تونس ما بعد 25 جويلية: أي أفق ديمقراطي؟

 

المصدر: Hassene Dridi/AP/SIPA

بقلم: سوسن فري

من نافلة القول أنّ تونس قبل 25 جويلية ليست تونس ما بعد 25 جويلية. حيث مثلت مجموع القرارات التي أعلنها رئيس الجمهورية قيس سعيد من تجميد لعمل البرلمان وإعفاء لرئيس الحكومة وترؤسّ للنيابة العمومية منعرجا هاما ومفصليا في علاقة بالمشهد السياسي التونسي.
بعيدا عن الجدل القائم بين رجال القانون وعدة وجوه سياسية عن مدى دستورية ما أقدم عليه رئيس الجمهورية، يمكن إبداء تحفظات على هذا الجدل، على أهميته، نظرا لتجربتنا السيئة معه بعد الثورة، حيث اختصر أهل القانون الثورة في ضرورة إيجاد الإطار الدستوري والقانوني الملائم لمنظومة ما بعد الثورة. احتوى هؤلاء الزخم الثوري وحوّلوا وجهة المعارك، من التفكير ومحاولة خلق عقد اجتماعي جديد يؤسس لعلاقة مختلفة بين الدولة ومواطنيها، تقوم على كسر علاقات الهيمنة التقليدية وعلى الانتصار للفئات المهمشة واحترام الفرد والعدالة، إلى اختصار الأزمة في ضرورة ايجاد إطار مؤسساتي لإدارة الفترة الانتقالية بسلام. من ذلك تأسيس هيئة تحقيق أهداف الثورة التي كان رئيسها عياض بن عاشور واعيا بهذا الرهان حيث عبّر عنه صراحة في كتابه ثورة في بلاد الاسلام بالقول محتجا على من انتقدوا عمله “لم تكن الهيئة مقبرة الثورة”. خلق هذا الانحراف بالثورة مسارين متوازين في تونس، مسار الانتقال الديمقراطي الذي حرص على بناء ديمقراطية شكلانية جافة، تهتم بالأساس بإجراء انتخابات وبتركيز هيئات دستورية كهيئة مقاومة الفساد وهيئة الحقيقة والكرامة وهيئة الانتخابات. ومسار ثوري، كما أطلقت عليه مجموعة جيل جديد، يقوده الشباب الغاضب في الشوارع من خلال التحركات الاحتجاجية التي ظلت تحرك الشارع بقوة في محاولة منها للدفع نحو تحقيق أهداف الثورة. كان هناك إذن طيلة السنوات العشر الفارطة صدع لم يتمّ رأبه بين الشارع والمؤسسات. وزاد في تعميقه تصدر حركة النهضة الإسلامية للمشهد السياسي حيث أنّها اختارت التطبيع مع المنظومة القديمة وأدارت ظهرها لمطالب الثائرين بحثا منها عن ايجاد موقع في “السيستام”.
أثبتت التجربة أنّ تغييب المعارك الحقيقية ذات البعد الاجتماعي والمواطني والانصراف عنها واختزالها فقط في الجدل القانوني لا يؤدي سوى إلى تأجيل هذه المعارك ولا يحلها بل ويؤدي الى انحرافات غير مأمونة العواقب في عدة أحيان. من ذلك نذكر ارتفاع الغضب والتململ الشعبي الى درجة غير معهودة إثر انتخابات 2019 بعد العبث الذي أدارت به حركة النهضة مفاوضات تشكيل الحكومة (تعيين الجملي وما حفّ به من إهدار للوقت والجهد في فترة حساسة)، وتحالفها الانتهازي مع عدو الامس حزب قلب تونس. وقد زاد الفشل الذريع الذي منيت به حكومة المشيشي في إدارة أزمة الكورورنا في الأشهر الاخيرة في تعميق الازمة، حيث احتلت تونس مرتبة متقدّمة في العالم في نسب الوفيات ودرجة انتشار العدوى. ارتباك المنظومة الصحية مضافا إلى حدّة الازمة الاقتصادية جعلا مؤسسات الدولة تقارب على الانهيار. نفد صبر الشعب وصار يبحث عن الأب المنقذ وهو ما يتجلّى من خلال استجداء تدخل رئيس الجمهورية في عدة مناسبات (نستطيع ملاحظة هذه الدعوات على صفحات التواصل الاجتماعي، كما من خلال هتافات الجماهير في أكثر من مناسبة عند الالتقاء بالرئيس).
مثّل الابتهاج الشعبي الواسع بقرارات الرئيس ترجمة لهذا الانحراف، فبدل أن يخشى التونسيون من مخاطر الانفراد بالسلطة وإمساك شخص واحد بمقاليد الحكم، خاصة وأنّ لنا ماضيا قاسيا مع الحكم جاءت الثورة للقطع معه، ابتهجوا وباركوا بكل جوارحهم هذه الخطوة. ولا نستطيع لوم الشعب على ذلك. فحسب رأينا كان ذلك حتميّا وكان ما أقدم عليه الرئيس حلّا أخيرا لإنقاذ البلاد من الانهيار الموشك في ظلّ انسداد كلّ الأفق الأخرى الممكنة. فحتى حق الاحتجاج تمت محاصرته في الأشهر السابقة لـ25 جويلية وتم التضييق على الناشطين وهرسلتهم بالإيقافات ورفع القضايا الكيدية (نذكر ما تعرض له النشطاء حمزة نصري ومريم بريبري ورانيا عمدوني وغيرهم) في مقابل السماح لأنصار حركة النهضة بالتظاهر بعشرات الآلاف في قلب الجائحة ودون أيّ مراعاة للظروف الصحية التي تعرفها البلاد. كما اعترت استقلال القضاء عديد الشبهات في ظلّ عجزه عن الوقوف في وجه طبقة سياسية مخترقة بالمال السياسي الفاسد. كل هذا وغيره جعل الخطوة التي أقدم عليها سعيد حلا حقيقيا لإنقاذ البلاد من الانهيار ولا بديل عنه ولكنه حل محفوف بالمخاطر ويمثل تهديدات جدية للديمقراطية في تونس. إذ يخبرنا التاريخ أن عدم تقييد السلطة يؤدي إن عاجلا أو أجلا إلى الاستبداد بها، حتى وان كانت النوايا طيبة، والآن صار قيس سعيّد يحتكر كلّ السلطات في البلاد دون أن تكون هناك رقابة تذكر عليه.
تمثّل هذه الخطوة، على طابعيها الضروري والعاجل، عثرة كبيرة أمام مأسسة الممارسة الديمقراطية وتحولها إلى ثقافة عند التونسيين، إذ يبدو بعد مسار انتقال ديمقراطي مليء بالنجاحات والإخفاقات على مدى عشر سنوات أنّنا عدنا إلى مربّع البداية من تسليم جميع المقاليد إلى شخص واحد نمنّي النفس أن يُلهم الصواب في قراراته. لعلّ المشكل أنّ هذه الخطوة لم تكن مجرّد إجراء استثنائي في ظرفية عابرة وإنّما هي علامة على العجز الهيكلي الّذي شهدته جميع المؤسسات في البلاد رغم حداثة عهدها بالديمقراطية.
نعتقد بأنه علينا الاعتراف بفشل تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس وفي المنطقة العربية مع تجارب “الربيع العربي”. فحتّى إن لم ينحرف قيس سعيّد بالسلطة الهائلة الّتي حازها، لا يمكن أبدا للديمقراطية أن تكون رهينة إرادة شخص واحد بل يجب أن تقوم على مؤسسات قوية تقيم علاقة متوازنة فيما بينها. يبدو أن الرهان اليوم في تونس تراجع أفقه، بعد الخراب الذي تركته الطبقة السياسية التي حكمت بعد الثورة، من المطالبة بدولة ديمقراطية تضمن الحقوق والحريّات وكرامة مواطنيها إلى تمنّي استعادة دولة قادرة على دفع أجور موظّفيها وقادرة على توفير حاجيات العيش الاساسية من أمن وصحة وتعليم. لا بدّ من الحفر عميقا لفهم أسباب هذا الفشل ولمحاولة بناء بديل ديمقراطي مستقبلا على أسس أصلب.

نشر هذا المقال بمجلّة حروف حرّة، العدد السادس، أوت 2021، ص ص. 4-5.

لتحميل كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf6

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights