محن العلماء والمصلحين في تونس:1-ابن خلدون…أو غادر البلاد

بقلم: محمد الصالح السعدي

لعلّ أحسن ما يكرّم به العلماء والمصلحون بعد رحيلهم هو أن ينصفوا –ولو بعد الوفاة- ويكشف للنّاس ما تعرّضوا له من مظالم وما قاسوه من محن في سبيل التّنوير والتّحرير وبناء الأوطان…ولنا في تونس عبر تاريخها الطّويل من العلماء والمصلحين من ظلم وعانى الكثير من أجلنا، وهم يستحقون منّا اليوم وقفة اعتراف ولو قصيرة جدّا، لا لنوفّيهم حقّهم، ولكن لندفع القليل من ثمن انتسابنا إليهم وتباهينا بهم أمام الشّعوب والأمم الأخرى. ومن هؤلاء، من أصحاب الفضل علينا-نحن التّونسيين-نتوقّف باحترام أمام قامات عبد الرّحمان ابن خلدون وعبد والعزيز الثعالبي ومحمد الطّاهر بن عاشور -رحمهم الله- وآخرون لنستحضر القليل ممّا عانوه من بني جلدتهم في سبيل العلم والإصلاح، وهذا من بابوَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ”

  فابن خلدون الّذي عاش من العمر أربعة وسبعين سنة (732ه، 1332م/850ه، 1406م) لم يهنأ بالعيش في مسقط رأسه وموطنه الأوّل والأحبّ إلى قلبه –تونس-إلا ثلث هذا العمر، لأنّه وجد نفسه مضطرّا إلى التّغرّب عن بلده في مرّتين متباعدتين في الزّمن.

  ففي المرّة الأولى، وما إن تجاوز العشرين بقليل قضاها في الدّراسة والتّعلّم، حتّى وجد نفسه –لنبوغه- يفوز بوظيفة مرموقة في بلاط السّلطان الحفصي لكنّه قرّر -بعد وقت وجيز- المغادرة الاختياريّة، المعلن من أسبابها مواصلة طلب العلم، وغير المعلن: “ما لحقه جرّاء الوظيفة من الحسد والدسائس”

  أمّا في المرّة الثّانيّة، وبعد ما يناهز ثلاثة عقود من الغربة ظلّ ابن خلدون أثناءها، يصل الرّحلة بالرّحلة والإقامة بالإقامة في أكثر من حاضرة من حواضر السّياسة وأكثر من مجلس من مجالس العلم في بلدان المغرب العربي والاندلس، يلاقي خلالها التّرحاب والتّبجيل والمناصب السّاميّة أحيانا ويقاسي المتاعب والعزلة وحتّى السّجون أحيانا أخرى، إلى أن أرّقه الحنين إلى موطنه الأوّل وحلم الرّجوع إليه علّه يعوّضه ما افتقده من شعور بالاستقرار والرّاحة ويستجمع ما ينقصه من العلوم ويحوز ما يمكنه من الكتب الجديدة. فسارع بطلب الإذن من سلطان تونس الحفصيّ… حتّى إذا أذن له، رجع على عجل يمنّي النّفس بـ” ظلّ ظليل من عناية السلطان وحرمته” واستدعى أهله والولد، وجمع شملهم بعد طول افتراق.

  في جامع الزّيتونة تصدّى ابن خلدون للتدريس فانهال عليه، كما جاء في التّعريف، طلبة العلم يطلبون الافادة والاشتغال. ومع التّدريس كان العلّامة لا يتوقّف عن تحرير “العبر”. حتّى إذا فرغ منه أهدى نسخته الأولى إلى أبي العبّاس سلطان البلاد، مشفوعة بمدحة شعريّة طويلة أملتها الظروف، ذيّلها باعترافه بنعمة صاحب الفضل عليه:

وإليكها مني على خجل بها

عذراء قد حليت بكل نفيس

لولا عنايتك التي أوليتني

ما كنت أُعْنَى بعدها بطروس

 حتّى إذا اطمأنّ صاحب العبر وظّنّ أنّ الزّمان قد صفا ونقا وأرخى سدول السّعادة والهناء أدارت له الدّنيا ظهر المجنّ بسبب دسائس بني جلدته وتآمرهم عليه إلى درجة قرّر معها اعتزال النّاس والتّفكير الجدّي في الاغتراب من جديد على مرارته وظلّ يتحيّن الفرص للهروب، حتّى إذا توفّرت له فرصة “الحرقة”، ركب البحر متسلّلا على متن سفينة بضائع متّجهة صوب الاسكندريّة ولسان حاله يقول ” إذا دخلت إفريقيّة (تونس)…فوافق أو نافق أو غادر البلاد”

وهكذا وجد ابن خلدون نفسه-بعد أربعة أعوام فقط- مجبرا على الفرار من موطنه ومسقط رأسه، والعيش بقيّة عمره بعيدا عن أهله وعشيرته لا لجرم ارتكبه في حقّهم أو لخلاف معهم في الملّة أو الدّين أو لمسّ من سمعتهم فيما دوّنه في كتبه-فأغلبهم لم يقرؤوا ما كتبه أصلا-وإنّما فقط لتمكّن الغيرة والحسد والبغض من قلوب البعض من سياسييهم ومثقفيهم، فما بالك بسوادهم الأعظم. غادر البلاد مطرودا هذه المرّة ولم يشفع له لا علمه ولا حكمته ولا ما بثّه في صدور التّونسيين من علم وعبر.

غادر ابن خلدون إلى أرض الكنانة ليعيش فيها بقيّة عمره معزّزا مكرّما بل وصاحب سلطة وجاه. ولم نتفطّن إلى حماقتنا وفداحة ما ارتكبناه في حقّ أنفسنا إلا بعد أن بلغنا صيته عن طريق من يقدّرون العلم والعلماء الّذين أخبرونا أنّنا خسرنا “أعظم فيلسوف ومؤرّخ أطلعه الإسلام، وأحد أعظم الفلاسفة والمؤرّخين في كلّ العصور”، حسب عبارة فيليب حتي. حينها -وعوض أن نعود إلى تاريخه لننظر ونحقّق ما في باطنه- نصبنا له تمثالا وسط العاصمة نمرّ به صباحا مساء متباهين به دون أن نكون قد عرفنا الكثير عن صاحبه وخاصّة ما عاناه من أجدادنا من إساءات. وتلك قمّة الغفلة.

 

نُشر هذا المقال بمجلّة حروف حرّة، العدد 38، ربيع 2025

للاطّلاع على كامل العدد وتحميله، اضغط هنا.

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights