الذات عند هيغل أو في الوعي بالذات
|بقلم: مريم مقعدي
شهد مفهوم الذات (le sujet) مع هيغل ولادة جديدة بعد بروزه مع الفلسفة الديكارتية التي جعلت من الذات أرضية لتشكل الفلسفة الحديثة ومبدأ هوية لفلسفتها. فالذات في الحداثة لم تعد تمثّل بعدا ميتافيزيقيا فحسب مثلما ذهبت إلى ذلك الفلسفات القديمة بل باتت أيضا تمثل مجموع بنى تشكل الواقع الوجودي والأخلاقي الحاصل للمعاني المؤسسة للإنسانية.
يقول بيير دوكاسي “كي نتعقل الأنا فنحن مطالبون بأن نزيل التناقض ولا يمكن إزالة هذا التناقض إلا بواسطة تركيب أي أن يتعرف الأنا على ما يناقضه أي على غير الأنا “.
هذا هو محور تفكير هيغل حول الأنا والذات، رغم أننا نجده متأثرا بالطفرة التي أحدثها الكوجيتو الديكارتي على مستوى فهم الذات وإحلالها في إعادة تشكل أرضية جديدة للخطاب الفلسفي يعيد تأسيس علاقة الذات العارفة بموضوعات المعرفة حينما نحول مجرى تفكيرنا إلى مبدأ رئيسي هو الذات الحاملة لفعل التفكير. إلا أنّه ليس المطلوب مع هيغل أن ندرك الذات بل أن تبلغ وعي الذات (الوعي بواسطة العقل / الفكر). هذا الوعي لن يتأسس عند هيغل إلا بفعل التناقض أي بوجود المفكِّر والمفكَّر فيه. وحسب بول ريكور، “إن هذه الحركة الموضوعية هي ما يسميه هيغل الروح وإنه لعن طريق التفكير يمكن أن تشتقّ الذاتية التي تكوّنُ نفسها في الوقت الذي تلد فيه هذه الموضوعية ذاتها“.
هذا الاشتقاق للذاتية الذي تحدث عنه ريكور لا يمكن أن تتحقق الذات معه إلا من خلال فكرة الغيرية. فوجود الغير يعتبر أمرا ضروريا لكي تعي الذات ذاتها ولكي تدرك موضوعات العالم الخارجي. ولأجل فهم هذه العلاقة التي يطرحها هيغل بين الذات والغيرية لا يجب مقاربتها على أنها تعبير وجودي هما الأنا والآخر بل هي علاقة تفاعل وتناقض بين وعي الذات ووعي الآخر، باعتبار أن الذات لا تتعرف على ذاتها إلا من خلال ذات أخرى. فحركة الوعي بالنسبة إلى هيغل إذن هي حركة جدلية يكون فيها السلب أو النفي أهم من الإيجاب أي أنّ ذات الآخر هي التي تحدد قدرة الذات على الوعي.
يمكن أن نقول إذن أن هيغل يوسّع مفهوم الذات الديكارتية ليؤكد على أن حقيقتها وماهيتها لا تعرف إلا بواسطة الآخر (الذات عند ديكارت لا تشترط وجود الآخر كي تعرف ذاتها).
إن الذات عندما تعلن على إرادة ورغبة في معرفة ذاتها، فإنها تعلن ضمنيا على تجاوزها لطبيعتها الحيوانية أين يكون فكرها متماهيا مع الطبيعة. حيث يوضح لنا هيغل هذه الحركة الجدلية أو الازدواجية بين وعي بالذات ووعي الآخر من خلال جدليته المشهورة، جدلية السيد والعبد، والتي تعرّفنا بالكيفية التي تتعرف فيها الذات على ذاتها وعلى الآخر. حيث تحيلنا هذه الجدلية على مفهومين أساسيين في فلسفة هيغل وهما مفهوم الرغبة ومفهوم الاعتراف، فكل وعي يرغب أن يعترف به الآخر كي يكون وعيا كاملا، فينشأ حينئذ صراع دام في التاريخ بين السيد والعبد من أجل انتزاع الاعتراف والإقرار بجزئية الذات.
وهكذا إذن تواجه الذوات بعضها البعض في صراع جدلي يمكن أن يصل حد الموت باعتبار أن كل وعي يرغب أن يعترف به الوعي الآخر، فهو يفضّل الموت على ألا يعترف به الآخر. أما الوعي الآخر، سيفضّل الخضوع بسبب قصوره وخوفه من الموت لذلك سينتهي به الأمر إلى سلبه حريته فيكون بذلك الأول هو السيد والآخر الذي فضّل الخضوع على الموت هو العبد أو الخادم. في هذه الحالة لن يخضع الوعي الأول للعمل بينما الوعي الثاني سيشتغل من أجل الأول. ولكن بالنسبة إلى هيغل هذا لا يعني أن السيد هو صانع التاريخ، فالخالق الحقيقي للتاريخ هو العبد وليس السيد ذلك لأن السيد يصنع الحروب ويقتصر على الاستمتاع بها، أما الخادم فيسعى إلى تغيير العالم بواسطة العمل.
سنجد السيد أيضا يستعمل جسد العبد كما لو كان جسده وبهذه الطريقة يمكن أن نقول أنّ هذا الأخير ليس في علاقة مباشرة مع الطبيعة، أي أنه لا يعرف الطبيعة إلا من خلال الخادم. بهذا المعنى يفقد السيّد كل علاقة مباشرة وكل علاقة إنسانية مع الطبيعة، باعتبار أنه لا يجني ثمرة عمله وعندها يكون السيد في مرتبة الحيوان لأنه لا يعمل ولا يحول الطبيعة لصالحه. في هذه الحالة حتى الخادم يمكن له أن يتحرر بالعمل وباكتشافه أنه يمارس سيطرة على الطبيعة وبالتالي يمكن أن يعي ذاته من خلال فعله في الطبيعة، فماهيته ليست العبودية وإنما هي صيرورة وواقع متحول.
وفي هذا السياق يقول هيغل موضحا جدلية السيد والعبد مؤكدا أهمية الغير في الوعي بالذات ومعرفتها: ” تتمثل عملية تقديم الذات لنفسها أمام الآخر بوصفها تجريدا خالصا لوعي الذات في إظهارها أنها ليست متشبثة بالحياة وهذه العملية مزدوجة يقوم بها الآخر كما تقوم بها الذات. وأن يقوم بها الآخر معناه أن كلا منهما يسعى إلى موت الآخر وأن تقوم بها الذات يعني أنها تخاطر بحياتها الخاصة ليتحدد سلوك كل من وعي الذات إذن ليكون كل منهما يثبت ذاته لنفسه كما يثبتها للآخر بواسطة الصراع من أجل الحياة أو الموت. إنهما مجبران بالضرورة على الانخراط في هذا الصراع لأن على كل منهما أن يسمو بوجوده إلى مستوى الحقيقة بالنسبة لذاته وبالنسبة للآخر…“
يمكن أن نقول إذن أن وجود الآخر أمر حتمي لكي تعي الذات ذاتها وتتحقق في التاريخ وتصبح روحا. فالعمل الذي يقوم به الخادم هو الذي يسمح للوعي الذاتي بالسيطرة على الوجود الموضوعي والتحكم في جوهر الحياة، وبهذا ستكون الجدلية الهيغلية في حد ذاتها بحثا في مكامن الخلل في الذات الإنسانية. ففي نهاية الأمر ليس المقصود من صراع الخادم والسيد مقايسة درجات الوعي سواء بالنسبة للسيد أو الخادم بل في تفعيل درجات الرغبة والإرادة في الحياة وفي تفعيل النفي، لتؤسس الذات وفق منطق ازدواجية الوعي.
لا يمكن أن نبرز إذن فكرة الوعي بالذات عند هيغل إلا من خلال هذه الجدلية. ففكرة الخادم أو النفي التي رسمها ليست سوى صورة لتجليات الوعي في التاريخ وتحديدا لتموضعاته.
في النهاية يمكن أن نقول أنّ جدلية الوعي عند هيغل في حقيقة الأمر جدلية ولادة للذات في إطار ازدواجية الوعي. في هذا الإطار يقول بول ريكور ” لنأخذ المثل المعروف والشائع عن السيد والعبد عند هيغل وسنجد أن هذه الجدلية ليست على الإطلاق جدلية الوعي إذ الرهان يكمن في ولادة الذات. إن المقصود باللغة الهيغلية هو الانتقال من الرغبة بوصفها رغبة في الآخر إلى الاعتراف بالذات. فما هو المقصود؟ إن المقصود بالضبط هو ولادة الذات في ازدواجية الوعي.”
إجمالا يمكن أن نقول أنّ وعي الذات بذاتها لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال وعي الآخر، أي أن تتأمل هذه الذات ذاتها على أنها ذات أخرى مغايرة وبالتالي تنظر إلى نفسها من جهة الغير أي من زاوية مغايرة. فمن خلال الجدلية المذكورة نفهم أنّ السيد لن يحقق ذاته ويجعلها تدرك وجودها إدراكا حقيقيا إلا من خلال إبقائه على هذا العبد أو بالأحرى على هذه الذات المغايرة كمعبر لسيادة ذاته ونفس الشيء بالنسبة للعبد فهو يدرك ذاته من خلال هذه الفاعلية التي أحلها على العالم.
إذن، فعن طريق الجدلية الهيغلية تتشكل صورة فهم جديدة للوعي وتبرز مكانته في التاريخ كما تعلن عن ولادة جديدة للذات.
غير أن هذه الصورة المفاهمية للوعي لن تحافظ طويلا على رونقها وجمالها، وإنما ستمتد إليها نزعة شكية تكاد أن تقوض الوعي بشكل مطلق وتبني سلسلة مفاهمية جديدة. وعليه فلنتساءل عن طبيعة هذا المفهوم الجديد للوعي ولنركز في سؤالنا على الذات. فهل ستتأثر الذات بهذه النزعة الشكية؟ وهل أن زحزحة مفهوم الذات سيترك إدراك الذات لذاتها ولباقي الذوات الأخرى المشاركة معها في الوجود موضع التباس وغموض، معنى ودورا؟
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد التاسع، نوفمبر 2021، ص. ص. 10-11
للاطلاع على كامل العدد: https://tiny.cc/hourouf9