في ذكرى سقوط غرناطة: قراءة في ضياع الأندلس على ضوء الثورات العربية

 أنشأت صديقتي منذ عامين تقريبا صفحة على الفايسبوك اسمها الأندلس.. بها الآن أكثر من  خمسون ألف محب للأندلس ومهتم بأمرها متعطش لقراءة تاريخ ليس بالبعيد .. تاريخ خلّده قول الشاعر ابن سفر المريني
وأيـن  يـبلغ مـنها مـا أصنفه؟   ** وكـيف يحوي الذي حازته إحصاء؟
قد مُيزت من جهات الأرض حين بدت **   فـريـدةً وتـولـى مـيزها الـماءُ
دارت عـليها نـطاقاً أبـحر خـفقت   ** وجـداً  بـها إذ تـبدت وهي حسناء
لـذاك  يـبسم فـيها الزهر من طربٍ **   والـطير يـشدو ولـلأغصان إصغاءُ
فـيها خـلعت عذارى ما بها عوضٌ  **  فـهي  الرياض وكل الأرض صحراء
وأبّنه قول أبي البقاء الرندي :
تبكي الحنيفيةَ البيضاءُ من أسفٍ   ** كما بكى لفـراق الإلـفِ هيمـانُ
على ديار مـن الإسـلام خاليـة **  قد أقفرت ولهـا بالكفـر عُمـرانُ
حيث المساجد قد صارت كنائسَ ما  **فيهـنَّ إلا نواقـيـسٌ وصُلـبـانُ
حتى المحاريبُ تبكي وهي جامدةٌ  **حتى المنابرُ ترثي وهـي عيـدانُ
يا غافلاً وله في الدهـرِ موعظـةٌ  **إن كنت في سِنَةٍ فالدهـرُ يقظـانُ
وماشيًـا مرحًـا يلهيـه موطنـهُ  **أبعد حمصٍ تَغرُّ المرءَ أوطـانُ ؟
تلك المصيبةُ أنسـتْ مـا تقدمهـا  **وما لها مع طولَ الدهـرِ نسيـانُ
هذه الأندلس في ذكرى السقوط الذي يعيد نفسه لأكثر من خمسمائة عام مضت.. ذكرى سقوط في ظل ربيع عربي ثوري يرفع قامته الهوينى ليرتفع بمجد مل الانحناء في محراب التاريخ.. لن تكون الذكرى بمعنى البكاء على مجد مضى.. لأنّ تلك هي حركة التاريخ.. وليس لاسترجاع الأندلس.. لأنها كذلك داخل دورة التاريخ أيضا.. ولكن فقط تذكير لمن يجهل تاريخه ودعوة للاتعاظ و التفكر من اجل البناء ومن أجل النهوض ورسم وجه جديد للحضارة العربية الإسلامية جذورها الأندلس وفرعها القدس.. وعملا بقول الرحمان { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ } [سورة الذاريات: 55] وإيمانا بان أمة لا تعرف ماضيها لا يمكنها صياغة مستقبلها.. وذالك بالاعتبار مما كان وسلف لتجنب السقوط مرتين ..
ذكرى مؤلمة.. ككل ذاكرتنا العربية الموشحة بالنكسات والخيبات والانكسارات ..نستحضرها الآن وكلنا أمل في عدم السقوط ثانية.. وكلنا حلم تونسي الأصل كما كانت القيروان المشكاة التي أنارت طريق الأندلس.. وهذا “السقوط” بقدر قساوة الكلمة بقدر ما تحمل من دروس وأمل..
كما أوراق الأشجار تسقط لتغذي أرضا لتنبت غرسه جديدة.. هو كذلك لنا تاريخ الأندلس.. الورقة التي سقطت لتنبت في ارض تونس ثورة تمتد جذورها لتصل القدس.. ورقة تقول بصدق تاريخ مضى .. تجاوز عثراتي أيها القادم.. وأعد فتح دفاتر النسيان لتعرف من قتلني وتعرف عدوك فتنتصر..
كي يكون خريف الأندلس.. ربيع الثورة .. وجب علينا قراءة تاريخ سقوط الأندلس وأسبابه وما يعنيه في ظل الثورة التونسية والعربية من دروس..
بالعودة إلي سقوط الأندلس، نجد أنه نتيجة حتمية لعدة أسباب منها تفتت شمال إفريقيا بعد سقوط دولة الموحدين وما تبعه من تفكك الأندلس في عهد الطوائف حيث تفككت الأندلس إلى دويلات تجاوزت العشرين  مما خلق عدم استقرار سياسي زاده سوءا الصراع بين الدويلات على السلطة التي وصلت إلى الاستقواء المسلمين على بعضهم بالنصارى وقتل المسلمين للمسلمين .. واختلفوا الاختلاف المذموم مما شتت قوتهم واضعف الأندلس من الداخل..
هذا التفتت في العالم العربي الإسلامي ليس غريبا وحروب الخمسين سنة الأخيرة بين البلدان العربية خير دليل.. ولكن ما نحلم به أو ما وجب علينا العمل على تحقيقه هو الوحدة العربية الفعلية وذلك بإعادة أو قل ثورة على الجامعة العربية التي تفرق أكثر مما تجمع.. حتى نرى شعوب ثائرة تتوحد فيمكنني بعدها يوما ما إن أركب القطار في رحلة من السودان حتى موريتانيا وتلغى الحدود المعنوية بيننا والتأشيرة طبعا مع احترام سيادة كل دولة .. هذا لو اتفقنا كيف نختلف .. ونحن الآن نختلف حتى بعد الثورة الاختلاف المذموم.. فترى القسمة على اثنين وأكثر بين مسلمين وعلمانيين وتراها حرب شتائم وسب ولعن.. وبيننا الوطن .. لو أننا نعرف كيف نختلف
ولنعتبر من تولي الملك أبي عبد الله محمد بن الحسن عرش مملكة غرناطة وريثا أورث المملكة الذل والهوان .. وسقطت بسقوطه في 2 جانفي 1492 تاريخ الرحيل الأخير وسقوط أخر ممالك الأندلس
أما حان للملكية أن تنتهي ؟ عائلات أهانت شعوبا بجهلها وتاريخنا المعاصر يروي فسادهم.. فما أسقط الأندلس غير التوريث وما جاء بالاحتلال والاستعمار غير عائلات مالكة فاسدة تتحكم في مصير شعوب..وما النهضة إلا بسقوط مشروع التوريث .. سقط التمديد والتوريث في تونس ومصر وليبيا ومازالت في بقية البلدان الخاضعة للذل والهوان هذه العائلات التي لا ترتوي خضوعا ولا تشبع سرقة.. متى تحل الثورة فيها حتى يرحلوا ؟.. وتجنب السقوط يكون بالانتباه من ظهور عائلات تحاول أن تحكم شعبا ولدته أمه حرا .. متى يصلهم صوت الفاروق عمر؟
هي الأخلاق أيضا ترفع وتضع.. تعز وتذل .. وما ضاعت ممالك الأندلس من يدي المسلمين إلا عندما هانت أخلاقهم إذ يقول فيهم المؤرخ كوندي: “العرب هووا عندما نسوا فضائلهم التي جاؤوا بها.. وأصبحوا على قلب متقلب يميل إلى الخفة والمرح والاسترسال بالشهوات” ) من كتابه مصرع غرناطة) البذخ والانغماس في الشهوات والترف كان سببا في سقوط  ممالك الأندلس.. أيكون سببا في سقوط  ممالك العرب الآن بعد سقوط ممالك في تونس وليبيا ومصر.. ونحن نسمع ونرى سيارات مطلية بالذهب ومرصعة باللؤلؤ وأمراء بين حانات أوروبا وأمريكا والفقراء في عالمنا العربي يزداد عددهم ويكبر حلمهم بلقمة عيش وحياة كريمة وميتة سوية..
مشروع حضارتنا اليوم يجب أن يمر بالأخلاق.. الصدق والأمانة والمسؤولية والوسطية والاعتدال والاحترام والحب والألفة.. الأخلاق مشروع نهضتنا ورقي مجتمعنا وحضارتنا كما قال وصدق الشاعر
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ** فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
كما كان السقوط لما غاب العلماء عن مشاغل الأمة وانشغلوا بالخلاقات الفرعية والمذاهب .. ذهبت الأندلس لما للعلماء من دور في الارتقاء بالوعي المجتمعي ..
هذه الغياب نأمل أن لا يتواصل في مجتمعنا الآن لأنه كان فكان اغلب العلماء علماء السلطة يحكمون ويفتون بهوى الحاكم لا يراعون حدود الله .. فوجب في تونس مثلا أن يستعيد جامع عقبة مكانته وزيتونة التسامح إشعاعها.. فتواصل قلة الوعي الديني داخل مجتمعنا يهدده بالعنف والانقسام ونحن في اشد الحاجة إلى التماسك..
كما لا ننسى أن الاستقواء بالنصارى والثقة بهم وخنوع المسلمين لهم ولموالاتهم انقلب في النهاية إلى نصب محاكم التفتيش وتعليق المشانق والطرد المذل
وكيف لهم هم أن يستأمنوهم على أوطانهم وقد كانوا بالأمس القريب محتلين قاتلين مستعمرين.. ما أقصر الذاكرة لديهم..؟ وما تفعل الدول القوية غير تطبيق نظرية القوة بالمحافظة على مصالحها ؟
فيا حبذا لو يتعظ البعض بالذئب والحمل..ويا حبذا يكون السقوط فرصة للوقوف بشموخ أبدا..
يا حبذا.. ونعم هي فرصة كما كانت القيروان طريقا لمجد خالد في الأندلس .. هي فرصة لتكون تونس منارة جديدة تشع على العالم العربي والعالم كله.. هي فرصة للأمل .. وهي فرصة لنرى الشمس من كل نوافذ قصر الحمراء بتفاؤل.. وفرصة لنعيد ترتيب التاريخ.. وفرصة لنفض الغبار عن حضارة صامدة كالقدس.. ومقاومة كالعراق.. وأصيلة كالقيروان.. وفرصة لتنجح الثورات..

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights