أبو العلاء المعرّي لاجئا…
|بقلم: فتحية اللبودي
في يوم من أيّام شهر فيفري من سنة ثلاث عشرة وألفين ونحن تلاميذ نتمتّع أيّما تمتّع بقسم الرّحلة من رسالة الغفران، المدرجة بالبرامج الرّسميّة الموجّهة لشعبة الآداب بالباكالوريا في الجمهورية التونسية، وفي غمار الحرب في سوريا الّتي كنّا نتابع أخبارها بقلق موجع، يتناهى إلى أسماعنا اغتيال أبي العلاء المعرّي غير أنّه اغتيال رمزيّ فأبو العلاء الّذي عاش بين القرنين الرّابع والخامس وأبدع خلال تلك الفترة من حياته روائع من الفكر العالميّ أدبا وفلسفة وفنّا… لم يكن ليفقد حياته مرّتين إلاّ مجازا، في الأولى موت طبيعيّ وفي الثّانيّة اغتيال من قِبل مقاتلي جبهة النّصرة. وممّا ورد في تلك الفترة من أخبار صحفيّة: “الجهاديون يقطعون رأس تمثال الشّاعر السّوري أبي العلاء المعريّ”. ففي هذا الخبر الصّحفيّ توجيه إلى أنّ المقاتلين لم يريدوا إلاّ اغتيال أبي العلاء على نفس الشّاكلة الّتي كانوا يُرعبون بها المواطنين في سوريا من خلال “الذّبح” ليضمّنوا في فعلهم ذاك اغتيال فكره وأدبه وروائعه وقتل الفكر العقليّ الّذي كان يمثّله أبو العلاء. غير أنّهم لم يكونوا ليصلوا إلى مُرادهم، فالفكر المبدع يتجاوز حدود المكان والزّمان وكذلك أبو العلاء الّذي كانت روائعه إلهاما لغيره من الأدباء وكانت فلسفته مفتاحا إلى ضرب جديد من التّفكير الحرّ، وكانت رؤيته للحياة نسقا يُدرَس ويُدرَّسُ، وكان جمعه بين الأدب في فنّه والفلسفة في تفكيره من عجائب ما يُدرس في اللّزوميّات شعرا وفي رسالة الغفران نثرا قصصيّا يتجاوز المكان والزّمان في حبكته وفي قضاياه وفي الواقع….
يُقتل المعرّي مرّتين غير أنّه لا يموت أبدا في كتابات المفكّرين وفي ثنايا قاعات الدّرس في الجامعات وبين الطّلبة …. ويُعاد إلى الحياة تمثالا بعد أن قُطِع رأسه في مسقط رأسه معرّة النّعمان من محافظة إدلب، ليُعاد حيّا من جديد تمثالا ولكن في العاصمة الفرنسيّة باريس، في خطوة أرادها فنّانو سوريا الّذين خرجوا من بلدهم لاجئين وأرادوا بعد عشر سنوات أن يكون المعرّي أيضا لاجئا معهم، فهل كان المعرّي ليرضى ذلك لنفسه: لاجئا في بلد ساهم في ذبحه في مسقط رأسه، لاجئا يبعثه لاجئون أرادوا أن يعطوا من وجودهم في بلد مُضيف لهم وجودا فنّيّا حقيقيّا من خلال صورة أبي العلاء في حفل أقاموه في باريس…
أبو العلاء لاجئا… وهو الّذي لزم بيته بعد أن رفضه واقعه السياسيّ وفي ذلك شواهد من تاريخ الأدب العربيّ، ففي حادثة زيارته بغداد ودخوله على الشّريف المرتضى وما تجادل به معه خير دليل على رفض الطّبقة السّياسيّة الحاكمة لأبي العلاء فلم يهرب من ذلك الواقع إلى خارج حدود الخلافة العبّاسيّة بل ظلّ حبيس داره رغم الانحطاط المحاط به، حارب الجهل والفساد والانغلاق والاستبداد في عقر داره وهو في منزله لا يبرحه، لم يفرّ لاجئا ولم يهرب من سطوة السلطان وجبروته بل ناقشه وجادله وأفحمه وفضحه في روائعه. وفي المقابل هُوجم حتّى أتّهم بالتّهمة الدّارجة في عصره ألا هي الزّندقة… فهل كان ليرضى أن يكون لاجئا اليوم وهو المقاوم منذ قرون؟ هل كان أبو العلاء ليرضى هذه المنزلة لنفسه تمثالا لاجئا في بلد ساهم في تدمير قريته وبلاده وحضارته وحارب فكره الحرّ بإرسال جنود قاتلوا مع من اغتالوه في مسقط رأسه ذبحا؟ هل يصحّ لمن ساهم في التّدمير من ناحية أن يرعى مفكّرا اغتالوه في بلده من ناحية أخرى؟ هذه الواقعة تجعلنا نفتح ملف صورة العربيّ المسلم في العالم الّذي يظهر إعلاميّا رافضا لكلّ فكر حرّ حتّى وإن كان منه، فرفض أبا العلاء بينما استقبله الآخر الأوروبيّ لاجئا لديه… هل كُتِب على العربيّ المُسلم أن يُرسم في صورة النّاكر لفضل عباقرته وعلمائه وفلاسفته؟ ألم تُهاجم الكنيسة أيضا غاليلو وكوبرنيك؟ ألم يتجرّع سقراط السّمّ أيضا وهو يعلم أنّها مؤامرة حاكها المقرّبون منه؟ أليس ذلك حال المسيح عيسى أيضا عندما خانه يهوذا؟ لكن هل حال كلّ هؤلاء هو حال المعرّي اليوم؟
لمَ يصوّر العربيّ المسلم فقط رافضا لعلمائه بينما هو واقع يواجهه كلّ مفكّر يعارض السّلطة السّياسيّة والدينيّة الفاسدة، غير أنّ المعرّيّ هُوجم بالزّندقة ولم يُقتل أو يُغتل… وخاصّة لم يهرب، فهل كان يرضى ليكون لاجئا بعد أن كان عزيزا في معرّته تمثالا شامخا تُرفع الرّقاب والرّؤوس لتراه؟ هل كان ليرضى أن يتآمر عليه كلّ هؤلاء اليوم ويظهروه بهذا المظهر الّذي ربّما كان ليرفضه؟ هل كان ليحتفي بقريته وبأمّته اليوم؟
نُشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 25، أفريل 2023.
للاطّلاع على كامل العدد وتحميله: http://tiny.cc/hourouf25