خفايا الإذاعة التونسية في أواخر العهد البورقيبي: قراءة في كتاب عبد العزيز قاسم “بورقيبة المستمع الأكبر”

بقلم: فهمي رمضاني

“بورقيبة المستمع الأكبر” صفة نحتها الإعلامي ورجل الأدب والثقافة عبد العزيز قاسم لتكون على شاكلة “المجاهد الأكبر” وهي عنوان مؤلفه الأخير الصادر عن سراس للنشر في 2022 الذي يميط اللثام عن كواليس وخفايا الإذاعة التونسية في أواخر العهد البورقيبي وعن علاقة الزعيم بورقيبة بهذا الجهاز الإعلامي الذي اعتبره امتدادا لاتصاله المباشر بالشعب أيام الكفاح الوطني. وقد كان بورقيبة مستمعا أكبر لأنه يستمع للإذاعة ما يقارب الست ساعات يوميا ويتفاعل مع ما يٌبث بالاتصال في كل الأوقات: فجرا، مساء، في القيلولة، أو عند الصباح.

ويمكن القول بأن ما يرويه لنا عبد العزيز قاسم من ذكريات وأحداث وتفاصيل بين دفتي هذا الكتاب هو تأريخ لعلاقة السلطة بالإذاعة في فترة كثر فيها الصراع حول خلافة بورقيبة وتأججت فيها نيران الدسائس والفتن والمكائد. يقول عبد العزيز قاسم بأن هذا الكتاب هو “مجموعة ذكريات أبت أن يطويها النسيان لأنها محملة بالمعاني والعبر وهو عمل يندرج في إطار التاريخ الصغير ومحاولة لاستشفاف بقايا عبقرية الزعيم في خريف العمر وهوس هذا الرجل بالجزئيات والتاريخ والتفاصيل في مجال الإعلام والتثقيف”.

يعود عبد العزيز قاسم إلى جذور نشأة الإذاعة التونسية وأهم المحطات التي مرت بها وصولا إلى تونستها مع فجر الاستقلال ثم أهم التطورات التي عاشتها إلى أواخر الثمانينات. بداية هذا الجهاز الإعلامي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس كانت سنة 1937 مع المقيم العام ليون بلوم الذي تميزت سياسته بالانفتاح والحوار مع الحركة الوطنية وكان المؤرخ والمثقف عثمان الكعاك أول من ترأس القسم العربي في الإذاعة زمن الاستعمار وقد أسهم رفقة نور الدين بن محمود في التعريف برموز الأدب التونسي واستقطاب النخب التونسية فانخرطت بذلك الإذاعة في نحت الشخصية الثقافية التونسية. إثر الاستقلال، تمت تونسة الإذاعة وكان البشير المهذبي أول مدير للإذاعة التونسية في عهد الاستقلال ابتداء من غرة أفريل 1957. أمّا عبد العزيز قاسم، فقد عُيّن مديرا عاما للإذاعة مرتين: الأولى من 18 ديسمبر 1981 إلى 10 مارس 1983 ثم مرة أخرى من 23 سبتمبر 1985 إلى 5 أوت 1986.

بورقيبة والإذاعة

يبدو أن بورقيبة كان مهووسا بالإذاعة إذ لا يتوانى في التدخل في أدق التفاصيل فقد كان يتصل في كل الأوقات ليتساءل حتّى عن أسباب توقف البث أو يستفسر أو يعلق على منوعة أو برنامج أو يتفاعل مازحا أو غاضبا. وكان جواب مثل “سأبحث وأتثبت في الأمر ثم أعود إليكم” ينم حسب بورقيبة عن عدم إلمام المسؤول بملفاته ذلك أن المستمع الأكبر كان يريد جوابا فوريا، فالمدير العام في نظره هو المسؤول الأول والوحيد عن الكبيرة والصغيرة في كل ما يبث.

 ويبيّن عبد العزيز قاسم كيف كانت تخضع علاقة المدير العام للإذاعة ببورقيبة إلى مزاج اللحظة، ففي بعض الأحيان يبدو الزعيم راضيا منشرحا فينعم على المدير العام بالرضا والمودة وفي بعض الأحيان يبدو غاضبا فلا يرى إلا الأخطاء والعيوب.

بورقيبة مهووس بالتاريخ كذلك ويعي أهميته في صنع السردية الخاصة به، لذلك يُذكًر دائما بتاريخه الشخصي وبنضالاته ويطلعنا عبد العزيز قاسم في هذا الإطار عن إحدى طرائفه، فقد حرص عند بناء دار الحزب بشارع 9 أفريل أن يوضع في أحد أركان المبنى أنبوب من الصلب الخاص يحتوي على قصيدة ملحمية للشاعر الطاهر القصار موجهة إلى الأجيال القادمة تسجل نضالات الشعب التونسي وإنجازات العهد البورقيبي وبذلك ستكون شهادة أثرية وستأخذ مكانها في المتحف الوطني وستذكرها كتب التاريخ وستؤكد الترابط الثقافي بين الأجيال التونسية.

تمثل الإذاعة المنبر الذي يدلي من خلاله الزعيم بأهم التصريحات المتعلقة بالوضع السياسي والحياة العامة ومن ذلك التصريح الذي أدلى به يوم 10 أفريل 1981 والمتعلق بالسماح بالتعددية الحزبية في البلاد وضرورة إجراء انتخابات ديمقراطية وشفافة ولكن يكشف عبد العزيز قاسم فيما بعد بما جرى من تزييف وإجهاض لأول تجربة ديمقراطية كانت ستعيشها البلاد ودور السيدة الأولى في تلك العملية ويقر في نفس الوقت بالدور الذي لعبته مؤسسة الإذاعة ولو بقدر ضئيل في التأسيس لانفراج سياسي وإعلامي ملموس.

لم تخل الإذاعة من المخبرين …هذا ما يؤكده عبد العزيز قاسم إذ أنهم لا يتوانون في نقل كل كبيرة وصغيرة للسلطة وكل سهو يحدث يمكن أن يكلف المدير العام الكثير، فقد اتصل ادريس قيقة وزير الداخلية بعد مشاهدته لموجز الأنباء مستفسرا عن سهو في تغطية نشاط الرئيس. لذلك يرى عبد العزيز قاسم أن “منصب المدير العام لا يخلو من المزالق والفخاخ” إذ يمضي كل وقته في محاولة تجنب الوقوع في المطبات، من ذلك ما يرويه المؤلف من وشاية وصلت للرئيس بعد إذاعة حديث عن الاستقلال لم يذكر فيه الحبيب بورقيبة، فصرخ هذا الأخير في وجه المدير العام ” هذا الاستقلال جاء تلقائيا؟ يمشي على قدميه… لا منافي لا قيادة لا زعامة لا سجون”.

 

بورقيبة والأدب

أدلى بورقيبة بتصريح في ربيع 1976 متعلق بالأدب زلزلت له الأرض زلزالها وأخرج لها أثقالها إذ قال في كلمته “لا تتحقق النهضة بالشعر والقصة وإنما بامتلاك العلوم الصحيحة والتكنولوجيا” وقد أدى هذا التصريح إلى عزوف التلاميذ عن المواد الأدبية والإنسانيات وتوجههم نحو العلوم الدقيقة وقد أدرك عبد العزيز قاسم أن هذا التصريح ظرفي ولا يمثل التصور البورقيبي للتطور الحضاري فأصدر تعليمات بالكف عن اختيار وبث مثل هذه التصاريح الظرفية التي قد يدلي بها الرئيس في قالب مشاحنات سياسية ليست بمهمة.

بورقيبة والمسائل الدينية

يتعرض المؤلف كذلك في كتابه إلى الرؤية البورقيبية للدين، حيث يعتبر بأن بورقيبة كان علمانيا وضعيا على مذهب أوغست كونت، لكن علمانيته لا تنكر أهمية العامل الديني في حياة المجتمعات وفي ضمائر الشعوب، ولذلك كان يحفظ العديد من الآيات القرآنية التي يستشهد بها عند الحاجة. كما حرص أيضا على أن تكون مجلة الأحوال الشخصية مستمدة من روح القرآن والسنة لتكون تجسيدا لاقتناعه بالاجتهاد في النص الديني من أجل مسايرة العصر. في هذا الإطار يروي لنا عبد العزيز قاسم تفاصيل تتعلق ببورقيبة وخطبة الجمعة إذ كان في البداية رافضا لبثّ خطبة الجمعة في الإذاعة ثم سمح بذلك فيما بعد. ومن أهم المواضيع التي يريد بورقيبة التطرق إليها في خطب الجمعة الإسلام والعقل، الإسلام والعلم الإسلام والتضامن.

يروي عبد العزيز قاسم تفاصيل حادثة يوم الجمعة 14 ماي 1982 حيث اتصل بورقيبة مزمجرا” خمسون سنة سجون ومنافي وسخط قضيتها لتحرير العقول من الخرافة وإذا بإذاعتي تعمل على تركيز التخلف الذهني” وكان ذلك بسبب حديث نبوي تم بثّه متعلق بعقوبة تاركي الصلاة يتوجب حسبه عليهم قضاء دينهم في المسجد الحرام، فاعتبر بورقيبة ذلك هدرا للعملة الصعبة.

يذكر عبد العزيز قاسم كيف قامت الإذاعة آنذاك ببتر كل ما يتعارض في الخطب مع العقلانية التي كانت تود البورقيبية إرسائها، إذ أصبحت خطب الجمعة تتعرض للرقابة بعد حادثة تمثلت في تركيز الإمام على الآية التالية “في قلوبهم مرض فزادهم الله مرض ” في وقت كان فيه بورقيبة مريضا وطريح الفراش بعد تعرضه لنوبة قلبية.

بورقيبة والعقدة المصرية

توجه بورقيبة نحو الغرب عكس عديد الأنظمة العربية المعاصرة له، كما كان له تصور خاص للفكر القومي قائم على الإيمان بالقومية القطرية عكس الرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي كان يخالفه في عديد التصورات والآراء. وقد ازداد الخلاف بين الرجلين خلال فترة الستينات. ومن باب الإغاظة، عمل بورقيبة بمساع حثيثة لإنقاذ سيد قطب من حبل المشنقة معتبرا إعدامه جريمة نكراء في حق الفكر الإسلامي وبعد هزيمة 1967 تهكم بورقيبة على شرح عبد الناصر لأسباب النكسة وانضم إلى صف المشككين في انتحار عبد الحكيم عامر لكن وعلى الرغم من هذه “العقدة المصرية” يؤكد المؤلف أن بورقيبة كان يكن تقديرا للرئيس المصري جمال عبد الناصر بدليل أن شوارع العاصمة تحمل عدة أسماء مصرية.

الإقالة

يروي لنا عبد العزيز قاسم تفاصيل الإقالة التي جاءت عشية الجمعة 11 مارس 1983 والتي كانت نتيجة لعدة تراكمات منها ما يتعلق بالمهاترات التي تم شحن الرئيس بها ومنها ما يتعلق بتفاصيل المقابلة التي أجرتها الإذاعة مع المناضلة النسوية نوال السعداوي والتي أثار تصريحها غضب بورقيبة حيث قالت بأن” هناك من يرى أن تحرير المرأة يتم عن طريق سن القوانين مثل تطوير الأحوال الشخصية وهذا لا يجدي نفعا فالمعركة نسائية بحتة ضد ظلم الرجل والأديان”. تتمثل كذلك الأسباب الأخرى للإقالة في كون عبد العزيز قاسم كان محسوبا على الوزير الأول محمد مزالي بحكم وجود صراع بين وزير الإعلام الطاهر بلخوجة والوزير محمد مزالي. ويعتبر عبد العزيز قاسم بأن مثل هذه الصراعات داخل العائلة البورقيبية أخطاء فادحة عادت بالوبال عليها.

من صخب الأستوديو ينتقل عبد العزيز قاسم بعد إقالته إلى سكون قاعة المطالعة بالمكتبة الوطنية لكن السياسة ظلت تلاحقه خاصة مع صعود سعيدة ساسي للقصر وسيطرتها على مجريات الأمور وضعف وسيلة بعد إقالة الطاهر بلخوجة وعزوز الأصرم. يعود عبد العزيز قاسم إلى الأستوديو مرة أخرى يوم 23 سبتمبر 1985 في جو من القلق الذي بدأ يعصف بالبلاد وكان صيف 1985 حسب ما يذكر المؤلف صيفا ساخنا تأزمت فيه العلاقات مع ليبيا ولوّح الاتحاد العام التونسي للشغل بالإضراب، كما أظهر الحبيب عاشور طموحاته الرئاسية. وجد عبد العزيز قاسم نفسه آنذاك في معركة كلامية مع إذاعة الجماهيرية وحملة إعلامية مع قيادات الاتحاد.

اليوم الأطول

اليوم الأطول الذي سيروي لنا تفاصيله عبد العزيز قاسم كما عاشه كان حتما يوم الثلاثاء 1 أكتوبر 1985 يوم مهاجمة إسرائيل لحمام الشط. كان يوما عصيبا على الإذاعة التونسية التي ارتكبت ما اسماه المؤلف “بالغبن المهني” من خلال بثها وتكرارها لخبر غارة جوية قامت بها “طائرات مجهولة الهوية”، في حين أن أغلب وسائل الإعلام العربية الأخرى ظلت تتحدث عن هجوم إسرائيلي ونتيجة لهذا الخطأ الفادح تتالت مكالمات المواطنين حسب ما يذكر قاسم تتهم الإذاعة بالتكتم الجبان على العدوان. يذكر المؤلف تفاعل العقيد القذافي مع هذا الهجوم حيث لم يتوان في التعبير عن شماتته كما تهكمت وسائل الإعلام الليبية على الطائرات مجهولة الهوية واعتبرت ذلك جزاء كل عميل للأنظمة الصهيو-أمريكية فكان رد عبد العزيز قاسم كالتالي  “أيها العقيد المعقد هاجمتنا إسرائيل لأنها تعلم أننا نناصر القضية الفلسطينية بكل ما أوتينا من جهد والسؤال الحقيقي هو لماذا لم يهاجم العدو الصهيوني طرابلس؟”

بدايات القلق والنهاية

ازدادت الأمور تأزما بعد منتصف الثمانينات مع تغول سعيدة ساسي التي وخلافا لوسيلة بورقيبة عبثت بهيبة الدولة حسب ما يذكر الكاتب، فقد جعلت من الزعيم وهو في خريف العمر أداة طيعة أبعدت بها كل الخصوم وحتى الأصدقاء الأوفياء له مثل علالة العويتي ومحمد مزالي والحبيب بورقيبة الابن ويستخلص عبد العزيز قاسم من كل هذه المحن قائلا “والمتأمل في تلك المرحلة العصيبة لا يسعه إلا أن يتعجب وأن يأسف  لحصول ما حصل نخبة سياسية أفرزتها السياسة البورقبيبة الحصيفة أصابتها اللعنة الميثولوجية الإغريقية فتصارعت على الحكم استنزف بعضها بعضا إلى أن سطا من سطا على مواقع التأثير وجاء من لم يكن منتظرا فاستحوذ على الرهان وأمسك بالعنان”.

يعتبر هذا الكتاب في النهاية مرجعا تاريخيا مهما لكل من يريد الاطلاع على بعض سمات الواقع الإعلامي في فترة الثمانينات وعلاقته بالسلطة والسياسة وهو كذلك سردية تاريخية تندرج ضمن التاريخ الصغير الذي ينير ويكشف التاريخ الكبير. يمكننا فقط الإشارة إلى تداخل بين الإيديولوجي والمعرفي في هذا الكتاب وكذلك تداخل التاريخ والذاكرة فعادة ما تنتقي الذاكرة الاحداث التي تخدم الحاضر في حين تقصي بقية الحقائق الأخرى.

نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 26، ماي 2023.

للاطّلاع على كامل العدد وتحميله: http://tiny.cc/hourouf26

 

 

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights