الاقتصاد التونسي …حديث في السهل الممتنع
|تعودنا منذ سنوات وسنوات على سماع خطاب تعجيزي و استسلامي مفاده أن بلادنا فقيرة و أننا لا نملك إلا ما نسد به الرمق و أن الله حرمنا من الثروات الطبيعية التي أنعم بها على جيراننا و أن إقتصادنا هش و ضعيف و يفتقد لبنية تحتية ملائمة و كل هذا الكلام البائس عن الواقع الكائن والممعن في تجاهل الممكن.
هذا الكلام الذي يتستر خلفه الكثير من المسؤولين الذين اجتهدوا ليصبحوا مسؤولين دون أن تكون لهم القدرة على تسيير ما أصبحوا بطرقهم الملتوية مسؤولين عنه وغابت عنهم شجاعة الاعتراف بالفشل. ينسى هؤلاء أو علهم يتناسون أن اقتصاد بلادنا هو اقتصاد صاعد لدولة صاعدة و أن بلادنا يمكن أن تصبح دولة مصنعة بامتياز و هي التي تشرف على سوق إفريقية واعدة قوامها 900 مليون مستهلك.
يتناسى هؤلاء أن البلاد عرفت نجاحات باهرة في قطاعات معينة اقترنت بأسماء لامعة يبقى أهمها على الإطلاق السيد منصور معلى. ينسى هؤلاء أن أزمة بلادنا بالأساس هي أزمة تسيير و ليست أزمة إمكانيات و موارد فمقدرات بلادنا أفضل بكثير من إمكانيات اليابان لكن الفرق بيننا و بينهم شاسع فهم قهروا شح الطبيعة و صنعوا من العدم قوة اقتصادية عالمية و نحن بقينا نتحدث مطولا عن النقص و النقائص و الصعوبات وسلمنا أمرنا للقدر ومازلنا نحيا على كرم السماء و إن أمسكت ضربنا موعدا لصلاة الاستسقاء و ننسى أن سهل الريح لا يعطي عبيد الريح زرعا.
وإن لم تكن أزمة تسيير فما الذي يفسر كيف انتقلت مؤسسات وطنية على أبواب الإفلاس إلى نجاحات باهرة و كيف انتقل الاقتصاد التونسي عموما من فترات ركود إلى فترات ازدهار قياسية بمجرد تغيير المسؤولين. ألم ينتقل الاقتصاد التونسي من نسبة نمو سلبية سنة 1968 إلى تحقيق نمو قياسي يقدر ب 17.2% سنة 1972.
إن لم تكن أزمة تسيير فما الذي يفسر الفارق المذهل بين الدراسات النظرية التي تقوم بها مختلف الهيئات الاقتصادية العالمية وحتى الوطنية الموغلة في التفاؤل وبين الواقع الموغل في الضعف و التعاسة. ألا يكمن الفارق بكل بساطة في عجز الكثير من أصحاب السيارات الإدارية والمنازل الوظيفية عن تنفيذ برامج ممكنة و متاحة.
والغريب في الأمر أننا بتنا اليوم نحلم بنسب نمو من المفروض أنها في متناولنا ولا يتطلب بلوغها إجتراح المعجزات. فأن ينمو اقتصادنا الصغير بنسبة 7 أو 8% لا يعتبر منطقيا إنجازا اقتصاديا لكنه أمسى كذلك في حين أننا قادرون على تحقيق نهضة اقتصادية حقيقية بمجرد القيام ببعض الخطوات التي أجمع عليها الخبراء التونسيون و التي ألخصها في ما يلي:
– إبعاد ممتهني السياسة فورا عن هذا القطاع الحساس و تكوين الكفاءات الدنيا و المتوسطة في خصوصيات تصور و تنفيذ الأنشطة الاقتصادية.
– اعتماد التنمية الريفية كقاعدة أساسية لبناء اقتصاد وطني قوي و متماسك اقتداء بتجارب عالمية ناجحة مثل التجربة البرازيلية التي وضعت برامج تنموية تعتمد على تنمية الأحياء السكنية كقاعدة لتحقيق النمو الاقتصادي. وفي نفس السياق يجمع الاقتصاديون العالميون و خبراء الاستشراف و على رأسهم أولفين تولفر على أن المستقبل سيكون للنظم الاقتصادية التي تعتمد على المؤسسات الصغرى و المتوسطة المنسجمة مع واقعها الاجتماعي والبيئي حيث أنها الأقدر على الحفاظ على التوازن النفسي و الاجتماعي لمجتمعاتها و الأقدر على التأقلم مع الهزات الاقتصادية.
– الانطلاق فورا في حل الإشكاليات العقارية التي تكبل البلاد و تبقي عشرات الآلاف من الهكتارات خارج الدورة الاقتصادية. وهذه الخطوة تعتبر جوهرية و أكيدة لإعادة الاعتبار لقطاع الفلاحة الذي يعتبر أكثر القطاعات قدرة على النمو و على استيعاب طالبي الشغل إضافة لدوره الهام في ضمان الأمن الغذائي الوطني.
– مراجعة آنية و سريعة للقطاع المصرفي على مستوى هيئات التسيير و قواعد التصرف.
– التخفيف أكثر ما يمكن من التعقيدات الإدارية و التركيز أكثر على العمل الميداني السريع.
– الإسراع في استكمال إنجاز البنية التحتية اللازمة و عدم التحجج بنقص التمويل فالوضعية المالية للبلاد( نسبة المديونية لا تتعدى 50% من الناتج المحلي) تؤهلها لاقتراض الأموال اللازمة لتحقيق هذا الغرض. و قد أكد كل من البنك الإفريقي للتنمية و البنك الأوروبي للاستثمار ومؤسسات مالية عالمية أخرى استعدادهم لتمويل عديد المشاريع المتعلقة بالنية التحتية.
– مراجعة جذرية لآليات تمويل المشاريع الفلاحية وعدم الاكتفاء بدور البنك الوطني الفلاحي. وفي هذا السياق يمكن الاعتماد على الودائع البريدية مدعمة بضمان البنك المركزي و استعمالها لتأسيس بنك بريدي تكون مهمته تمويل المشاريع الصغرى بالأرياف و المشاريع الفلاحية مستفيدا في ذلك خاصة من الانتشار الواسع لمكاتب البريد و قربها من المواطنين.
أما على المدى المتوسط و البعيد فلا بد من:
– مراجعة المنظومة التربوية بحيث:
- تصبح قادرة على إنتاج أفراد يتمتعون زيادة على قدراتهم العلمية بمهارات تواصلية و إدارية تؤهلهم للتعامل مع الآخر بثقة و اقتدار دون عقد أو مركبات نقص و يمتلكون الشجاعة اللازمة للاعتراف بأخطائهم و بنجاح الآخرين.
- تصبح قادرة على تنشيط روح الخلق و الابتكار و الإبداع لدى الأفراد بحيث تتجاوز هذه المنظومة الأسلوب التلقيني الفاحش نحو أسلوب تعليمي يعتمد على تقنيات الحث و الإيعاز و ينمي روح المبادرة لدى الأجيال القادمة.
– مراجعة المنظومة القانونية نحو تبسيط الإجراءات المرتبطة بممارسة الأنشطة الاقتصادية و خاصة التشريعات المتعلقة بشركات رأس المال و تسريع عمل القضاء في ما يتعلق بدعاوى استخلاص الديون التجارية و تنفيذ العقل و تصفية الرهون مما يساعد في دعم الثقة بين مختلف الفعاليات الاقتصادية و يساهم في تنشيط المبادلات.
– مراجعة المنظومة الجبائية نحو تكريس العدالة الجبائية و الحد من الامتيازات الاعتباطية و المجانية التي تضعف ثقافة المواطنة دون أن يكون لها أثر حقيقي على تحفيز الاستثمار. ويعتبر النظام الجزافي le régime forfaitaireأولى المسائل التي يجب التطرق إليها للتخفيض من العدد المهول للمنتفعين به على حساب ميزانية الدولة و على حساب المنطق السليم.
ولأن الفشل الاقتصادي كان المحرك الأساسي للثورة التونسية فإن الخيارات الاقتصادية الصائبة هي الكفيل الوحيد بإنجاح هذه الثورة وإيصالها لبر الأمان لأن البطون الخاوية لن تتردد في تجريد سيوفها ولن تكون قادرة على الانتظار مطولا وما نراه اليوم من فوضى و اعتصامات ليست سوى بوادر لانفلات خطير لا يمكن معالجته إلا اقتصاديا. والخطوة الأولى على درب النجاح تكمن في الإيمان بالقدرة على تحقيقه وفي تتبع السبل المؤدية إليه بكل عزم و بكل شجاعة لأن نجاح اقتصادنا ممكن و سهل لكن الصعوبة تكمن فينا كتونسيين في ما نحن عليه من غرور و من إصرار على الخطأ