فيلم “الحرب الاهلية 2024”: من سنقاتل ؟

بقلم: محمد أمين ضيفي

دائما ما كانت نهايات القوى العظمى دموية، إلا أنّ أبشع النهايات واكثرها دموية كانت عبر الحروب الاهلية. ليست هناك نهاية شاعرية لقوة عظمى ولدت من رماد حرب أهلية إلا حرب أهلية أخرى تكتب نهاية حتمية لنظام وصفه  الفيلسوف السياسي الأمريكي فوكوياما بانه نهاية التاريخ، يجادل البعض ان الحرب الاهلية قد بدأت بالفعل وليس فيلم  “الحرب الأهلية 2024 “(CIVIL WAR 2024)  تنبؤا بمستقبل ديستوبي بعيد بل مجرد سرد لتاريخ يحصل امام اعيننا. قد يتعارض هذا الطرح مع اختيار المخرج اليكسندر جيرلاند للإشراف على هذا العمل الفني، مع سلسلة اعمال كانت في الغالب من قبيل نهاية العالم او ما يصطلح على تسميته apocalypse genre قد يخرج أسلوب المخرج الفيلم من واقعيته، إلا أنّ يبدو أن المخرج نجح في واقع الأمر، ولو نسبيا، في الحفاظ على واقعية للعمل الفني تحفظ الرسالة الاصلية للعمل أي ان الحرب الاهلية جارية حاليا.

أي دور للصحفي في الحرب؟ من نقاتل؟ هل ستصور لحظة موتي؟ ثلاثة أسئلة كانت محور اهتمام المخرج طول العمل. مثّل كل سؤال نقطة حوار حركت الاحداث التي تراوحت بين دموية مفرطة وهدوء مريب.

كانت انطلاقة الفيلم الفعلية مع أول تفجير انتحاري في حشد ينتظر الحصول على بعض المياه، مشهد دموي بامتياز وغير متوقع يتلوه هدوء مريب تقوم فيه البطلة والصحفية الشهيرة لي سميث التي تؤدي شخصيتها الممثلة كريستين دانست بالتعرف على صحفية هاوية وتقدم لها درعا واقيا ومن ثم تقوم يتصوير الجثث، وهو نمط يتكرر طوال الفيلم. بعد كل حدث دموي، يقوم فريقنا الصحفي بتصوير الضحايا، نمط ليس إلا جزءا من جدل بين لي سميث وزميلها الصحفي سامي حول أي دور للصحفي في الحرب. لي ذات الهيئة الباردة تؤمن برسالة واحدة تعبر عنها بقولها: لقد صورت عنف الحروب في ارجاء العالم لكي أري الديار وأنبههم من الحرب، وها أنا اليوم اصور ويلات الحرب في دياري. أما سامي، فيرى ان لي فقدت الايمان بالعمل الصحفي…فهي قصرت العمل الصحفي على الأخبار وتخلت عن واجبها في المقاومة.

لا يمكن حقا فهم دور الصحافة في الحرب دون فهم جديد لمفهوم العمل الصحفي بعيدا عن الفهم التقليدي. الصحافة عند سامي ليست ذلك العمل الاخباري او حتى التحليلي لأحداث حاصلة، بل هو صناعة للرأي العام وتوجيه الأضواء حيث يجب أن توجّه. لا يمكن للصحفي أن يكون ناقلا للحدث بل صانعا له. تلك الصور لحشود الموتى ليست خبرا يجب نقله بل حدثا وجب مقاومة حصوله مرة أخرى، هنا يكون الوقوف على الحياد جريمة لا تغتفر. هذا الشكل الجديد للصحافة يجعل السينما وأعمال الشاشة الصغيرة جزءا بشكل ما من العمل الصحفي نظرا لدورها في صناعة الراي العام او كونها جبهة متقدمة للحرب الاهلية.

ليس المسلسل الحدث حاليا في الولايات المتحدة “الرفاق” الا مثالا صارخا للحرب الإعلامية الحاصلة بين التقدمين والمحافظين. تم استغلال عمل تلفزي في الأصل كان ذا هدف ترفيهي اعتمد مفهوم المريع كمحرك لأحداثه ليصبح جزءا من المقاومة، مقاومة المد “الفاشي” في الولايات المتحدة. طبعا هذا مايتبناه التقدميون. أما بالنسبة للمحافظين، فالعمل ليس أداة قذرة تعمد على ربط ايديولوجيتهم المحافظة بالصور  المريعة التي يقدمها العمل التلفزي.

هنا تفقد الصحافة حياديتها، حيادية باردة تدافع عنها لي مرارا وتكرارا، حيادية من دونها تفقد المصداقية ويصبح الصحفي مجرّد بيدق يحركه صاحب الأيديولوجيا. هنا ستصبح المقاومة الإعلامية سلاحا لا يختلف عن أسلحة الدمار الشامل التي سببت حشود الموتى، خبر مؤدلج واحد قد يحرك الحشود نحو الهاوية وليست الحيادية هنا الا حزام امان يمنع تحول الصحافة لسلاح بيد احد اطراف النزاع. جسّدت لي هذه الحيادية في مرافقتها لميلشيا الباغالو bagaloo اثناء قتالها لقوات الحكومة الامريكية، فلم تمتنع عن تصوير قتالهم لأعدائهم أو تصوير اعداماتهم الميدانية للأسرى. يشد الانتباه هنا اعتماد المخرج جيرلاند لميليشيا موجودة في واقعنا تتحضر للحرب الاهلية القادمة ليضعها في عمله الفني، خطوة مثيرة للجدل وغريبة ان اخذنا في الاعتبار ان الميليشيا هي من التيار المحافظ في الواقع وقتالها للقوات الامريكية في الفلم. قد يبدو تناقضا مثيرا للسخرية، إلا انه كان بداية السؤال من نقاتل؟

يعد مشهد ملعب الغولف، أحد تلك المشاهد التي استغلها المخرج ليطرح السؤال بصراحة، في الحرب الاهلية من نقاتل؟ قد يبدو الجواب بديهيا الا انه سؤال ظل بلا جواب ليس لغياب الجواب بل لشناعته… قناص يطلق النيران على ابطال الفلم اثناء عبورهم لملعب غولف… لأي جهة يقاتل القناص؟ لا أحد يعلم. تتوقف السيارة خلف ساتر ليجد أبطالنا قناصا آخر ومساعده منبطحين على الأرض يحاولان صيد القناص المعادي. يستغل جيرلاند حوارات هذا المشهد ليعيد تقديم سؤاله، يسأل الصحفي المساعد من أنتم ومن تقاتلون.. هيئة القناص ومساعده قد تجيب عن هويته شعر ملون واظافر مطلية تجعلنا نعرف انه من القوات الغربية التي تقاتل الحكومة وغالبا هو من كاليفورنيا. رغم هذا الوضوح يفضل المخرج الصمت عن أي جهة يقاتل لصفها الجنديان. يسأل الصحفي: لماذا يصوب القناص المعادي نيرانه نحوهم؟ هل هو من قوات الحكومة؟ يجيب المساعد: لا اعلم. لا تهم هوية من نقاتل في الحرب الاهلية. قد تبدو هذه الإجابة المثالية لمعضلتنا، إلا أن المخرج يصعّب المعضلة اكثر بمشهد محطة الوقود حيث صلب صاحب المحطة بعضا من جيرانه الذين حاولوا سرقته، اذا من تقاتل ؟ يبدو اننا سنقاتل الجميع… لا يقتنع مخرجنا بهذه الإجابة. فيضعنا أمام مشهد المقابر الجماعية، حيث يقع ابطالنا تحت رحمة جندي لا نعرف لأيّ جهة يقاتل وهو يدفن حشودا قام بقتلهم. يحاول أبطالنا الخروج من هذا المأزق فيقول الصحفي انهم امريكيون، فيرد الجندي بالجملة التي اثارات جدلا واسعا في وسائط التواصل الاجتماعي، “أي نوع من الأمريكيين أنتم؟”، هل مازلنا شعبا واحدا في الحرب الأهلية؟ هل الأيديولوجيا كافية لتقسيم شعب ؟ قد تكون بعض الأفكار كافية لجعل نصف الشعب يبيد النصف الثاني إن كان مفهوم الشعب او بالأحرى الامة ليس الا فكرة ظرفية محكومة بوجود جهاز الدولة. فمن سنقاتل؟ يبدو اننا سنقاتل أنفسنا في النهاية كما لم نقاتل أحدا من قبل، جواب فضّل المخرج ان يقدمه في كل تلك المشاهد الدموية التي عرضا على طول مدة العمل الفني.

علاقة مميزة تشكلت بين لي والصحفية الهاوية التي رافقتهم من التفجير الانتحاري إلى اعتاب العاصمة واشنطن، كانت اخر فصولها سؤال الصحفية الهاوية :هل ستصورين موتي يا لي ؟ يبدو أن السؤال قد تحول من سؤال عابر لواقع ارّق لي خاصة بعد موت سامي أثناء محاولته انقاذها وإنقاذ الجميع من جنود المقابر الجماعية. هل يجب على الصحفي ان يكتفي بتصوير حشود الموتى؟ ماذا لو كانت تلك الحشود هي عائلة او صديقا؟ أي فائدة للحياد؟ لمن نصور؟ قد لا تكون الأزمة في التقاط الصورة، بل في السبب. هل هي للأخبار؟ هل هي للتحذير أم للمقاومة؟

صدمة لي وتصرفاتها أثناء تغطية عملية اقتحام العاصمة لم تكن الا رسالة من المخرج ان حياد لي لم ينفع أحدا بشيء، وها هي توثق مع رفاقها انهيار البيت الأبيض وعملية اغتيال الرئيس… عملية انتهت بموت لي عند إنقاذ الصحفية الهاوية من رصاصة اثناء الاقتحام، موت وثقته الهاوية وهى على الأرض بعدما دفتعها لي لتتلقى الرصاص مكانها. هل ستصور لحظة موتي ؟ يبدو أن الصحفية الهاوية اخذت الخيار الأصعب، وصورت موت لي صحفية الحرب الاهلية الامريكية الثانية. لماذا الصورة ؟ خاصة وان الصورة التالية كانت صورة موت الرئيس الأمريكي.

قد نفهم السؤال الأخير على أنه إعلان المخرج ان عمله أيضا هو جزء من الحرب الاهلية الحاصلة اليوم، فهو قد اختار جانبا في النهاية وسيصور موت الحياد الإعلامي في مقابل انتصاره للمقاومة، قد يكون اختياره ان تكون القوات الغربية متكونة من وولاية كاليفورنيا وتكساس أمر مثيرا للجدل من جهة، ودعوة لوحدة التقدميين والمحافظين أمام الفاشية المتصاعدة من جهة ثانية. ولكنه بالرغم من هذه الرسالة التي تدعو للوحدة وتنبّه من الحرب الأهلية، فإن هذا لم يشفع له أمام النقد الجماهيري خاصة أنّ توقيت عرض الفيلم سابق لانتخابات أمريكية، ونقده لأحد مرشحي هذه الانتخابات من خلال هذا العمل الفني ليس خافيا. ففيلم الحرب الاهلية في النهاية لم يكن إلا وسيلة مقاومة لفاشية التيار المحافظ هذا حسب الفهم التقدمي، او أنه مجرد بيدق اخر في حرب إعلامية يخوضها اليسار الراديكالي عبر البروباغندا القائمة عل التخويف كما يرى المحافظون.

قيمة فيلم الحرب الاهلية الفعلية كانت في سؤاله الفلسفي من نقاتل؟ يجيبنا الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز في حديثه عن حالة الطبيعة باعتبارها حالة حرب الكل ضد الكل. قد يكون من الوجاهة أن نعيد فهمنا لحالة الطبيعة، فهي ليست مجرد حالة تجاوزناها بالفعل، بل هي حالة تنتظر أن نعود إليها، ولا يفصلنا عنها سوى أيديولوجيا تجعل نصف الشعب يبيد النصف الاخر، والمعضلة هنا هي في كيفية تجنّب هذه العودة لأطول فترة ممكنة. هل للصحافة والاعلام عموما دور تحذيري قصد تجنيبنا هذه العودة؟ أم أنّه على الصحافة تحريك الرأي العام ؟ هذا الدور للصحافة بحد ذاته معضلة مستعصية، فالدور الفعال للصحافة لتجنيبنا الحرب الاهلية قد يكون محركا لها.

تظل الحرب الأهلية موضوعا شائكا نتجنبه في الغالب ظنا منا أنه أمر مستبعد، إلا أنه، في واقع الأمر، هي معضلة تحيط بنا من كل الجهات. فالانقسام الإيديولوجي ليس شأنا أمريكيا خالصا، بل هو شأن عالمي. قد لا تكون الحرب الاهلية الامريكية القادمة أمريكية خالصة فأطراف صراعها اليوم لم يعودوا فقط أمريكيين. هل سنتجنب هذه الحرب حقا؟ لا أحد يعلم يقينا، ولكن ما نعلمه جميعا أنّ طريقة عيشنا ومستقبلنا ستكون محكومة بجوابنا على تلك الأسئلة التي ساقها اليكسندر جيرلاند.

 

نُشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 36، خريف 2024.

للاطّلاع على كامل العدد: tiny.cc/hourouf36

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights