النباتية: جمالية القبح أو كيف تتحوّل امرأة إلى شجرة

بقلم: عبير الكوكي

تأخذنا هان كانغ في رحلة غريبة حزينة تروي لنا فيها معاناة النساء في مجتمع ذكوري ونظام أبوي يبدو في ظاهره قد تخلّص من عبء التقاليد. بلغة شعرية للألم، تحكي هانغ كانغ قصتها… قصة حلم غريب يعبّر عن القسوة البشرية ويقودها إلى اتخاذ قرار كشف زيف حياتها ومدى معاناتها، قررت يونغ هيه بطلة الرواية أن تصبح نباتية. هو قرار يبدو عاديا، ولكن حياة يونغ هيه تغيرت بعده. تعرّي الرواية جانبا مسكوتا عنه وهو تعاسة النساء الأسيويات، خصوصا الكوريات منهن، في ظلّ مجتمع استهلاكي تتسارع فيه الأحداث بشكل جنوني وترتفع فيه نسب الاكتئاب عند النساء نتيجة الضغط المسلط عليهن. النباتية رواية صادمة، تدخل خفايا النفس البشرية تكشف هشاشتها وما يعتريها من تساؤلات وقلق وجودي. إنه الخواء البشري… تلك الهوة العميقة التي تسكننا.

نشرت الرواية في الأصل سنة 2007 باللغة الكورية ثم ترجمت إلى الأنجليزية عام 2015 وحظيت باهتمام كبير وفازت بجائزة مان بوكر الدولية عام 2016، كما تحصلت صاحبتها على جائزة نوبل لسنة 2024. في 269 صفحة، استطاعت هان كانغ أن تجعلنا نعيش معها رحلة التعافي التي اختارتها. تنقسم الرواية إلى ثلاثة فصول. يروى الأول على لسان الزوج جونغ، الموظف البسيط والعادي التقليدي، حيث يسرد بداية قصته مع زوجته التي لم ير فيها شيئا مميزا قبل أن تصبح نباتية كما جاء على لسانه في الرواية وكأنه ضمنيا يبدي إعجابه بموقفها ويواصل سرد كيفية تحولها إلى نباتية وتأثير ذلك على حياتهما التي ساءت برفضها ممارسة الجنس معه متحججة بأنها تفوح منه رائحة اللحوم الأمر الذي استدعى اعلام عائلتها ومناقشة الأمر في الاجتماع العائلي. وكأن الكاتبة تريد أن تظهر لنا أن قرار بطلة الرواية كان تعبيرا قويا عن الرفض والاحتجاج، فهي التي لم تختر شيئا في حياتها، وأخيرا تريد أن تكون حرة في اختيارها. لم تكن حياة يونغ هيه مثيرة للاهتمام قبل قرارها هذا بل كانت حياة روتينية قاتلة. علاقتها بزوجها لم تكن سوية وعلاقتها بعائلتها أيضا، وكأنها فجأة قررت أن تثور وتعلن رفضها لكل ما يجري وتعيد ترتيب حياتها كما تريد. لقد قررت الخروج من السرب. في التجمع السنوي للأسرة، باءت كل محاولات أفراد عائلة يونغ هيه في إرغامها على تناول اللحوم بالفشل، فتدخّل والدها لإرغامها على تناول اللحوم عنوة، الأمر الذي قادها إلى قطع معصمها احتجاجا، لتنهمر الدماء وتنقل إلى المستشفى.

في الفصل الثاني الذي عنون بـ”البقعة المنغولية”، تبرز اللغة الشعرية للكاتبة حيث تطلق العنان لمخيلتها الجامحة لتصور لنا صورا جميلة رغم الحزن. يروى هذا الفصل على لسان زوج شقيقة يونغ هيه وهو فنان فيديو مغمور وفاشل لم يتمكن بعد من اكتشاف نفسه وبصمته الخاصة، تثير فيه محاولة انتحار يونغ هيه شغفه القديم بجسدها ليصبح مهووسا به، ثم تتطور الحالة ليستغل مرضها وحالتها النفسية الهشة لصالحه حيث يطلب منها أن تصبح عارضته ليصورها ويرسم على جسدها إلى أن يتحرش بها في مشهد يصور معاناتها وعجزها عن المقاومة ورغبتها في التحرر من كل شيء حتى ألمها. ابدعت الكاتبة في التخيل وخلق الفنتازيا بتصويرها مشاهد حزينة تفيض بالجمال. تحاول الكاتبة في كل مرة إظهار المعاناة النفسية للنساء داخل نظام بطريركي ومآل ذلك عليهن من خلال إبراز مواطن استغلالهن النفسية والجسدية.

في الفصل الثالث والأخير الذي يحمل عنوان “لهيب الأشجار”، تحدّثنا كانغ عن تطور حالة يونغ هيه وتدهورها حتى دخولها مصحة نفسية، ومن خلال ذلك تبين علاقتها بشقيقتها التي نتعرف عليها بشكل جلي في هذا الفصل فهي امرأة عصامية صاحبة محل مواد تجميل تربطها بأختها علاقة قوية لكنها مختلفة عنها في شخصيتها. ندخل في تفاصيل حياتها وماضيها وعلاقتها بزوجها. الفريد في هذا الفصل طرافة فكرة رغبة يونغ هيه في تحولها إلى شجرة. عميقة جدا هذه الفكرة ومختلفة إنه فقدان المعنى التام والرغبة في التلاشي، الرغبة في الاضمحلال والتحول، الهروب من البشاعة الإنسانية ومن الأذى يتجلى هذا في انقطاع يونغ هيه عن الأكل تماما معتقدة أنها تحولت إلى شجرة هذه الرمزية التي تعبر عن فقدان القيمة البشرية. راوحت كانغ بين السرد والنثر الشعري متنقلة بين الواقعية والفانتازيا مقدمة لنا خليط من القبح والجمال أو من جمالية القبح.

نُشر هذا المقال بمجلّة حروف حرّة، العدد 38، ربيع 2025

للاطّلاع على كامل العدد وتحميله، اضغط هنا.

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights