التجربة الدينية العابرة والإسلام الرسمي في تونس

بقلم: خليل العربي

لجذر ر-س-م في اللغة العربية دلالات عديدة. منها رسَم الصورة أو الشكل بما يُفيد تحديدا لشيء ظاهر للعيان. كما يعني الرسم أيضا الأثر الباقي من الشيء بعد أن عفى. وهو ما يترك تحديدا لشيء حتى بعد زواله. وتُحدثنا القواميس عن الذي رسم في الأرض أي غاب فيها، فهو مما لا يُرى لكنه حاضر. يكاد الجذر يتصل حصرا بجهد اللغة من أجل إبراز الحضور في الزمان والمكان والظهور، لكنه يتضمن في الآن ذاته معنى أن ما يُرسم لا يدوم من حيث هو قوة أو فعل أو صورة تُنازع مصير الاختفاء والزوال.

تحيل عبارة ”دين رسمي“ على ما يثبت في الزمان والمكان، وما هو محدد في المعنى والمبنى. لكن المفارقة أننا بصدد أسباب تثبيت متنوعة تصدر أساسا عن الدين نفسه، بما يذيعه عن نفسه من ثبات، وعن السلطة، بما هي قوة تُثبت كل شيء حول مركزها. يكاد ذاك المعنى اللغوي المرن في الجغرافيا والوقت والفعل يختفي أمامها. لكنها فعليا لا تقدر على ذلك، رغم كل شيء، فالدين ذاته تجربة إنسانية تعيش تنوعا رهيبا حتى لو صادرت مؤسساته وخطاباته هذا التنوع فيه. لا تقدر السلطة بدورها على ضمان هذا الثبات طويلا، بل أن من صميمها الرهان على الجغرافيا والتاريخ والمجتمعات من أجل التحكم والسيطرة. يمكن للسلطة أن تسبق جغرافية الدين وتاريخه فتدفع نحو تحديثه، كما يمكن أن تتبنى الدين نفسه كما جاء من ماضيه الخاص لتكون عائقا. إنّ السلطة في نهاية الأمر تصنع ثابتها الخاص.

زعزعت الحداثة ثوابت السياسة والدين التقليديين، وأطلقت مجالا إنسانيا يصارع دائما من أجل ضمان استقلاليته أمام جميع أشكال الهيمنة الممكنة. كان الفرد الحديث محور هذا التغيير، فهو وحدة أساسية ومعيار لذاته، وقوة تتحرك نحو أفقها الخاص. لذلك كانت أدوات القانون والسياسة الحديثة أدوات ضرورية لتحقيق هذه الأهداف.

كانت علاقة الدولة والدين في تونس مطروحة منذ البداية. ويكاد مسارها الطويل إلى اليوم يؤكد أن كليهما أضحيا عقبات أمام إطلاق ممكنات التغيير الفردي والجماعي. تملأ الدولة تناقضات عديدة، فمن حيث تعترف بمواطنية الجميع ستجد دائما من هو مقصي منها لأسباب دينية. وقد عززت الدكتاتوريات من هذه التناقضات. سيدعوك القانون في الدول العربية للحرية لكن الأمن سيعتقلك من أجل قبلة أو علاقة جنسية. وسيهلل الجميع باسم الدين لذلك. كذلك سيعتقلك لإطالة اللحية.

أمام الجمود السائد الذي يدعي الثبات بمنطق التعالي، أصبحت الفرديات في المجتمعات العربية والإسلامية أكثر تنوعا واختلافا. بل إنها فرديات تعبر سلطة الدولة وسلطة الدين، وتعبر المجال الرسمي الناشئ بينهما رغما عنهما. لكنها في النهاية لا تساهم في نشأة المجال الرسمي ولا تتحرك فيه بحرية. هي بالمجمل قوى مقموعة ومواربة تسعى للحضور فيما يرسمه الرسمي. إنها بالأساس جماليات تخترق القبح الرسمي باسم السلطة والدين.

بهدف تتبع التغير والتحول، من الضروري عرض المدخل المنهجي وصولا إلى تقديم أمثلة عليها. وهو مما يمكن الاشتغال عليه أكثر بمناهج كمية وكيفية.

 .1مدخل منهجي

1.1 بين الدين والتجربة الدينية

يستدعي سؤال الدين عدة أسئلة في نفس الوقت، وتؤثر طبيعة الإستدعاء وأدواته على مقاربته بشكل كبير. وجب لذلك تحديد توجهات الإستدعاء التي تحاول قولبة الدين ضمن أطرها الخاصة، فتتعرض لجوانب دون أخرى، من أجل تجاوز تدخلها في مقاربة موضوع التجربة الدينية العابرة والإسلام الرسمي في تونس. ويمكن الإشارة إلى اثنتين في هذا المستوى:

– المقاربة الجوهرانية: من سماتها الأساسية هي رفع جوهر ما للدين كمتعال وثابت. ونجد ملامحها لدى العديدين سواء من التيارات الدينية أو الفكرية والعلمية

– المقاربة الضد-جوهرانية: وهي كرد على المقاربة الأولى ترفض فكرة الجوهر المتعالي وتموضع الدين كظاهرة خاضعة للملاحظة المباشرة.

ثمة معضلات في كل مقاربة يمكن أن نتجاوزها تدريجيا عبر التخلص من إدعاء التعالي في الأولى، ونكران الجوهر في الثانية، والتي تتجاهل أن تصور الجوهر المتعالي نفسه حاضر لدى المؤمنين. وهو ينتج مفاعيله في التجربة الدينية. وقد وجب لذلك الانتباه له.

يطرح مفهوم العبور في الموضوع المطروح هنا عنصر الانتباه لحركة ما تتحدى في كل مرة ما يبدو ثابتا ومستقرا في التجربة الدينية. ويعتمد مصطلح التجربة كبديل عن الظاهرة/الدين للاستعانة بدلالته المحيلة على التعدد والتنوع في تحصيل من يمر بها لما يعتبره حقيقة موضوعية وتمتلك شيئا من المضمون الديني.1 وهو تعدد وتنوع يرتبط بمن يمر بها ويرتبط بموضوعها الذي يبدأ بما هو مادي ومحسوس وصولا إلى “ما لا يمكن وصفه”، حسب من يمر بها دائما.

يتدخل هنا مفهوم العبور، ليفيدنا بشيء من المرونة التي تتجاوز أطر فهم التجربة الدينية، فالأخيرة بما هي كاشفة لجوانب مهمة فإنها تؤدي إلى خلق منطقة رمادية أو عمى عن تحولات وتغيرات بل وتجارب دينية أخرى.

يستدعي السياق المعولم محاولة فهم العلاقات القائمة داخل المجتمع ضمن أفق التوقع والاستشراف عبر متابعة وملاحظة متغيرات عديدة. فرضت العولمة سياقا متعالقا وموسعا بمستويات اقتصادية وسياسية وثقافية. وتنضاف التقنية والتكنولوجيا كعنصر وطاقة تقع ضمن هذه المستويات وتزيد من تحولاتها وسرعتها. ويمتد تأثيرها من الفرد إلى المجموعات والأقليات إلى المجتمعات في إطار الدول الوطنية وبينها جميعا. وحتى نبدأ ضمن هذه الشبكة من العلاقات من نقطة منهجية، يمكن الاستناد إلى طرح جيلبير سيموندون حول الفرد العابر، مع الانطلاق منه في فهم بعض التجارب ذات المحتوى الديني أو التي تتعامل معه في دون إغفال العلاقة مع الإسلام الرسمي في تونس.

 2.1 الفرد العابر لدى جيلبير سيموندون(Gilbert Simondon)

يشير هذا الفيلسوف الفرنسي إلى معطى مهم حول علاقة الفرد بالمجموعة. انطلق في البداية ليوضح مأزق تصور العلاقة بينهما ضمن منطق الدمج/الإقصاء، بما هو فهم يلتزم بهيكلية العلاقة القائمة بينهما دون إدراك لحظة بداية مسار تشكل التفريد/التجميع. لا يعني إدماج الفرد ضمن مجموعة أن الأخيرة مستقرة وأن العلاقات صلبة، كما أن إقصاء فرد ما من المجموعة لا يعني أن المجموعة انتهت. ليطرح بذلك تساؤلا عما يربط بينهما خاصة عندما تواجه العلاقة أزمة ما.

 كشف سيموندون عن مستوى ما-قبل التفريد. على سبيل المثال، ضمن علاقة العامل بالمصنع، يشير إلى أن العامل جزء من هيكلية تراتبية مشروطة بموقع العامل وتقسيم العمل وحقوقه القانونية. وتصبح فرديته بذلك مستقرة حسب إدماجه في الهياكل الثابتة. ويتحقق ذلك عند لحظة تكيّف تسنُدها عاطفة Affectivité تجعلها ممكنة.وتضيف ميريال كومب أن ما هو أكثر حميمية ومرتبط بما نعتبره شخصيا لا يمكن التفويت فيه مرتبط  بحياة غير شخصية وحياة عاطفية مشتركة، أكثر منه صادرا عن دائرتنا الخاصة. 2 في هذا المستوى يتحقق التعالق الأول للفرد بالمجموعة حيث يصبح حينها قابلا للتفريد فيها. هذا العبور-فردية ما يجعل من المجموعة ممكنا بإمكان تفريد الشخص فيها. كما أنه يعني أن كلا منهما حاضر في الآخر.

يتحقق هذا المستوى العاطفي باتصال الفرد ببقية الأفراد من مستوى ما قبل الهيكلية والعلاقة الاجتماعية التقليدية، ويتم التحقق منها عندما تظهر أزمة في العلاقة بين الفرد والمجموعة. فنحن قبل أن نكون في المجموعة أو خارجها يُفترض أن نكون قابلين للإقصاء أو الدمج. وهو ما يخلق حقلا مستقلا للفرد والمجموعة يجعل العلاقة في وارد الإمكان مستقبلا حتى وإن كانت مهزوزة. يقدم سيموندون مثال القلق لدى الفرد، فهو بما هو توتر فردي يحمل في طياته عقدة المجموعة التي لم تنحل في داخله. وعند الاستماع له يتحول من فرد خارج على نمط المجموعة انطلاقا من ممكن المجموعة فيه.

يمكن القول أن سيموندون يتعامل مع الفرد والمجموعة كوحدات مفتوحة لا مغلقة، لا تنفي ما تقدم من طرح ثنائي حول الإقصاء والدمج بل تتجاوز المعنى الآحادي والحدي المطروح. وهو ما يسمح بالبناء عليه في فهم دلالة العبور ومن ثمة متابعة تغيراتها.

في هذا المستوى، أصبح ضروريا تحديد المقصود بالإسلام الرسمي.

3.1 الإسلام الرسمي

تطرح عبارة “الإسلام الرسمي” تحديا مهما فهي تقع بين طرفين: الدين والدولة فيما الوصف بالرسمي إنما هو نتيجة لصيغة العلاقة وطبيعتها. ولمتابعة التمشي الذي يروم متابعة متغيرات تقف دليلا على التجربة الدينية العابرة من الضروري الإشارة إلى ما يلي:

– الدولة: ما يهمنا بشأنها في هذا المستوى هو ما تحيلنا إليه Simone Goyard Fabre حول “الهوية المنطقية” للدولة. 3 وهي هوية تدور حول فكرة الدستور والقانون في أفق المواطنة. فهي لذلك تصبح الناظم المعياري للعلاقة بين الدولة والدين هنا. تجدر الإشارة إلى أنها فكرة تجد جذرها في العلمنة التي بمقتضاها يصبح إدارة الشأن الإنساني إنسانيا بعيدا عن أشكال الهيمنة. يقول هانز كيلسن في هذا الإتجاه: “تنتهي المعرفة دائما إلى تمزيق الحجب التي تغلف الإرادة الأشياء بها”.4 تساهم الهوية المنطقية للدولة في خلق الرابطة الوطنية للمجموعة البشرية للدولة. وتعتمد في ذلك على القانون والدستور كمرجعيات عليا معلمنة. تحقق في السياق التونسي هذا التوجه العلماني عبر ما يسميه ماكس فيبر بالعلمنة الشكلانية، عبر تأسيس السلط المسؤولة على التشريع بنصوص بشرية مستقلة. فيما يبقى التساؤل مطروحا حول العلمنة المادية التي تبدأ من مضامين النصوص وصولا إلى استيعاب واستبطان القيم والمبادئ المؤسسة للجماعة السياسية الحديثة في الدولة. وهو ما يطرح سؤال الدين وتشكل الإسلام الرسمي  في علاقة بالهوية المنطقية للدولة.

-إضفاء الطابع الرسمي على الدين: هو مسار كامل قانوني ومؤسساتي في تاريخ الدولة والمجتمع التونسيين.

-العلاقة بين الهوية المنطقية للدولة وإضفاء الطابع الرسمي: وهي علاقة ستتضح عندما نقتحم تتبع متغيرات ودلائل العبور عبر أمثلة محددة.

  1. السياسة الأمنية في الشأن الديني: مأزق الهوية المنطقية للدولة وتشكل الإسلام الرسمي

 

الأقلية المسيحية والمواطنة المسلمة

تم بتاريخ 9 أوت 1964 توقيع الـModus Vivendi بين تونس والفاتيكان. وقد حمل في طياته وخلال مراحل التفاوض بين الحكومة التونسية والفاتيكان هاجس تكريس السيادة التونسية والخروج على الوساطة الفرنسية في العلاقة بالدين المسيحي بالإضافة إلى إرث الاستعمار. لكن ما يستفاد من هذه التجربة أن العقل السياسي في حينها كان ماضويا رغم أن السيادة والدولة والقانون تحمل المستقبل فيها. وذلك ما يرد في الفصل الثالث من الاتفاقية حيث نص على أن الكنيسة الكاثوليكية تهتم بشؤون المسيحيين ” المقيمين” بينما ضمت المراسلات بين الطرفين والمفاوضات تأكيدات متبادلة على أن الدولة التونسية “دولة مسلمة”. وهو ما يعني أن أفق التأسيس للمواطنة في تونس غاب عنه تصور المواطن غير المسلم رغم أن الدستور نفسه (دستور 1959) يؤكد على حرية المعتقد. انتهى العقل السياسي إلى تثبيت ممارسة تدور مدار إسلامية المواطنة.

هذا ويذكر أنه تطبيقا للفصل الثالث من الاتفاقية ترسل الكنائس منشوراتها وقراراتها خاصة فيما يتعلق بالتظاهرات إلى وزارة الداخلية. تتولى الأخيرة تأمينها ومراقبتها. وهو ما يدخل في نفس سياسة التعامل مع المسيحيين على أنهم أجانب.

 بتشابك هذه العوامل مع ما سبق ذكره، يمكن فهم دور السلطات الأمنية في التعامل مع المواطنين التونسيين ممن اختاروا اعتناق المسيحية. فهم يخضعون للتفتيش والمراقبة والمتابعة بل بما توفر لنا من شهادات، حتى يصبح مراقبا من المراكز الأمنية المتواجدة في مقر سكناه أو عائلته.

لا تمثل فعليا الهوية المنطقية للدولة الناظم المعياري للتعامل مع الديانات الأخرى. فلا الفصل 5 من دستور 1959 ولا الفصل 6 من دستور 2014 يغيران من السياسة الرسمية التي ظلت وفية لتصور المواطنة المسلمة كما أنتجها العقل السياسي الوطني في مراحل الاستقلال الأولى. بل إن مؤسسات الدولة ممثلة في وزارة الشؤون الدينية تتعامل مع بقية الديانات كخارج عليها لذلك أصبح كل حديث عن وزارة أو هيكل يدير الشأن الديني على اختلافه حديثا غير ذي جدوى في ظل ترسخ عقل السلطة وتجاوزها لعقل دولة القانون.

أضحت بذلك الهوية الوطنية منفصلة عن الهوية المنطقية المفترضة في الدستور والقانون كفكرة وأساس للمواطنة. وهي بذلك هوية وطنية مسلمة  بالأساس تعتمد أدوات القسر والإكراه والمراقبة في ضمان الوحدة. تحدثنا ع.ش (30 سنة) أن هويتها التونسية سابقة على تفكيرها في مسيحيتها بل لا تتعارضان لكنها لا تجد من يستوعبها. وهو ما يسمح لنا بالقول أن العاطفة السابقة على تفريدها كعنصر من المجموعة الوطنية قائمة لكنا في نزاع وصراع غير محلول لامتناع وجود أي رابط اجتماعي يكون محملا لها، سواء كان رابطا قانونيا أو مؤسسيا. رغم أن وجود الأقلية المسيحية أمر واقع يسنده تاريخ من التعايش لكنه فعليا لم يبلغ حد الانسجام بمنطق المواطنة بحيث يصبح الظهور والاعتبار المجتمعي منطلقا منها نفسها دون أن تكون الاختلافات الفردية مانعا وسببا في الإقصاء.

تعتبر محدثتنا أن المستوى القانوني والدستوري حقق تقدما مهما لكنه لا يحقق شعورا بالأمن الإجتماعي، فهي غير قادرة أن تكون مسيحية. لا تطلب في ذلك اعترافا بقدر ما تطلب أن تعيش دون أن تكون مضطرة أن تكون مسيحية قسرا. هي مسيحية، تقول، قد اختارت ذلك، لكنها مسيحية رغما عنها لأنها تُصنف كذلك ما يلغي فرصة أن تكون مواطنة كاملة. الأمر الذي يسمح لنا بالقول أن الفضاء العام في تونس غير استيعابي بل له قوانينه السلطوية والتسلطية التي تمنع من دخول الجميع سواسية له. عمليا، لا توفر الهوية الوطنية (لانفصالها عن الهوية المنطقية للدولة) ضمانات في ظل ترسُخ التعامل الأمني.

 

الأقلية البهائية: أفق التوقع يهتز مرة أخرى

يبدو أفق التوقع للمواطنة في تونس محدودا منذ البداية في تعارض مع منطقها الحديث القائم على المساواة. وقد اهتز أفق التوقع مرات عديدة. ومنها ما ارتبط ببدايات الحضور الشيعي في تونس. بالنظر إلى أن وزارة الداخلية كانت الجهة التي يتم إنشاء الجمعيات عبرها، كان تأسيس جمعية تمثلهم رهين تفاوض ضمني لتجنب أية إشكاليات طارئة. وبدأت الجمعيات الممثلة لهم منذ 2003. 

فيما يتعلق بالأقلية البهائية، فهي لم تحظ بالاعتراف القانوني في إطار جمعياتي. وتمثل حالة هذه الأقلية مثالا على تحول العلاقة بين الهوية المنطقية للدولة والإسلام الرسمي. كانت الإدارة الأمنية للشأن الديني إرثا لبدايات تأسيس دولة الإستقلال، وهو يتواصل لكن بشكل مختلف. لم تعد وزارة الداخلية هي من يتم تأسيس الجمعيات أمامها، ما فتح الباب لوزارة الشؤون الدينية للعب دور آخر من داخل منظومة الإسلام الرسمي. فقد كانت فتوى مفتي الجمهورية الأخيرة عنصرا مانعا لتأسيس جمعية بهائية بعد أن ساوى بينها وبين جمعية شمس الممثلة للأقليات الجنسية. 5 هنا رجع الإسلام الرسمي إلى مؤسسات ممثلة له بعد أن فرض عقل السلطة في الدولة أن يكون ملفا أمنيا بامتياز. وهو إسلام تقليدي تاريخي بقيمه ومواصل للمؤسسات القديمة رغم أنها استوعبت في الدولة.

يواصل البهائيون نضالاتهم من أجل تأسيس جمعية. يمكن لحكم قضائي أن يعيد الهوية المنطقية للدولة (قيم المواطنة الدستورية) التوازن ضد تغول السياسة الأمنية وانحرافاتها وتدخل الإسلام الرسمي في إسناد الحقوق التي من المفترض أن تستند لشروط المواطنة وليس التكفير. وهو الحال فيما يتعلق بجمعية شمس.

 

  1. التجربة الفردية الدينية على أبواب مؤسسات الإسلام الرسمي

 

تمثل شهادة م. ح (36 سنة) عينة لشباب عديدين ممن اختاروا تجربة دينية تخلق توافقاتها وتنظم افكارها وممارساتها عبر وداخل مؤسسات الإسلام الرسمي، وهنا المساجد. يسرد المعني قصة إمام الصلاة المذموم دائما، خاصة صوته، وإمامته التي أصبحت إجراء شكليا وتقنيا لضمان الولوج الفردي للعالم والتصور الروحي للبعض. من يؤم الصلاة متقاعد من وظيفة عمومية أو واعظ في بعض الأحيان، فهو في كل الحالات يحمل معه عقلية بيروقراطية. ليس بالضرورة متمكنا من الدين ولا يخرج عن توجيهات الخطب ومواضيعها. هو أقرب لقضايا المناخ وطلب المطر منه إلى تفاصيل الحياة الاجتماعية. يقول أيضا أنه لا يحقق إضافة ما، حتى روحية. بل إن المطلب الروحي يجد متعة في تجاوزه كعائق لا بد من مواجهته. هو شرط لصحة صلاة الجماعة لكنه ليس شرطا للدرس الروحي. في هذا المستوى، يعترضنا الإسلام الرسمي كممارسة سطحية تستجيب لعقل السلطة السائد. رغم أنه شهد تطورات مهمة في فترة ما بعد الثورة خاصة بدستور 2014، لكنه يجد نفسه شدودا إلى مراكز قوى متعددة. ويبقى في المساجد متماشيا مع النمط السائد عنه.

يذكرنا المعني في شهادته بالتحول الذي يشهده في صلاة التراويح عندما يتم استقدام أئمة حافظين للقرآن وبأصوات حسنة. يمر بذلك إلى نوع من القرب مع الجماعة والمسجد بحيث يصبح الفضاء مألوفا ومعززا لشعور عميق فيه. يتجاوز بذلك الطابع الفلكلوري للدين الرسمي الذي توفره المؤسسات الدينية الرسمية، فتصبح نسخته عن الدين متماهية مع هذا الإطار مناسباتيا. لكن هذا التماهي في نهاية الأمر ليس له ما بعده. فعلى مستوى الفكر والعقائد الدينية يفضل محاورنا ولوج الأنترنت لتصبح التقنية لديه واسطة جمع وتركيب وتأليف للأفكار والممارسات.

وعن سؤال كونه مواطنا تونسيا، لا يجد تعارضا مع ذلك. فهو يرى أنها لا تمنعه من أن يكون مسلما سنيا. بل هي لا تلعب دورها كما يجب، حسب رأيه. ولذلك يوسع من مصادره ومرجعياته بفضل الانترنت. وهنا نلاحظ أن المواطنة المتشكلة بفضل السلطة (النظام) والإسلام الرسمي بعيدة عن المواطنة المتصلة بالهوية المنطقية للدولة. فالأخيرة لم تخترق التجربة الدينية لديه، ما يجعل فرضيات التكفير ورفض المختلف حتى من داخل الإسلام ممكنة. وهو ما نلاحظه بتحوله وغيره من الشباب إلى مسلم مالكي على طريقة الجنيد السالك في لحظة برقية ضد التشيع على سبيل المثال.

حسب تصور سيموندون، توفر العاطفة ما قبل فردية فرصة تشكل التفرد في المجموعة. فهي محمل مستقر لخلق فرص الانتماء في الخارج. لكن بملاحظة الشهادات فهي تكاد تكون منعدمة، حيث تنفصل عن المواطنة. الأخيرة لا تستحضر إلا لكونها من المسلمات بحكم الواقع وليس فكرة معيارية يمكن أن تخلق فرص اللقاء مع المختلف. يغيب عن ذهن بعض محدثينا وجود الشيعة او البهائيين، هم برسم الغياب. من المفترض حسب التصور السيموندي أن العاطفة، وهنا في تحليلنا للهوية الوطنية، ان توفر فرصة اختراع الحلول لأزمات العلاقات الاجتماعية. أي أنها ستسمح بتغيير العلاقات الاجتماعية لتصبح أكثر استيعابية. لكن يبدو أن الهوية الوطنية، بالنظر إلى الفشل الحاصل في الهوية المنطقية للدولة (منطق الدستور والقانون والمواطنة) ولخضوع الإسلام الرسمي لعقل السلطة، قد أضحت شكلانية جدا ومحدودة الأثر.

إن غياب العاطفة الما قبل فردية، أي تلك اللحمة التي تربطنا بالآخر، تمنعنا من اختراع حلول لأزمات الوطن والمواطنة. تبدو عبقرية الأخيرة مرتبطة بعمق وجداني متصل بالجماعة المفترضة (مواطنة إنسانية) تتوسل بالقانون والمؤسسات ما جعلتها ممكنة ومفتوحة. لعل تصور سيموندون يجيز لنا الإحالة على إيتيقا الديمقراطية لدى تشارلز تايلور: هي إيتيقا تربي أنفسنا العميقة وتبدأ من دواخلنا قبل ان تطلب محملا اجتماعيا أيا كان.

 

الهوامش

1موسوعة ستانفورد للفلسفة

 2Fabio Bruschi, “le transindividuel dans la genèse des groupes sociaux”, Revue de philosophie politique de l’ULG, n°5, Paris, 2013, p198.

3V. Simone Goyard-Fabre, L’Etat ; Figure moderne de la politique, Armand Colin, Paris, 1999.

4Hans Kelsen, Théorie pure du droit, Editions de la Baconnière, Genève, 1953, p58.

:يؤكد الكاتب على ما يلي

« La connaissance finira toujours par déchirer les voiles dont la volonté enveloppe les choses ».

5حول فتوى مفتي الجمهورية والمعركة القضائية للبهائيين، انظر الرابط التالي: https://cutt.ly/RTQ8nyJ

 

نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد العاشر، ديسمبر 2021، ص. ص. 4-7.

للاطلاع على كامل العدد:  https://tiny.cc/hourouf10

 

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights