الجذور الاجتماعية لعدم المساواة في الصحة في تونس
|بقلم: أحمد بلال القطّي
رُصدت ظاهرة عدم المساواة على نطاق واسع من قبل العلوم الاجتماعية باعتبارها في صميم اهتمامات هذا التخصص. سيكون من غير المرجّح أن نجد جانبًا من جوانب الحياة الإنسانية لم يتأثّر بعدم المساواة الاجتماعية. ولهذا السبب، يلتزم العلماء الاجتماعيون بالفحص الدقيق للأنماط المختلفة التي يكون فيها الأفراد غير متساويين.
إنّ البحث في الفروقات الصحّية بين الأفراد والمجموعات البشرية وجذورها الاجتماعية له تقليد طويل يعود إلى العصر الكلاسيكي للعلوم الاجتماعية في القرن التاسع عشر على يد مختلف روّاد هذا المجال. وقد تمّ توثيق الجذور الاجتماعية والاقتصادية لعدم المساواة في الصحة منذ الثورة الصناعية خلال الجزء الأوّل من القرن التاسع عشر، مما أدّى إلى إنتاج سلسلة من الدراسات العلمية التّي حاولت لفت نظر المراقبين للعلاقة السببية بين الاجتماعي والصحّي، بدءًا من عمل فريدريش إنجلز الذي أقام رابطة بين معدلات الوفيات المرتفعة وظروف المعيشة السيئة لطبقة العمال في إنجلترا، وأفكار الباحث الرائد رودولف فيرشو الذي درس العلاقة بين الأوبئة والأمراض الوبائية من جهة، والاقتصاد والفقر من جهة أخرى. وفي وقت لاحق، أعمال سلفادور أليندي التي أبرزت تأثير العوامل الاجتماعية على الصحة.
في الوقت الحاضر، وعلى الرغم من التطور السريع الذّي شهدته العلوم الطبّية والتكنولوجيات المرتبطة به والّذي ساهم بشكل كبير في تحسين الحالة الصحية العامة في جميع أنحاء العالم، إلاّ أنّ الدراسات التي أجريت خلال العقد الماضي، خصوصا في البلدان النامية والمناطق المهمّشة حيث تكون الفجوة الاجتماعية أكثر وضوحًا، أظهرت أنّ الاختلاف في التدرّج الاجتماعي المرتبط بالطبقة والّذي يؤثر على الوضع الاجتماعي والاقتصادي، أدى إلى عدم المساواة في الصحة. حيث يستطيع الأشخاص ذوو الوضع الاقتصادي والاجتماعي الأعلى تحمّل نفقات الرعاية الصحية اليومية، وكذلك فإنّ التعليم الذي يحصلون عليه يسمح لهم بفهم أكبر لأهمية الصحة. على الجانب الآخر، قد يجد الأفراد المنتمون إلى الطبقة الاجتماعية المتدنّية أنفسهم منغمسين في دورة نمط الحياة. حيث غالبًا ما تجدهم يعانون من معدلات عالية من السلوكيات الضارة مثل التدخين وعدم ممارسة التمارين الرياضية واستهلاك الطعام الجاهز لفترات طويلة. وجود هذه السلوكيات يجعل من الصعب حل المشكلات الصحية التي تسهم في عدم المساواة الصحية.
مؤخّرا نجحت العديد من الدراسات في الإشارة إلى علاقات الترابط بين الحرمان والتهميش الاجتماعي مع سوء حالة الصحة وانخفاض متوسّط العمر. تشير البيانات المستمدة من هذه الدراسات إلى أن فجوة المساواة في الصحة تتّسع بشكل متزايد على الرغم من النمو في الثروة والتقدم التكنولوجي.
ومع ذلك، على الرغم من أنّ الفروق في الصحة واضحة ويمكن ملاحظتها بسهولة، إلاّ أنّه لا يمكن أن تُعزى هذه الفروق بشكل حصري إلى العوامل البيولوجية والطبية والوراثية. كلّما تعمّقنا في فهم عدم المساواة في الصحّة، كلّما أدركنا أن الكثير منها لا يُعزى إلى خلل بيولوجي معيّن فحسب، بل يتعدى ذلك، ليصل إلى جوهر الديناميكيات العلائقية للطبيعة الإنسانية؛ جوهر وجود الإنسان، بوصفه كائنا اجتماعيا.
هذه الملاحظات أدت إلى قبول واسع في أوساط البحث وصناعة السياسات لفكرة أنّ عدم المساواة في الصحة ينجم عن أسباب اجتماعية. يتعود هذه الفروق إلى عوامل ديموغرافية واجتماعية، وتعرف عالميًا وعلميًا باسم المحدّدات الاجتماعية للصحة (Social Determinants of Health – SDH)، وقد أحرزت الأبحاث الأكاديمية تقدّمًا كبيرًا في فهم هذه المحدّدات. بالإضافة إلى ذلك، في أوائل عام 2008، أشار تقرير لجنة منظمة الصحة العالمية للمحدّدات الاجتماعية للصحة إلى أنّ الظروف التي يولد فيها الناس ويعيشون ويعملون ويشيخون هي العامل الأكثر أهمية في تحديد حالة صحتهم.
تؤكّد هذه الملاحظات على أهمّية العوامل الاجتماعية في التأسيس لعدم المساواة في الصحة داخل المجتمعات. إذ تشير إلى أن العوامل الاجتماعية التي تحدد الظروف المعيشية والعمرية والاقتصادية للأفراد هي العوامل الأساسية في تحديد حالتهم الصحية. وبالتالي، فإن التركيز على المحدّدات الاجتماعية للصحّة يعزّز الحاجة إلى توجيه السياسات والبرامج نحو تحسين هذه الظروف الاجتماعية، سواء خلال تعزيز المساواة الاجتماعية والاقتصادية، أو توفير فرص العمل اللائقة والتعليم الجيد، وكذلك توفير الرعاية الصحية الشاملة والمتاحة للجميع، عندها يمكننا تقليص الفجوات في الصحة وتحسين حالة الصحة للأفراد والمجتمعات.
المساواة تعني العدالة الاجتماعية
يقول مارتن لوثر كينغ: “الظلم في أيّ مكان يشكّل تهديدًا للعدالة في كلّ مكان، ومن بين جميع أشكال الظلم، فإن عدم المساواة في الصحة هو الأكثر لا إنسانية والمسبّب الأكبر للصدمة “.
للأسف، تظلّ هذه الكلمات سارية المفعول في الوقت الحاضر، وتوصّف بشكل دقيق العالم المعقّد والظالم الذي نعيش فيه. الفروق الاجتماعية عبر المجتمعات وداخلها واضحة ويمكن التعرف عليها بسهولة. ويساهم هذا النمط من التوزيع غير المتكافئ لعلاقات القوة والموارد الاقتصادية في المجتمعات في التأثير على نتائج الصحة للأفراد والمجموعات.
لفهم أكثر عمقا لأهمّية العمل على إنهاء اللامساواة في الصحّة، نحتاج إلى معرفة متى تصبح الاختلافات الصحية بين الأفراد والمجموعات غير منصفة. ولتحقيق ذلك يجب تعريف هذه الظاهرة بشكل دقيق يسمح لنا بفهمها في مختلف أبعادها. نجد أبرز هذه التعريفات في ورقة مارغريت وايتهيد الشهيرة بعنوان “مفاهيم ومبادئ العدالة والصحة” (1991) حيث تقول: “عدم المساواة في الصحة هي الفروق في الصحة التّي ليست فقط غير ضرورية وقابلة للتجنّب، ولكنها أيضًا جائرة وغير عادلة”. من خلال التركيز على مبادئ العدالة والعدل، حاولت وايتهد من خلال هذا التعريف الإشارة إلى أهمّية التعرف على العوامل الهيكلية والاجتماعية والاقتصادية التي تسبب الاختلافات في الصحة، والعمل على معالجته.
تؤثّر الظروف الاجتماعية والاقتصادية والبيئية على الحالة الصحّية للأفراد بطرق عدّة، وتعتبر عاملا أساسيا في عدم المساواة في الصحة. تحدث عدم المساواة الاجتماعية عندما يتعرّض الشخص لمعاملة غير عادلة بسبب عوامل بنيوية مرتبطة بالعرق والطبقة الاجتماعية والجنس والتوجّه الجنسي أو الوضع الهجري. وعلاوة على ذلك، وفقًا لحجّة بيار بورديو، فإنّ المؤسسات الاجتماعية مثل الشركات أو المدارس لديها القدرة على خلق فرص غير متساوية بناءً على الوضع الاجتماعي. تفسّر نظرية عدم المساواة في الفرص أن هذه الفرص غير المتساوية يمكن أن تؤدي إلى نتائج تعليمية سيئة أو فرص عمل أقلّ، مما يخلق تحيّزا اقتصاديا. على سبيل المثال، يمكن أن يحدّد الدخل الحيّز المكاني الذّي تعيش فيه (الحيّ، المدينة…). بالمقابل، يمكن أن تؤثّر الظروف البيئية في مكان ما على الصحّة العامّة للأفراد. تميل الأحياء ذات الدخل المنخفض إلى أن تكون الظروف الاجتماعية والبيئية فيها سيئة مقارنة بالأحياء الراقية. ومن أمثلة ذلك الاقتراب من مخاطر بيئية مثل الطرق السريعة أو المحطات الكهربائية، وارتفاع معدلات الجريمة أو العنف، أو الوصول المحدود إلى مياه نظيفة وأطعمة صحّية وأماكن آمنة لممارسة الرياضة. تسهم سلوكيات الصحّة أيضًا في الفروق الواضحة. يلعب التعليم دورًا حاسمًا في الحفاظ على نمط حياة صحّي؛ إذ إنّه إذا لم يكن الأفراد متعلّمين بما يكفي، فإنهم عادة ما يفتقرون إلى الدعم الاجتماعي والمالي لاتّخاذ الخيارات الأقلّ تأثيرا على صحّتهم. وتزيد السلوكيات مثل التدخين وسوء التغذية أو السلوكيات الجنسية غير الآمنة من فرص الإصابة بالأمراض المزمنة أو الأمراض عامّة، مما يؤثّر على متوسّط أمل الحياة بشكل كبير. مثلا، يعيش المدخنون على الأقل 10 سنوات أقل من غير المدخنين (شعبة الإحصاء بالأمم المتحدّة،2017).
على الرغم من أن الاختلافات في الصحّة قد تعود إلى التأثير المحوري لبنياتنا الجينية المختلفة سواء كأفراد أو كجماعات، إلاّ أننّا نكتشف يومًا بعد يوم الدور الحاسم الذّي يلعبه الوصول إلى الرعاية الصحية عالية الجودة في تقليل عدم المساواة في الصحّة. إنّ الصحّة في منظورنا هي أكثر من مجرّد المرض أو العجز. الصحّة هي كيف نعامل الآخرين؟ والفرص التي أتيحت لنا، ومكان إقامتنا، وسلوكنا اليومي. للقضاء على عدم المساواة في الصحّة، يحتاج صنّاع القرار إلى تنفيذ سياسات تضمن أن أحدًا لا يجب أن يُحرم من فرصة عيش حياة صحّية طويلة بسبب الظروف الاجتماعية أو الاقتصادية أو البيئية. لتحقيق المساواة الصحّية، يجب أن تشمل السياسات الجميع، وتراعي توفير فرص متساوية للجميع، وتوفير وصول متساو إلى الموارد، والاستثمار في الأحياء ذات الدخل المنخفض. ستتحقّق المساواة في الصحّة عندما يتمكن الجميع من الوصول إلى أفضل وضع صحّي يمكن الوصول له.
عدم المساواة في الصحة في تونس
في تونس، تُعدّ عدم المساواة في الصحة بين الطبقات الاجتماعية والنوع الاجتماعي والجهات إحدى الموضوعات التّي لم تحظى بالتناول الكافي سواء إعلاميا أو سياسيا أو اجتماعيا. كما نلحظ نقصا كبيرا في عدد الإصدارات البحثية والعلمية التي تتناول هذا الموضوع بالدرس وتفحص كيفية تفاعل هذه الأبعاد المتداخلة والمتقاطعة في عملية إنتاج عدم المساواة. في الواقع، تعتبر الدراسة التي أجراها “أبو زينب وآخرون” (2014) بعنوان “العدالة في تمويل وتقديم الرعاية الصحية: ماذا عن تونس؟” هي واحدة من الدراسات القليلة جدًا والنادرة التي تحلّل التفاوت في الصحّة في تونس. ومع ذلك، اهتمّت هذه الدراسة فقط بواحدة من الأبعاد العديدة للمساواة في الصحة، ألا وهي الولوج لمرافق الرعاية الصحية واستغلالها.
تشير البيانات الأخيرة (المعهد الوطني للصحة، 2019؛ المعهد الوطني للإحصاء، 2018) إلى ارتفاع كبير في معدّلات التفاوت الاجتماعي والاقتصادي في تونس التي بدأت تظهر على السطح بعد الثورة في عام 2011. تزداد معدّلات الأمراض بين الأفراد ذوي الدخل المنخفض في مختلف المناطق الجغرافية. على الرغم من أنّ تونس شهدت تحسّنًا مستدامًا في الوضع الاقتصادي والاجتماعي والصحّي على المستوى الوطني العامّ، حيث بلغ مؤشّر التنمية البشرية (HDI) 0.739 في عام 2018 مقابل 0.634 في عام 1998، والذّي يعتبر مؤشراً إحصائياً جيدًا لمتوسط العمر، والتعليم، ودخل الفرد. ومع ذلك، يخفي هذا التحسن المستمر في مؤشّر التنمية البشرية HDI وراءه التوزيع غير المتساوي للنموّ والتنمية بين المناطق والمجموعات الاجتماعية والنوع الاجتماعي، ممّا يعمق حالة اللامساواة والتفاوت بين الفئات الاجتماعية وهو ما يظهر جليّا في مؤشر التنمية البشرية المعدّل بالنسبة للمساواة (IHDI) والذّي بلغ 0.585 (البنك الدولي، 2020).
أوجه عدم المساواة في الصحة في تونس
يرى البعض أنّ التفاوت في الصحّة بين المجموعات والأفراد في جميع أنحاء البلاد هو نتاج للتأثير الواضح للتوزيع غير المتساوي للموارد والخدمات الصحية. ومع ذلك، ينسى هؤلاء أن هذا التوزيع غير المتوازن يعود إلى سياسات حكومية خاطئة مستمرة تؤدّي إلى تمييز هيكلي في التوزيع غير العادل للسلطة والدخل والموارد. على سبيل المثال، تظهر الإحصاءات الرسمية أدلّة على عدم المساواة الهائلة في خدمات الرعاية الصحية في تونس (المعهد الوطني للإحصاء، 2018). تُظهِر البيانات نمطًا من عدم المساواة الإقليمية والريفية/الحضرية في توزيع المؤسسات الصحية الرئيسية، حيث تتركز المستشفيات المجهّزة بشكل جيّد والرعاية الصحية عالية الجودة في المناطق الساحلية (الشرقية) وحول المدن الكبيرة مثل منطقة تونس وصفاقس وسوسة. وعلاوة على ذلك، تبلغ معدلات البطالة مستويات مرتفعة جدًا في المناطق الغربية، حيث تصل إلى 35.65٪ في الشمال الغربي و36.56٪ في الجنوب الغربي. ومع ذلك، تنخفض معدلات البطالة إلى أدنى مستوياتها في الأجزاء الشرقية من البلاد وتصل إلى 18.55٪ في الوسط الشرقي (صفاقس، سوسة، المنستير والمهدية).
تشير البيانات الموجودة في الجدول رقم 1 أنّ هذه الأنماط من سياسات تكريس عدم المساواة تؤثّر على الأفراد ليس فقط على المستوى الصحّي، ولكن أيضًا على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، حيث نلاحظ تفاوتا كبيرا في معدّلات الحصول على تعليم عالي والبطالة وهو ما يترجم في التفاوت في مؤشّرات التنمية البشرية بين المناطق (انظر الجدول 1). المعلومات الموجودة في الجدول 1 أعلاه تشير أيضًا إلى تركيز الخدمات الحكومية مثل الرعاية الصحية العامة والتعليم العام في الجزء الساحلي الشرقي من البلاد.
جدول 1. المؤشرات الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية والصحية الرئيسية حسب المناطق في تونس |
|||||||
|
تونس الكبرى |
الشمال الشرقي |
الشمال الغربي |
الوسط الشرقي |
الوسط الغربي |
الجنوب الشرقي |
الجنوب الغربي |
عدد السكّان1 |
2738.7 |
1581.3 |
1181.7 |
2682.9 |
1470.7 |
1031.6 |
617.5 |
مؤشّر التنمية البشرية3 |
0.787 |
0.744 |
0.685 |
0.747 |
0.657 |
0.724 |
0.734 |
نسبة البطالة%1 |
24.87 |
22.16 |
35.65 |
18.55 |
30.11 |
34..16 |
36.56 |
نسبة المتحصّلين على1 تعليم عالي% |
20 |
10 |
8 |
13 |
8 |
11 |
12 |
أسرّة الإنعاش2 |
184 |
26 |
0 |
121 |
0 |
0 |
0 |
المستشفيات الجامعية2 |
17 |
3 |
0 |
6 |
1 |
1 |
0 |
معدّل وفيّات الرضّع والأطفال2 |
696 |
251 |
87 |
615 |
435 |
221 |
170 |
المصادر: 1 (المعهد الوطني للإحصاء، 2018) 2 (الصحّة في أرقام، 2017) 3(مؤشر التنمية البشرية دون الوطني، 2020) |
أيضًا، تعتبر الاختلافات والتفاوت بين الوسط الريفي / الحضري من الموضوعات الإشكالية في تونس. منذ إنشائها بعد الاستقلال في عام 1956، قامت الدولة الوطنية بإطلاق سلسلة من خطط التنمية التي لم تشمل المناطق السكنية الريفية. يمكن رؤية ذلك في مجموعة متنوعة من المؤشرات؛ حيث يكون معدّل الفقر والفقر المدقع ثلاث مرات أعلى في المناطق الريفية، وأصبح العدد المتزايد من محاولات الانتحار مصدر قلق كبير خصوصا بين الأطفال ومؤشّرا سلبيا على الصحّة النفسية. الأرقام الموضحة في الجدول 2 هي دليل ملموس على سياسة التهميش التي يعاني منها السكان في الأوساط الريفية منذ عقود. من ناحية أخرى، يُعزى نمط الحياة الحضري الفخم ولكن المجهد إلى ارتفاع معدل انتشار السمنة والاكتئاب .
جدول 2. المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية والصحية الرئيسية حسب الوسط الجغرافي (ريف/حضر) في تونس |
||
|
وسط ريفي |
وسط حضري |
نسبة الأميّة1 (%) |
32.2 |
12.5 |
نسبة التغطية الاجتماعية1 (%) |
74.2 |
72 |
نسبة الفقر1 (%) |
26 |
10.1 |
نسبة الفقر المدقع1 (%) |
6.6 |
1.2 |
معدّل المصروفات السنوية للفرد (بالدينار التونسي) 1 |
2585 |
4465 |
نسبة السمنة2 (%) |
20.6 |
28.8 |
نسبة الاكتئاب2 (%) |
4.6 |
4.8 |
نسبة محاولات الانتحار2 (%) |
5.4 |
3.1 |
المصادر: 1 (المعهد الوطني للإحصاء، 2019) 2 (المعهد الوطني للصحة، 2019) |
يحتاج وجه آخر من أوجه عدم المساواة إلى معالجة، وهو الفروق الواضحة المبني على النوع الاجتماعي ويكون ملحوظا في التفاوت في المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والصحية بشكل عامّ. تشير البيانات إلى أن النساء، على الرغم من أنّهن يتمتّعن بتوقعات عمر أطول كما هو موضح في الجدول 3 أدناه، إلاّ أنّ الدراسات المختلفة تصرّ على أن النساء يعانين من مزيد من الأمراض مقارنة بالرجال. على سبيل المثال، انتشار السمنة بين النساء في تونس يعدّ ضعف الانتشار بين الرجال، بالإضافة إلى ذلك، يكون النساء أكثر عرضة لمواجهة أحداث مجهدة في مسار حياتهن، ممّا يؤدي إلى انتشار أعلى للاكتئاب. من وجهة نظر أخرى، يكون الرجال أكثر عرضة لأنماط السلوك المختلفة التّي تهدّد الصحة، كما يظهر في الجدول 3، فإن انتشار التدخين بين الرجال يعدّ مرتفعًا للغاية مقارنة بالنساء (48.3% بين الرجال مقابل 2.6% بين النساء)، ويتكرّر هذا النمط أيضًا في استهلاك الكحول. يمكن تفسير هذه الأرقام بناءً على حقيقة أن التدخين واستهلاك الكحول يعتبران من الصفات الذكورية المقبولة في مجتمعاتنا. علاوة على ذلك، في الثقافة الشرقية، ترتبط الرجولة بعدم إظهار العواطف والمشاعر الحزينة، ممّا يؤدّي إلى تراجع معدّلات التوجّه للخدمات الصحّية النفسية بين الرجال بالإضافة إلى زيادة في معدلات الانتحار التي تصل إلى 4.66 لكل 100000 شخص بين الرجال، مقابل 1.93 لكل 100000 شخص بين النساء.
جدول 3. المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية والصحية الرئيسية حسب النوع الاجتماعي في تونس |
||
|
ذكور |
إناث |
نسبة البطالة1 (%) |
12.1 |
21.7 |
نسبة الأمّية1 (%) |
12.4 |
25 |
متوسط العمر المتوقع1 |
74.5 |
78.1 |
2معدّل الانتحار بالنسبة لـ 100000 |
4.66 |
1.93 |
نسبة السمنة 3 (%) |
17.6 |
34.6 |
نسبة الاكتئاب 3 (%) |
4.0 |
5.4 |
نسبة التدخين3 (%) |
84.3 |
2.6 |
نسبة استهلاك المواد الكحولية3 (%) |
19.5 |
1.3 |
المصادر: 1 (المعهد الوطني للإحصاء، 2019) 2 (إدارة الدراسات والتخطيط – مديرية الإحصاء، 2019) 3 (المعهد الوطني للصحة، 2019) |
اللامساواة في الصحّة: كيف تتفاعل وتتقاطع المحدّدات الاجتماعية للصحّة
تشير البيانات والمعطيات الإحصائية التّي جمعت بغرض إعداد هذا المقال إلى وجود ارتباط بنيوي بين المحدّدات الاجتماعية للصحّةً وعدم المساواة في الوضع الصحّي. لقد تمّ إثبات تلك العلاقة بالفعل في العديد من البلدان وفقًا لنتائج البحث الأكاديمي. ومن خلال تحليل بسيط للمعطيات يمكن ملاحظة أنّ العلاقة بين تلك المحدّدات وعدم المساواة في الصحة في تونس موجودة على عدة مستويات. فالتفاوت الاجتماعي الاقتصادي والتوزيع غير العادل للثروة بين المناطق والجهات يؤثّر بشكل كبير على صحة السكّان.
إنّ غياب البحث العلمي المرتبط بالتفاوت الصحّي في تونس، كان سببا في عدم التركيز على تأثير المحدّدات الاجتماعية للصحّة على الوضع الصحي العام للسكان. تشر المعطيات الكمّية والنوعية التّي جمعناها وجود رابط بين تراجع الوضع الصحّي وحالة التفاوت الاجتماعي. التفاوت الجغرافي والجهوي هي أبرز أشكال اللامساواة الاجتماعية في تونس ولها تأثير كبير على الوضع الصحّي للأفراد. يمكن أيضًا اعتبار الوضع الاقتصادي والاجتماعي بوصفه محددًا رئيسيًا للوضع الصحّي.
لطالما كان ينظر للتعليم في تونس بوصفه “مصعدا اجتماعيا”، حيث أنّه يؤثّر بشكل كبير على الوضع الاقتصادي والاجتماعي للأفراد. لهذا السبب نلاحظ أن جزءا كبيرا من الأفراد غير المتعلمين ينتمون إلى الفئة الأكثر تهميشا في المجتمع ويكون تقييم صحّتهم سلبيا. بينما ينتمي الأفراد ذوو التعليم الأعلى والذين تزيد أعمارهم عن 40 عامًا إلى الفئة الأكثر حظّا وتعتبر حالتهم الصحّية جيدة. ليس فقط أن التعليم له تأثير على الوضع الاقتصادي ولكنه أيضًا له تأثير على ثقافة ومعرفة الأشخاص ممّا يؤدي إلى تزايد زيارتهم للمرافق الصحية.
الذكورية والأنوثة كبناء اجتماعي، والذّي يشار إليه بمجموعة الصفات والسلوكيات والأدوار المرتبطة بالجنس، تظلّ مصدرًا رئيسيًا لعدم المساواة في الصحة في تونس وتؤثر على الجنسين على حد سواء. تعتمد هذه العلاقة على التوقّعات الاجتماعية من الجنسين، ممّا يؤدي إلى ارتفاع معدلات الإصابة بالأمراض وتأثيرها على متوسط العمر والصحة العامة.
لا تؤثّر المحدّدات الاجتماعية للصحّة بشكل منفصل، ولكن تفاعلها وتقاطعها هو السبب في خلق عدم المساواة في الصحة. يُطلق على هذا التأثير المجموع “نظرية التقاطع”. على الرغم من أن البحث الأكاديمي حقق تقدمًا كبيرًا في فهم المحدّدات الاجتماعية للصحّة، إلا أن النهج التقليدي يؤدي إلى مشاكل متعلقة بفهم ضعيف للطبيعة الهيكلية والبنيوية لعدم المساواة في الصحة. لهذا السبب، يجب اعتماد إطار نظري تقاطعي ومتعدد التخصصات لتوفير فهم نقدي وعميق وموحد لطبيعة العدالة الصحّية وكيف تساهم الهويات الاجتماعية المتعددة في إنتاجها.
خاتمة
من أجل تحسين وضع المساواة في الصحّة في تونس، نظرًا لانتشار وظهور الأمراض غير المعدية والأمراض المزمنة التي تؤثّر على نسبة كبيرة من السكان، يجب أن تشمل سياسات الصحّة الحكومية بشكل عاجل، إلى جانب إجراء إصلاح عميق للنظام الصحي، عدّة إجراءات لتحسين صحّة الفئات الضعيفة والمهمشة في المجتمع، خاصة بعد الإصلاحات السياسية والدستورية التي جعلت الوصول إلى الرعاية الصحية والحقّ في الحياة حقاً دستورياً. يجب أن تتم هذه الإجراءات من خلال التركيز على العوامل المؤثرة على الصحة الاجتماعية المتعلقة بالسياق الاجتماعي في تونس.
تعتبر المعرفة التّي بين يدينا المحدّدات الاجتماعية للصحّة المسؤول المباشر والأكثر تأثيرا في صحّة السكان. تم إجراء الكثير من العمل لاستكشاف الارتباطات بين المحدّدات الاجتماعية للصحّة والصحة البدنية والنفسية في جميع أنحاء العالم. ومع ذلك، في تونس، لم يتم الإبلاغ عن الكثير من الأبحاث فيما يتعلق المحدّدات الاجتماعية للصحّة ومساهمتها في صحة السكان، بدلاً من ذلك، تركز الدراسات الأكاديمية والسياسية على الرعاية الصحية وتقديم الخدمات الصحية. وهذا يعكس نموذجًا متمحورًا حول المرض فيما يتعلق بالصحة العامة في تونس بدلاً من نموذج متمحور حول المريض. الرسالة المركزية التي ظهرت من خلال هذا العمل التمهيدي هي أن المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي كانت تُعتبر حتى الآن عوامل مؤثرة في نتائج الصحة في البلدان النامية، تُعتبر أيضًا عوامل هامة في تحديد حالة الصحة للتونسيين. وهذا يدعم حقيقة أن تقييم المحدّدات الاجتماعية للصحّة أمر أساسي للبحث في مجال اللامساواة في الصحّة، حيث أنّ كلّ حياة تعاش وتفقد جزئياً بالعوامل الاجتماعية وبعوامل أخرى.
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 32، نوفمبر 2023.
للاطّلاع على العدد كاملا: http://tiny.cc/hourouf32