الاستشراق النسائي المضاد (الجزء الثاني)
|استعادة الجسد الأنثوي المسلوب عبر مفارقات الصورة الفوتوغرافية المعاصرة
للا السعيدي نموذجا (الجزء الثاني)
بقلم: سلوى مباركة علوي
2– الخط المغربي وسيطا فنيا وتداعياته على الممارسة الفوتوغرافية المعاصرة
مّثل فن الخط العنصر الزخرفي التشكيلي في أعمال للا السعيدي، المستوحاة من ذاكرتها المغربية وموروثها الإسلامي، فبعد أن كان الخط العربي وسيلة للعلم والمعرفة، أصبح مظهرا من مظاهر الجمال البصري الذي ينبض بالحياة والسحر من خلال حروفه المركبة، والمفردة داخل فضاء الصورة الفوتوغرافية المعاصرة. تسمح الزخرفة بعد ذلك للموضوع بالدخول إلى قلب الذات للكشف عمّا لا نراه.
أبدعت للا السعيدي في تشكيل صورها الفوتوغرافية من حيث اختيارها لهيئة حجم الجسد الانثوي، وكيفية جلوسه ووقوفه أمام الكاميرا، وتناسب عرضه وارتفاعه مع فضاء الصورة البصرية؛ حيث وظفت “الخط المغربي” كعنصر فكري، وفني، وجمالي في صورها الفوتوغرافية المعاصرة، حيث التناغم اللوني والحرفي، فأضحى الخط مركز الصورة البصرية. تناغم الخط مع الفضاء الفوتوغرافي، لتبدع للا السعيدي في الفضاء المعاصر الذي يجمع بين مختلف الخطوط. سواء من خلال هندسة المساحة الفوتوغرافية والحروف، أو من خلال الخطوط اللينة الملتفة، والمنبسطة، والصاعدة، والمنتظمة ضمن تركيبات خطية جمالية. تظهر متانة التكوين والتوزيع للمساحات والفراغات التي تجمع بين الخط اللوني والخط الحرفي في لوحتها “la grande odalisque #8” كما تبينه الصورة المرافقة.
ولعل ما ميّز العمل الفني لللا السعيدي إشتراك الزخرفة مع الخط بصورة تكوينية إنشائية بنائية. جمعت بين الخط والزخرفة، وتحققت قياسية الخط العربي “المغربي” نتيجة للتطور المهم الذي عرفته الصورة الفوتوغرافية النسائية المعاصرة.
استلهمت للا السعيدي الحروف العربية، وأجرت عليها بحثها الفني لتضفي عفوية في الحركة والتركيب. كما استخدمت في التشكيل النسوي المعاصر الحرف العربي “المغربي”، محاولة منها للعودة إلى القيم الحقيقية في فن الخط المغربي، باعتباره يتمتع بقوى إبداعية هائلة ضمن الإطار الفكري للتعبير الحرفي، الذي يستدعي إنتاجا مكانيا ولكن في شكل زماني. وقامت بتحويل الصورة الفوتوغرافية الحروفية إلى عمل تأملي ومرئي بتقسيم الحروف ووضعها في فراغات لونية.
وهنا لا بدّ من العودة إلى خصائص “الخط المغربي الكوفي” والذي يعد من الخطوط التقليدية في المغرب. وفي هذا الصدد يقول محمد المنوبي أنّه “يشير إلى مجموعة من الخطوط العربية المترابطة التي تطورت في بلاد المغرب (شمال إفريقيا) والأندلس… وينحدر الخط المغربي من الخط الكوفي، ويكتب بقلم سميك، ليبدو الخط في غاية الاتزان، ويستعمل في أعمال النساخة والتدوين والزخرفة… وهو أسلوب في الخط الكوفي، ابتكر في بلاد المغرب والأندلس [1]”.
اتخذت الفنانة الحرف العربي رمزا للماضي المغربي، متأرجحا بين العتيق العريق والمعاصر، من خلال توظيف مادة الحناء، التي تعبر عن حميمية المرأة المغربية، والخط الكوفي الذي يمثلها جوهر تطور الخط العربي في الممارسات الفنية المعاصرة. كما حاولت للا السعيدي ابتكار خطوط جديدة في المؤلفات المعاصرة باستخدام المبادئ والأسس الكلاسيكية، لأن الأخير مليء بالتنويعات والأشكال الخطية المتنوعة مثل: الخط المبسوط، والمجوهر، والثلث المغربي، وهو حسب الخطاط محمد المعلمين : “كان يسمى الخط المشرقي أو الخط المشرقي المتمغرب، وهو خط مستوحى من خط الثلث المشرقي[2]” والخط المسند “ويسمى كذلك الزمامي، خط يستعمله العدول في المحاكم… تطور من الخط المغربي المجوهر. والحروف في هذا الخط تميل إلى اليمين. كما يستعمل في النصوص التي يريد المحررون إضفاء طابع من الغموض عليه نظرا لصعوبة قراءته[3]”.
إلى جانب عدد من الخطوط الأخرى التي يجمل عبد اللطيف محمد الصادق القول فيها:
“كالخط القيرواني ويتميز بحروفه القصيرة والقريبة من بعضها. والخط الفارسي ويمتاز بطول الأسطر العمودية. إضافة إلى الخط التمبكتي وهو نسبة إلى بلاد السودان (أي إفريقيا جنوب الصحراء) أو مدينة تمبكتو (مالي حاليا) ويمتاز بكبره وغلظه. والخط الجزائري وهو حاد الزوايا[4]”.
استثمرت الفنانة النصوص غير المقروءة لتترجم كتاباتها الطفولية. حيث أتقنت الخطوط الكلاسيكية المغربية من خلال الإلمام بطول الحروف وعرضها، من خلال استخدامها الأدوات القديمة بالطرق التي اُستخدمت من قبل خطاطي الماضي، كالخط المغربي الكوفي بمادة الحناء؛ وظفت للا السعيدي الخط المغربي، وهو الخط الكوفي المحلي في بلاد المغرب والأندلس، والذي عرف بالخط الكوفي المغربي، وهو أقرب إلى خط النسيج. حيث تتميز حروفه التي تجمع في شكلها بين حروف الخط الجاف واللين معا، مما يعطيها طابعا مميزا ويجعلها أكثر طواعية في التنفيذ.
لجأت الفنانة في كتابة الخط المغربي إلى كتابة بعض الحروف مثل اللام، والنون، والياء النهائية على شكل أقواس نصف دائرية، تهبط على مستوى السطر وتتكرر على امتداده. كما ميزت بين هذه الاستدارات وبين الحروف الأخرى ذات الشكل الجاف في الزوايا في إشارة منها إلى التذكير بالكتابة البدائية، وكلمحة للحضارات القديمة التي مرت على بلاد المغرب.
تطور الخط المغربي إلى أن استقل عن النفوذ المشرقي، وصاغ لنفسه مرحلة جديدة لها خصوصياتها وقواعدها لتزيد بذلك للا السعيدي جمالية في صعوبة قراءته، لما يحتويه من أسرار طفولية تتدلل الفنانة في الكشف عنها، إذ تبدي للمشاهد والقارئ زينته وتخفي مضامينه ورموزه.
اجتاح الخط العربي الفكر المغربي، وانزاح المغاربة عن كتاباتهم القديمة. وأنشئوا خطا يتميز بخصائص مغربية، ويحافظ على قواعد الخط الكوفي. كما تطور هذا الخط بعيدا عن الخط المشرقي وخالفه في ترتيب الحروف الأبجدية. حيث تميز الخط المغربي بخلوه من القواعد وارتباطه بالخط الكوفي. وقد ابتعد عنه الخطاطون المعاصرون وتقاعسوا في تطويره. وغدا موروثا مغربيا ورمزا من رموز التراث التقليدي المغربي. وهذا ما سعت للا السعيدي إحيائه من جديد في صورة فوتوغرافية معاصرة، من جهة للتعريف بالخط المغربي الكلاسيكي، ومن جهة أخرى لإخراجه في صياغة تشكيلية معاصرة جديدة، تحاكي الخط البدوي غير المقروء، وتجمع بين الخط المغربي السميك والخط البدوي اللين.
مثّل الخط في الصورة الفوتوغرافية أبسط شكل مجرد وصلة بين نقطتين، وهذه الصلة لا عمق ولا حجم ولا ملمس لها، إذ لا صفة لها ولا مقياس غير الطول. ولذلك فالخط أقرب إلى أن يكون مفهوما تشكيليا. كما تميز الخط الذي احتفت به الصورة الفوتوغرافية في “سلسلة نساء المغرب”، بتعدد أشكاله من خط مستقيم إلى منحن، متعرج، ثم منكسر، ولكنه يبقى صانع الشكل. وفي هذا الصدد يقول الدكتور عفيف البهنسي في كتابه “معجم مصطلحات الخط العربي والخطاطين”: “إنّ الخط العربي يعد من أهم مظاهر العبقرية الفنية العربية، إذ تطور من وسيلة للمعرفة وتبادل الخبرات، إلى فن قائم بذاته، يعتمد فلسفة جمالية خاصة، تتميز بتلاحم الشكل والمضمون الذي غالبا ما يكون روحيا[5]”.
تمكنت للا السعيدي من المزاوجة بين الشكل والمضمون، مزاوجة في غاية جماليات التشكيل الفني للخط المغربي. والهندسة الروحية لتصبح بذلك الكلمة المكتوبة في المشهد الفوتوغرافي “سلسلة نساء المغرب”، آلية من آليات التصوير الفوتوغرافي المعاصر.
كما استخدمت الرسم باللغة والخط المغربي كأثر إبداعي، يستدعي النخبة المتقبلة إلى البحث في آثاره النفسية والتعبيرية. حيث يرى الكاتب د. علي عبد الواحد وافي في كتابه “علم اللغة”: أنه “بفضل الرسم تضبط اللغة، وتدون آثارها، ويسجل ما يصل إليه الذهن البشري، وتنشر المعارف، وتنقل الحقائق في الزمان والمكان، والخط العربي هو قوام الفصحى، ودعامة بقائها[6]”.
عملت للا السعيدي على توظيف الخط المغربي في مشروعها الفوتوغرافي، باعتبار هذا الأخير يمثل فنا تشكيليا معاصرا في الممارسة الفنية. وهو ما جعله سهل التعبير عن حركته وكتلته فينتج حركة تجعل الخط خفيف الكتلة، ويحقق بذلك إحساسا بصريا ونفسيا وإيقاعا جماليا معاصرا. وسعت إلى إنتاج تركيب متوازن في لوحاتها الفوتوغرافية، من خلال دقة الحروف وغموض الكلمات. كما نلاحظ في الممارسة التشكيلية للفنانة مدى معرفتها بالخط وتمكنها منه وإتقانها له حتى لا يفقد هذا الأخير شكله. حيث جمعت بين دلالات المضمون في شكل تركيبي مبتكر، للتعبير عن الأصالة في المعنى والدلالة والليونة والطلاقة، والطواعية بين الشكل والمضمون في ممارسة تشكيلية معاصرة.
اختزلت الفنانة دور الخط في التعبير عن المشهد الدرامي المحسوس للعلاقات الديناميكية لتجاور الحروف. والتي تّصب في جماليات الهيئة الكلية للخط، نتيجة التزاوج والتمازج بين المتضادات الدلالية للحرف، والكلمة، والنص. كما وظفت الشكل الخارجي لهيئة الخط في تجسيد مرئي للمضمون، كدلالة بصرية يمكن إدراكها من خلال ما توحي به، وما تؤكده جملة الأحاسيس الإدراكية، أي الإدراك والشعور لدى المتلقي ومشاهد العمل الفوتوغرافي. واختلفت الإشارات التعبيرية للصورة تبعا للرسالة التي أرادت للا السعيدي إيصالها، من حركة وسكون، صلابة وليونة، الحوار بين الكتلة والفراغ، الحوار والصمت من خلال متغيرات الدلالة والمضمون لشكل الحروف والكلمات.
وضعت الفنانة فلسفة جمالية في علاقة الشكل بمضمون الخط ومفرداته، كالحروف المنفصلة، والكلمات ذات دلالات مترابطة في وضع منهجية لنظم الصورة الفوتوغرافية المعاصرة، من خلال فلسفة كل خط على حدة تبعا لشكل الحرف، وطبيعة تكوين مفرداته الإنشائية المكونة لهيئة الخط. تمكنت للا السعيدي من التحكم في اللوحة وشكل الحروف. وإخراجها بشكل جميل يضفي الراحة النفسية والبصرية لدى المشاهد. كما ركزت على الاتزان في تراكيب الحروف من خلال توافق الخطوط مع بعضها، والذي يعد أساس اتزان الصورة الفوتوغرافية التي بدورها تحقق سلامة الكتابة الفنية.
ركزت للا السعيدي على الجانب التشكيلي في تشابك الحروف وتداخلها مع الكلمات، فتصبح بذلك أقرب إلى الزخرفة. كما وظفت تعدد شكل الحرف الواحد، من خلال اختلاف الخطوط في الحروف بالسمك أو الليونة، واختلاف أحجامها مما يعطي هذا الأخير التنوع والثراء. وأبدعت الفنانة في كتابة الخط المغربي، وأعطته فلسفة جمالية معاصرة جديدة. تميزه عن الصيغ الصورية المعتادة في العالم العربي والغربي على حد السواء. من خلال تأكيدها على أصالتها وهويتها المغربية.
خاتمة
اهتم هذا البحث في جزأيه بطرح إشكالية توظيف الجسد الأنثوي في الصورة الفوتوغرافية، من خلال رصد المقومات الفكرية والجمالية لنموذج من تجربة فنية مغربية عالمية معاصرة. تولّدت أعمالها نتيجة مفاهيم ورؤى استشراقية نسائية مضادة، تخدم موروثها وتقاليدها المغربي. وقد وقع اختيارنا على للا السعيدي، أين تميزت بأسلوبها الخاص وتقنياتها المبتكرة في إنتاج وإنجاز أعمالها الفنية. لقد حاولت إظهار تفردها في الطرح والمعالجة التشكيلية على مستويات الإنشاء والتركيب والتقديم، والمثول والتمثّل. ورصدنا تداعيات الرقّي بالجسد الأنثوي المهمش الذي ظهر مع الفن الاستشراقي.
أصبح الجسد الأنثوي في مجتمعاتنا العربية حاملا لجملة من القضايا والإشكاليات، فتمثيله شكّل مرآة فنية عاكسة لاختلاف التصورات والرؤى الجمالية، من خامات ومواد وأشكال وألوان; أمّا عن تقديمه في معارض عالمية فهو دلالة على التمرد والنقد والحراك الاستشراقي النسائي المضاد، في حين مثّل البرقع والحناء والخط المغربي، الأصالة والموروث والثبات والهوية الواحدة والثقافة المزدوجة.
قدّم لنا الإنتاج الفوتوغرافي “سلسلة نساء المغرب” لللا السعيدي، انفتاحا فكريا على ثقافات غربية من خلال استخدامها تقنيات متفردة ومبتكرة عبر خطاب تشكيلي معاصر، نقلت من خلاله الفنانة التحولات التقنية والثقافية والاجتماعية…. فالثورة الإبداعية النسائية للاستشراق المضاد التي شهدها العالم الفني كان لها أثر كبيرٌ على أعمالها، فأوضحت أن التصوير الفوتوغرافي هو أداة حضارية، ثقافية وفنية تعكس الحياة المجتمعية وواقعا راهنا، وخاصية من خاصيات الحرية والعلم والمعرفة والإبداع.
الهوامش
- المنوبي، محمد، تاريخ الوراقة المغربية، صناعة المخطوط المغربي من العصر الوسيط إلى الفترة المعاصرة، منشورات كلية الاداب والعلوم الإنسانية، الرباط، 1991.
- المعلمين، الخطاط محمد، الخط المغربي الميسر، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 2012.
- الأمين، إيمان، الخط المغربي: أصوله، مراحل تطوره ومدارسه، رسالة ختم الدروس الجامعية، المعهد الأعلى للتوثيق، منوبة، 1999، 2000.
- الصادق، عبد اللطيف محمد، الخط المغربي، جماليات الخط المغربي، مجلة القافلة (الظهران- السعودية) رمضان 1415ه فيفري 1995، ص 9 و12.
- البهنسي، د.عفيف، معجم مصطلحات الخط العربي والخطاطين، مكتبة لبنان ناشرون، الطبعة الأولى، بيروت، 1990، ص 45.
- وافي، علي عبد الواحد، علم اللغة، نهضة مصر للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة التاسعة، 2004، ص 203.
نُشر هذا المقال بمجلّة حروف حرّة، العدد 38، ربيع 2025
للاطّلاع على كامل العدد وتحميله، اضغط هنا.