ثورتنا وضياع المعنى
|لا شيء عاد له معناه. اللغة العربية/اللهجة الدارجة/الفرنسية المعدّلة تونسيا كلّها بحاجة إلى أن تعيد اكتشاف نفسها حتّى تجد معنى في عالم اللامعنى. إذا تصفّحت جريدة أو موقعا أو صفحة من صفحات الفايسبوك أو شاهدت قناة تنتسب إلى تونس (إسما أو مكانا)، عليك أن تستعين بمعجم (لم يكتب بعد) للـ”ثورة التونسية” المجيدة المباركة.
إذا شاهدت عنوان فيديو “فلان يلقّن فلتانا درسا لن ينساه”، فاعلم أنّ الدرس المقصود هو على الأرجح درس في قلّة الأدب. وإذا رأيت آخر عنوانه “فلتان يمسح بفلان الأرض”، فاعرف أنّه كذلك قد مسح الأرض بكلّ آداب الحوار. إذا تحدّث أحدهم عن “اليسار الكافر العلماني الماسوني المتصهين أيتام فرنسا”، فيمكن أن يعني بذلك مناضلا شرسا من الّذين صمدوا لإعلاء شأن حقوق الإنسان ايّام كانت الكلمة محرّمة. إن هاجم شخص أحد “أزلام النظام البائد ورموز الثورة المضادة” فقد يكون مرماه موظّفا كفؤا وجد في يوم من سنة خلت بطاقة انخراط حمراء فوق مكتبه. إن شتم أحدهم “سلفيا وهابيا ظلاميا من غلمان قطر”، قد يكون يقصد شابا متحمّسا لنصرة دينه. إذا صاح آخر بأعلى الأصوات مطالبا بالتنمية لجهته، فاعلم أنّ في تصرّفاته خرابها. إذا تهجّم فرد على “الكسالى المخرّبين أعداء الشعب”، فمن المحتمل أنّه يقصد مضطَهدين أعياهم طول التجاهل. إذا تحدّث غيره عن “إعلام العار” فالأمر يتعلّق بحقيقة أحسن أحد الصحفيين نقلها. أمّا إذا رأيت على فيديو أو صورة عبارة “عاجل” أو “خطير” أو “مؤامرة” فاعلم أنّ الدقائق الّتي ستقضيها في المشاهدة هي دقائق ضائعة من عمرك..
كلّ هذا غيض من فيض. كلّ عبارة تقريبا يقع تداولها إعلاميّا لا تعني نفس الشيء لدى قائلها وقارئها والمستمع إليها، بداية طبعا بعبارة “ثورة”، فضلا عن حمايتها وتحصينها وشهدائها وجرحاها وأعدائها وعدالتها الانتقالية. لكي تنطق بعبارة ما، يجب عليك إذا أردت ألا يخطئ المتلقّي معناك أن تضيف “دليلا” إلى كلامك. مثلا، ليست “المؤامرة” (نسخة الترويكا) هي “المؤامرة” (نسخة المعارضة “الديمقراطية”) ولا هي “المؤامرة” (نسخة المعارضة “التقدّمية”). الكلّ متّفق على وجود المؤامرة، ولكنّ كلّ طرف يجزم أنّها ضدّه.
تقرير المعاني لا يتمّ وفق “المنطق” كما وضعه المرحوم أرسطو، بل وفق “منطق” الاصطفاف التلقائي وراء رأي الجماعة الّتي ينتمي إليها المتكلّم. الصواب ما رأته هذه الجماعة والخطأ في كلّ ما جانبه، ولا داعي أن تكلّف نفسك عناء التفكير، فقط اختر انتماءك وستجد اختياراتك تتقرّر دون أن تحتاج إلى تقريرها. الأمر تماما كما قال الشاعر الجاهلي:
وَهَـل أَنـا إِلّا مِـن غَزِيَّةَ إِن غَوَت …غَـوَيتُ وَإِن تَـرشُد غَـزيَّةُ أَرشَدِ
غير أنّ غزيّة هذه لم تعد فقط قبيلة، يمكن أن تكون حزبا أو حركة أو “منظّمة وطنيّة” أو جمعيّة أو جهة…هي انتماء يمنح حقّ الصراخ في محيطك المتكهرب المتشنّج…هي منطق من فرّقوا وطنهم وكانوا شِيَعا…منطق من يلقون جانبا بجميع ما يوحّدهم ويمسكون بخناق التفصيل الواحد الّذي يفرّقهم…هي فوضى من المعاني الّتي يلهث فيها الفرد بحثا عن الجماعة الّتي تقاسمه نفس الفهم (تقريبا) للكلمات، حتّى إن ضحّى في سبيل ذلك بشيء غير قليل من حريّة فكره…قد يكون هذا الاصطفاف شبه الطائفي وراء معنى معيّن طبيعيّا في مجتمع يعاني منذ عقود من مشاكل جمّة في تحديد هويّته…قد تكون فوضى المعاني هذه عاديّة في ظلّ هذا المخاض “الثوري” الّذي تعيشه البلاد. ..المهمّ أن يكون المولود معنى واحدا يفهمه المواطنون، جميع المواطنين، بنفس الطريقة.