هذه الشروط، ألا يجوز أن نعترض على ما جاء في الاتفاقية من مفاهيم وأن نعترف بأن تغنّينا بــ”حرية تعبير” الطفل وإلحاحنا على “إيلاء الاعتبار لرأيه” ضربٌ من الخداع القصدُ منه حجب تنحي البالغين؟ زد على ذلك أن متن الاتفاقية كـلّه ينبنـي على ضرورة الفصل بين الطفولة والرشد لتحديد واجبات الراشدين من زاوية حقوق الطفل؛ ولكنْ لا نصَّ فيها يشير إشارة صارمة إلى الخط الفاصل بين الأطفال والراشدين. وهكذا، أليست الاتفاقية مناقضة لذاتها إذ تدّعي احترام حرية التفكير والرأي لدى الطفل ثم في المادتين 28 و29 تصرح جهرا بالحق في التربية، وتقول إن التربية تهدف إلى ” تنمية احترام الطفل لذويه وهويته ولغته وقيمه الثقافية والقيم الوطنية للبلد الذي يعيش فيه أو البلد الذي نشأ فيه في الأصل”؟  وكيف التوفيقُ بين حرية المعتقد والتعبير من جهة، وتمكين مبدأ احترام سلطة الأسرة والتقاليد الثقافية من جهة أخرى؟ ألسنا هنا نسبح في مفارقات شتـى؟ وعلى العكس من ذلك، ألا تجب العودةُ إلى أساس المسألة، وأن نقول صراحة إن للطفل حق واحد، وهو أن يُربى من قبل الراشدين الذين لهم عليه سلطة لا يخرج من إطارها إلا إذا رشُد؟   

حقوق المشاركة وواجب التربية

صحيح أنّ الطفل يأتي إلى العالم وهو لم يكتمل بعد،ُ ولا بقاء له إلا إذا نقلنا له مفاتيح هذا العالم. وهذا الارتباط الذي يجعل منا ناقلين ليس نقيض الحرية، بل شرط تحقّقها. ولا غرو في أن الحيوان عند خروجه للوجود يكون أكثر عرضة للحتمية بالمقارنة مع الكائن البشري، فخلية النحل – على سبيل المثال – في جوهرها ملكية، ولا أحد سبق ولاحظ نحلة تنزع نزوعا إلى الديمقراطية! أما للطفل فلابد من تعليمه كل ما سيمكنه من البقاء والعيش مع الآخرين دون الانزياح إلى الفوضى والتفاني(anéantissement réciproque). ولمّا كانت اللغة والسلوك والمعتقدات والقيم من ضروب ما يُكتَسَبُ، بمعنى أنها ليست معطيات سيبقى الطفل حتما حبيسها، فإنه، لذلك نفسه، يستطيع الانعتاق منها. لا وجود إذن لأي تخالف مبدئي بين النقل والحرية، بل بينهما وشائج عميقة مُتمَكنة هي وشائج تعاضد وتكامل. فلا حرية تنبثق من الفراغ وإنما الحرية، كل حرية، تُبنى عبر تملّك معطيات ووضع مسافة بيننا وبينها ثم بالاعتماد عليها لتأسيس علاقاتنا تأسيسا تدريجيا، سواء أكانت هذه العلاقات انتماء حرّا أو رفضا معقولا مُعقلنا.

فلنحاول إذن، انطلاقا مما سبق، تحديدَ بعض المبادئ التصنيفية لعلّها تكون لنا سندا في السير قدما وفي مساءلة واقع “حقوق المشاركة” لدى الأطفال، وأن نتفكّر فيها تفكرّا لا غوغائية فيه ولا تحجّرا ولا تناقضا.

  – يكون الطفلُ، قبل بلوغه سن الرشد المدني، غيرَ خاضع للقانون، بالمعنى الحرفـيّ للعبارة. صحيح أن المجتمع يمنح الأطفال حقوقا مرتبطة بالحماية، وخاصة ضد كل أشكال المعاملة السيئة، وأيضا حقوقا هي بمثابة إمكانيات مُتاحة كالحق في قيادة مركبات ذات محرّك أو الحق في شغلِ وظيفة مأجورة…؛ غير أنّ الطفل ليس طرفا مقرِّرا في الاجتماع الديمقراطي الذي يحدّد مستقبله ويفصّل مصيره.

  –  إنَّ دخولَ الذاتِ سنَّ الرشدِ المدنيّ قفزةٌ نوعية أساسية حاسمة وقطيعةٌ حادة قوية في سيرورة الذات الحياتيّة. وهكذا فإن هذا الحدث الحياتـي الأساس لابد من التبكيرِ في التحضير له تحضيرا منهجيا ولابد أنْ يمَيَّزَ تمييزا رمزيا، وهذا لا يستوجب فقط تربية مدنية منظمة وتعليما للحق ممنهجا، وإنما يتطلب كذلك خلقَ طقس فعليّ يسمُ الدخول إلى طور ممارسة المواطنة.    

  – قبل أنْ يبلغَ الطفلُ الرشدَ، ومنذ ميلاده، يفهمُه المحيطون به عبر مختلف الوسائل التي بها يعبّر عمّا في نفسه. لكن أنْ يُفهَمَ الطفلُ ليس معناه التوافق معه وتأييده، ناهيك عن إرضائه إرضاء متواترا منتظما، بل معناه اعتبارهُ والاعتراف به كذات في طور التكوّن لا كموضوع في طور التصنيع، ومعناه أن يكون البالغون الراشدون حاضرين مدركين لتعبيرات الطفل ومستوعبين إيّلها عبر التواصل معه والتفاعل معه، ومعناه أيضا الاعتراف بحقه في التعبير مع الاحتفاظ بالحق في التقرير صونا لمصلحته.

   – يجب أن يُدفَعَ بالطفل أثناء نموه إلى خوض تجارب أسرية عائلية ومدرسية ومجتمعية تستوجب التزامه. وما يميّز هذه التجارب – الوضعيات هو ألاّ نجاح لها ولا اكتمال إلاّ إذا انخرط فيها الطفل وتحمّل فيها قسطا من المسؤولية. وهكذا تنتقل علاقة الراشدين به تدريجيا من “علاقة الخدمةِ” إلــى ” علاقة المصاحبة”.     

    –  يضطلع الراشد في هذه الوضعيات بتحفيز الطفل على التفكير في أفعاله، مما معناه أنّـه لا ينبغي فقط السماح للطفل بالتعبير بل يجب تشجيعه على ذلك. وممارسة التعبير لابدّ أن تتمّ داخل إطار تربوي يسمو بها من طور الاستجابة المحضة، لأنّ احترام رأي الطفل لا يعني البتة مباركةَ ردود فعله الغريزية الفورية، بل يعني عكس ذلك: أيْ إعانته في نأيِه عن الانقياد للغرائز، وتمكينه من الوقت اللاّزم للتفكير، ومصاحبته عبر إعادة صياغة تعبيراته ونحو ذلك. لا يجوز إذن الفصل بين حق الطفل في التعبير وواجب الراشدين المتمثّل في توفير الشروط الكفيلة بجعل هذا التعبير تعبيرا واعيا، مُوَجَّها بالسعي إلــى الصواب والدّقة، أيْ تعبيرا الطفلُ مسؤولٌ فيه وملتزم به التزاما ديمقراطيا.  

   – ينخرط الطفل، طيلة سيرورة نضجه، في وضعيات تقتضي منه التعبير عن رأيه واتخاذ قرارات فردية أو جماعية، وفي ذلك تمرُّنٌ على ممارسة المواطَنة. لذلك فمَهمّةُ الراشدين إنما هي التفريق بين الأمور التي يُتَداوَلُ فيها مع الأطفال وما لا يقبل التداول. وكما يفرضُ تكوينُ المواطنِ في المجتمع الديمقراطي عدمَ تضليل الأطفال بشأن سلطات مصدرها مواطنون يمارسون مواطنَتهم، فإنه يقتضي أكثر من ذلك، أيْ تحديد عناصر وتعيين مساحات حيث يكون بوسع الأطفال اتخاذ قرارات حقيقية تحت إشراف الراشدين.  

   – إن مساعدة الأطفال فـي اتخاذ القرارات إنما تعنـي تمييز المساحات حيث يمكن للطفل أن يختار اختيارا بين عدّة ممكـنات، وتعنـي أيضا إيجاد الشروط التـي تُــيسّــر له التداولَ والمناقشةَ، ومصاحبته وإرشاده حتــى يصير قادرا على اتخاذ القرارات على المدى البعيد لكــي يكــتشف بنفسه سير الحياة وذلك بالتفكير في أموره وفحصها فــي الوقت المناسب دون خرق للمراحل. ولئن كان الطفل ذاتا فــي طور التكوُّن فإنه لابد أن يخرج من منطقة الراحة، ولئن كــان كائنا ضعيفا غير مكــتمل فإنّه لمن واجبِ الراشدين الحيلولة دون تحوّل ذلك الخروج إلــى تَـهْـلُــكَـــة.

   – حق الطفل فـي التعبيـر وفــي اعتبار آرائه ليس المقصود به استقالة الراشدين فــي علاقتهم به، وإنما المقصود به عكس ذلك، أي تمكين الطفل من التعبير وجعله فاعلا فـي وجوده، وهذا فعلٌ تربويّ ممتد زمنيا، ومَهَمَّةٌ تستدعي يقظة وتستوجب حضورا وتستلزم إبداعا وصرامة وجهدا دؤوبا، وهذه الأمور كلّها هي تكـلفة تكوين المواطن في المجتمع الديمقراطي.    

 

نستطيع إذن، بناء على ما تقدّم، إعادةَ صياغةِ الفكرةِ الأساس المتضمّنةِ فــي المادة 12 من اتفاقية حقوق الطفل، وذلك علـى النحو التالـي: “من واجبنا ضمانُ حقِّ التعبير للطفل عندما نكون قد أوْجدنا الشروط التـي تجعله قادرا على التفكير وتُيَسّرُ له بلورة أفكـاره وصياغة آرائه صياغة قويمة. وهذه الآراء لا تُؤخذُ بالاعتبار إلاَّ إذا تعلّقت بنِطاق مِنَ النَطاقات التـي يستطيع الطفل فيها الاختيار بعد تفكّر وتدبّر.”  فلْنُشَمّر على السواعد إذن ولنجعل الطفل فــي الأسرة يبلغُ طور التعبير عن آرائه تعبيرا عاقلا، وذلك من خلال كــل الفرص التي تفيض بها الحياة اليومية، كأنْ نجتهد في العمل معا، ونتفادى المُواجهة لِـنَـلْـتَـئِـمَ علـى مَهمة ننجزها جميعا، وأن نتواصل عـبْـرَ الوسائطِ ذات القيّمةِ العظيمةً والــتـي قد تكون قراءة مُصَنَّــف من مصنفات الآداب للشباب، كما قد تكون تحضـيـر حلوى بالشوكولاتة أو البحث في شبكة الانترنيت عن برنامج للعطلة وغـيــر ذلك…

ولْنحشد الطاقات أيضا لجعل الفضاء المدرسـي فضاءً يستطيع فيه المتعلّمون بانتظام النظر فـي الشروط الكفيلة بجعل اشتغالهم وتعلّمهم اشتغالا وتعلّما جماعيين. لنفكّر إذن فــي وضعياتِ يستطيعون فيها التداول والتحاور والمناقشة بخصوص الطرائق التربوية وكـلّ ما من شأنه أن يُـيسّـر الوصول إلى المعرفة وأن يزيد فرصَ الإعداد لممارسة المواطنة؛ عوض البقاء فــي نطاقِ ممارسةِ ديمقراطية شوهاء، تتمثّلُ فـي وَهْبِ ممثلي المتعلّمين الحقَّ فـي مناقشة موضع الكراسـي في ساحة المدرسة والقانون الداخلي الخاص بالدرّاجات ونحو ذلك. وعلـى صعيد كل الهيئات، سواء تلك المرتبطة بالحق والقانون أم التي تُعنى بإدماج الأطفال فـي المجتمع، حيث يُراعى رأي الطفل في الأمور التي تخصّه، فلنتأكّد من أننا خصّصا الوقت الكـافـي لتجاوز ردَّات الفعل الغريزية، ولنتحقّق من أن الراشدين كــانوا ملتزمين بالحضور بجانب الطفل ليسمعوه ويطمئنوه ويعينوه فـي بلورة أفكـاره والتعبير عنها تعبيرا صحيحا.

 

فـي مديح التقييد الجميل: من أجل تكوين حقيقـي للطفل باعتباره ذاتا

لنحاول استخلاص بعض النتائجِ التربويةِ المحدَّدَةِ انطلاقا من مجموع الاعتبارات المذكورة أعلاه. ولنتساءل بشأن ما يقتضيه واجبنا في التربية مرتبطةً بتكوينِ الطفل باعتباره ذاتا، أيْ طفلا قادرا على التفكير واتخاذ القرار بشأن مصيره. 

تقتضـي التربية – سواء أكانت أسرية أم مدرسية أم اجتماعية – إرجاء المرور إلى الفعل وإبعاد الاندفاع الغريزيّ، وذلك شرط أساس لقيام الفكر وتطوير إرادة عقلانية …  إنّ أناجيل علم النفس المعاصر ذات الإيمان الساذج بأنه عوّض علوم التربية التي يجهلها تَحُثُّ المُرَبِّـيـنَ على معرفة قول ” لا” في وجه الطفل، بيد أن المبدأَ التربويَّ الأوّل كان منذ زمن طويل ولا يزال: ” لا. ليس الآن! فكّر في الأمر على مهلك، ولنأخذ الوقت الكافي لنناقشه، وبعد ذلك تُقرّر.” هذا المبدأ هو الأساس الذي تقوم عليه النّظيمات التـي نهدف من خلالها، على سبيل المثال، إلى تحضير وتأسيس مجلس القسم على مستوى الأقسام، أي في العملية التربوية المؤسسية حيث غالبا ما تتردّد عبارة: ” ستتكلّم عن ذلك في مجلس القسم!” ولأنّ مجلس القسم مُحدّد، زمنه مضبوط وكذلك مكانه، ولأنه مؤطَّرُ بقوانين، فإنه فضاء للتحاور والمناقشة حيث أصغر الأطفال يستطيع مواجهة أضخمهم لأن الكلام هو الوسيلة الوحيدة المسموح بها فيه. إنه فضاء يجبر كـل من فيه على التعبير بالكـلمات عن الصدامات والمعاناة والاحتجاجات والصعوبات التـي صارت قابلة للتحويل إلى كلام. ولكي يشتغل المجلس على هذا النحو ولكــي يتحقّق من نتوسل به من أهداف ، لابد أن يحترم مجموعة من القواعد المُؤَسِّسَـةِ التـي إنْ غابت صارت الفوضى مصير كــل تبادل، [أمثلة تلكم القواعد]: ” أُنصِتُ لمن يتحدّث”، ” أطلبُ الكـلمة قبل أن أتكلم”، ” لا أهزأ من أي أحد”… ولابد أيضا أن يكون المجلس منظّما تنظيما صارما، فيُعيَّنُ له رئيس ومستشار، وأن يكون لكـل مجلس سجلٌّ تُدوَّنُ فيه القرارات المُتَّخَذَةُ، كما ينبغــي استعمال عبارات محدّدة تجعل التواصل السليم ممكنا وذلك نحو: هدوء… ” لقد بدأت أشغال المجلس”، ” هـل تعتقد أن هناك أمرا ليس على ما يُرام؟ ينبغي إذن أن تشرح ذلك!”. إن المجلس حجر الزاوية فـي نُظيمات الفصول الدراسية وذلك راجع لكونه يُستَحْضرُ فـي كــل لحظة من لحظات سيرورة التعلّم، أي في كل أوقاتها وأمكنتها التي فيها التعبيرُ ممكنٌ والــتي، في الآن ذاته، تفرض نوعا من إرجاء التعبير، وهكذا ينغرس التفكير في قلب أنشطة الطفل كُـلِّها. يُسجّلُ المتعلّمُ ما يودّ قوله للمجلس في ورقة أو دفتر، ويضعها في علبة للرسائل، بعد أن يكون قد كتبها على رسله وفكّر فيما وضع فيها وناقشه مع رفاقه. هذه العملية تسبق التعبير جهرا الذي يفرض عدم التلفظ بكــل كلام، ويستلزم تــرك ردود الأفعال الآنية، كما يقتضي جعل الكلام صارما صرامة التفكير.     

يجب أن يكون النشاط التربويّ منظما تنظيما يجعله كطقس من الطقوس، وذلك لتمكين الطفل والمراهق من التطور داخل إطارات مُهيكِــلـة ودالّة في الآن عينِه، ذلك أنّ أوّل وظيفة تشغلها الطقوس إنما هي إدخال الانتظام والاتساق فــي دفْقِ الحياة السيكولوجية. وأمام النوازع ذات التعبير الفوضوي حتما، وأمام الأحداث الخارجية الــتي تنشب اعتباطيا، فإن الطقوس بمثابة فواصل متواترة تضفــي الأمان علـى الوجود في العالم وتجعل العيش فيه ممكنا، بعيدا عن التيه. ولأن الطقوس ذات تأثير فـي أماكن مُؤمَّنة من الضربات الخارجية كما الداخلية، فإنّها تُمكّنُ الذات من الاستقرار الضروري للوجود عوض الرضوخ للاضطرابات الفوريـة. ولأنها تزاوج بين لحظات معيّنة وضروب من السلوك الخاص، فإنّها تمنح إمكـانيات انخراطنا قلبا وقالبا فــي كــلّ ما نفعل وبالتالــي الحدّ من الانحرافات التي تتهدّدنا على الدوام. ولـئن كـانت الطقوس تبيينا للقطائع وتنسيقا للتفاعلات بـين شتـى أنماط تنظيم الجماعات الـتي أوكِل لكـل منها مَهمَّات مضبوطة بقواعد متعددة، فإنها تُـوفّرُ المعالم التي بفضلها يستطيع الأشخاص الاندماج فـي أنشطة جماعية مطّردة. ولأنها تَضع هندسة مكـانية وفي الوقت عينِه سيكولوجية، فإنها شرط جوهريّ لبلوغ تكون الذكاء، أو ما أطلق عليه الفيلسوف كابرييل مادينييه تسمية ” تحويرُ التَّشتّت.”

   بالعادات إذن يُنَظَّمُ الوقت والفضاء وتُرتّب الأشياء وتوضع الإشارات اللازمة لاستيعاب البنية الذهنية الـتـي من المفروض أن تتوفر لدى الذات، وهذا ينطبق على أكثر العادات الاجتماعية تجذرا في الحياة اليومية كوجبات الطعام وأوقات الراحة والترفيه واللقاءات والوضوء والأنشطة المهنية، كما يسري على المؤسسات القانونية والدينية، وعلى المسارح والمتاحف وعلى القواعد المنظمة للرياضات أو الألعاب الجماعية، ففي هذه الأمور كـلها عاداتٌ مخصوصةٌ تصقل سلوك الفرد وذلك بحدّه بإطار يُحدد ما يلزم من أفعال وما يُتَطلَّب من تفكير، والفعل والتفكير إنما هما شرطان ضروريان لنجاح كـل ذلك.

تعنـي التربيةُ مصاحبةَ الطفل فــي بحثِـه المستميتِ عن هوامش حريته فإنْ أخطأَ الطفلُ أو أخفقَ فأصبح أمام عقبة كأداء أو وقع فـي مأزق فإن المربّــي لابد أن يستعيد معه بأناة وروية كــلَّ المسار الذي قاده إلــى ذلك. ينبغـي إعانته في شرح ما وقع ودفعُه إلى التساؤل عن اللحظة التـي اقترف فيها الخطأ وعمَّا كـان يجب أن يفعله وما كـان للآخرين أن يفعلوا إنْ كـانوا في مكـانه، وهذا يعنـي أنْ تُدرَسَ كـلُّ الممكنات التـي نحّاها وتجاهلها وأن يَتصوَّرَ سيرا للأحداث بديلا سينفعه مستقبلا. المُبتغى من ذلك هو كشفُ السبُل التـي كان من الممكن سلكها، وفهم الأسباب التي حالت دون ذلك، وتحديد ما ضاع من فرص، وتحديد ما كان يقتضيه الموقف من تعقل وبصيرة وإرادة وإعانة من أجل حسن الاختيار، وزبدة القول أن الهدف من ذلك كـلّه إنما هو استعادة المسار الذي سُلِك واستخلاص العبر منه لتعلم اختيار السبيل الصحيح اختيارا صائبا في المستقبل. يتعلّق الأمر إذن بالخروج من منطق ” الحجة بالذات” والتدبر في هذه الذات عينِها وهي تتحدث وتعمل، وذلك معناه فحص الأقوال ووزن الأفعال عبر عيون الآخرين والتجرّد من هيئة الضحية المتأرجحة بين الرّضـى والتأسّـي. إنه انتقال من ” هذا ما فعلتُ، وقد تمّ الأمر!” إلـى ” هكذا أرى الآن ما فعلتُ أمسِ، ويمكن اعتباره على هذا النحو. هذا ما كان ممكنا أمس وقد يكون كذلك في مستقبل الأيام!” ولكـي يكون الطفل مخلصا لكلمته، لابد أن يكون بجانبه الراشدُ، بأن يُظهِرَ لـه مـا سيوَفّرُ له من الإعانة والمساعدة إنِ الطفلُ التزم بما سيفعل، وأنْ يقول له إنه وحده القادر علـى إتمام ما يفعل وأن الراشد سيظل معهُ، وأن يُطمئنَه ويطمئنَّ عليه بانتظام، لكــي يذهبا في ما يفعلان إلى تمامه ويكون كلهما قد أوفى بكـلمته. فالراشدُ حليفُ الطفلِ في سعيه إلــى تجاوز نفسه.  

 

  • • •  •  •  •  •  •  •  •

  يضع التنــزيلُ الفعلــي لحقوق الطفل عامة و”حقوق المشاركة” خاصة المربين والمدرسةَ بل المجتمع قاطبة أمام مساءلة عميقة [يمكنُ تلخيصها في الأسئلة التالية]:

– ماذا نفعل، بشكـل ملموس، كــي يكتسب أطفالُنا الجرأةَ عــلى التعبير تعبيرا واعيا وسط أمواج الشعارات التـي تملأ العالم؟

– ما السبل الكفيلة بمصاحبتهم حتـى ينأون عن النوازع الفورية ولكـي يتعلّموا التفكير على مهل وبروية؟

– كيف نعلمهم استشراف المستقبل والتفكير تفكيرا منتظما والتشبع بالثقافة ابتغاءَ أفعال سليمة قويمة؟

 

إنّ تكوين الطفل بتمرينه على الفكر والكلام، أي على التدبُّرِ وفـي الآن ذاته على التعبير عن آرائه تكوينٌ له الكثير من المتطلبات. فهذا التكوين يقتضــي قضاء وقت طويل بصحبته فـي الأسرة كما فـي المدرسة، وفـي أوقات التعلّم والتربية كما فـي الأوقات المخصصة للترفيه، وبالتالــي لا يصِحُّ أن نكـتفـي بالتباكـي والقول بكـل أسـى إن الأطفال لا يحسنون التواصل ولا يضبطون الأدوات اللغويةَ، لأننا بذلك نجحد واجبنا في تطوير طرائق تربوية عمادها التواصل الشفهي، وننكر اللذة الكــامنة فــي الانغماس فــي السرديات.  فلكـي يصير الطفل قادرا على ” التعبير الحر عن رأيه في شؤونه”، لابد لنا أنْ نُعلّمه لا فقط كيف يتكــلّم، بل وأكثر من ذلك، أنْ نُعينَه فــي إثراء رصيده اللغوي وأن نساعده حتــى يتعلم كيف يصوغ آراءه صياغة معقولة مُقنعة؛ والحال أنّ التربية الأسرية، شأنها في هذا شأن نظيرتها المدرسية، لا تتوانى في أن تستبعد أقوال الطفل دون أن تخلق وسائـل تُيَسِّرُ للطفل تعلّمه صياغة أفكاره وتجعله يسمو حتــى يبلغ ما تُطلق عليه الاتفاقية اسم ” الفطنة” أو ” الرشد”. هنا يظهر أصل من أصول أخطر ألوان التفاوت، إذ نرى الهوة الشاسعة بين الأطفالِ الذين يجدون بجانب أسرَّتهم العُدةَ التـي تجعلهم متعلمين جيدين ومن لم يجد إلى ذلك سبيلا، بل والأخطر من ذلك، يظهر هنا تهديد سافر لحقوق الطفل، ومرَدُّ ذلك أنّ هذه الحقوق هي في جوهرها حقوق تحكمها الازدواجية: فكما من حق الأطفال أن يخوضوا طفولتهم، فإن من حقهم كذلك يترعرعوا ويكبروا كما يجب، ومن حقهم أن يعيشوا الحاضر، بيد أن الاستعداد للمستقبل حقهم أيضا. إن هذه الأمور ليست بالسهلة الهيّنة، ولكن من ذا الذي قال إن التربية شأن يسير بسيط؟

 

* أستاذ فخري في علوم التربية بجامعة لوميـير – ليون2  (université LUMIERE – Lyon 2 )

 

نُشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 25، أفريل 2023.

للاطّلاع على كامل العدد وتحميله: http://tiny.cc/hourouf25

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights