تشابك الحبّ والفلسفة:  قراءة في فيلم “عشّاق الفلورا”*

بقلم: مريم مقعدي

“عندما رأيت سارتر لأول مرة في حديقة دار المعلمين العليا، أيقنت انه لن يخرج أبدا من حياتي”.

هكذا عبرت سيمون دي بوفوار في مذكّراتها عن دفء مشاعرها عندما رأت جون بول سارتر لأول مرة في حديقة دار المعلمين بباريس. وهو شعور استبطنته سيمون في كامل الفيلم الذي يمثل بوجه ما السيرة الذاتية لكل من هذين الفيلسوفان اللذان ارتبطا اسمهما ببعضهما البعض.

يبدأ الفيلم بعرض حدث هام مثّل منعرجا حاسما في حياة كل من هذين الفيلسوفان وهو حصولهما على شهادة التبريز في الفلسفة. عندها لم يكونا بعد لا في مرحلة الصداقة ولا في مرحلة الحب وإنما كان ما يجمعهما فقط هو صديق مشترك. لكن في تلك المناسبة وإثر الانتهاء من الإعلان عن النتائج حاول سارتر أن يتقرب من سيمون دي بوفوار بقوله ” كاستور… هذا أمر مدهش ” فردت عليه سيمون وهي تحمل داخلها كل عنف وكثافة اللحظة “فعلا هو أمر مدهش “. ولعل ما يشد انتباهنا هو ذلك الاسم الذي أطلقه سارتر عليها ” كاستور” وفي حقيقة الأمر هو يترجم عودة سارتر للميثولوجيا الإغريقية. يرسم لنا الفيلم بشكل جيد ذلك الظمأ إلى المطلق وتلك الرغبة الجامحة التي حركتهما للتحرر من كلّ أشكال القيم البورجوازية السائدة في فرنسا آنذاك. لذلك فان أول ما قامت به بوفوار بعد نيلها لشهادة التبريز ومباشرتها العمل كأستاذة جامعية هو تركها لمنزل أبويها لان أباها كان يمثل بالنسبة إليها “وجها من وجوه مرض البورجوازي” وفي المقابل اكترت غرفة صغيرة في نزل.

 أن نفكر بسيمون دي بوفوار وسارتر يعني أن نفكر بالحرية. لذلك كان سارتر يردد لسيمون طوال الفيلم الشعار التالي “عش من دون وقت مستقطع” ولعل هذا ما نجده أيضا في كتابه “الوجود والعدم” عندما أقر أن ” الإنسان محكوم عليه بان يكون حرا”. إن فلسفة سارتر عن الحرية لم تكن من الناحية النظرية برجا عاجيا أو مجرد درس نظري يكتفي بإلقائه لطلبته وينصرف، بل على العكس من ذلك كانت ملتصقة بالحياة. لذلك فإن كلّ مغامراتهما في الفيلم كان بمثابة تحدّ للتقاليد الاجتماعية. وكوجوديين فإنهما اعتبرا أن لا أحد بإمكانه أن يعلمهما كيف يعيشان حياتهما، ولا حتى حياة حبهما، وفي مشهد معبر، قالت سيمون دي بوفوار لسارتر ” علينا أن ندرك أننا ابتكرنا نمطا جديدا من علاقتنا ولعله يتجسد في وحدتنا “

 ومع نزعتهما للعيش بحرية ودون قيود، كانا مهووسين بما يسميه سارتر “وهم السيرة” وهي الفكرة القائلة أن الحياة المعيشة يمكن أن تماثل الحياة المسرودة. في مراهقتهما كانا يتصوران حياتهما المستقبلية كأنها في عيون الأجيال القادمة. وفي هذا الصدد قال سارتر ” كنت واعيا على نحو استثنائي أني الشاب سارتر، في ذات الطريقة التي يتحدث بها الناس عن الشاب بيرليوزاو الشاب غوته”. كما كانت بوفوار تتخيل الناس يمنعون التفكير بقصة حياتها كما فعلت هي مع حيوات اميلي برونتي وجورج ايليوت وكاثرين مانسفيلد: “أردت أن يقرأ الناس سيرتي ويجدونها مؤثرة وغريبة “. إن سارتر وبوفوار بنزوعهما الشديد إلى خط أسطورتهما الخاصة إنما يذكراننا في الحقيقة بروكانتان بطل رواية “الغثيان” عندما قال “لكي يصبح الحدث التافه مغامرة كبيرة ينبغي عليك أن تسرده “.

 على الرغم من إصرارهما الشديد على قول الحقيقة لبعضهما البعض وللقراء عموما فقد باح هذان الوجوديان ببعض من أسرارهما المتشابكة من وراء قبريهما، إذ أنّهما دُفنا بجوار بعضهما البعض. فقد نشرت بعد ذلك رسائل الحب التي وجهتها بوفوار إلى المفكر الأمريكي نيلسون الغرين على الرغم من محاولة تهربها منه في كامل الفيلم. كما نشر لها بعد ذلك الرسائل المتبادلة بينها وبين جاك لوران بوست هل هذه هي سيمون دي بوفوار التي اعتبرت أن الكذب شكلا من أشكال النفاق البورجوازي؟  لعل هذا ما دفع أحد النقاد إلى أن يتساءل “كيف استطاعت بوفوار العيش مع ذلك الشخص ذي النظارات والصوت المعدني والبذلة الزرقاء المجعدة والمهووس بالسرطانات والشاذين جنسيا. في حين انها تمتلك مثل تلك الحيوية والذكاء والعذوبة. يا له من لغز”.

خلاصة القول على الرغم من محاولتهما العيش وفق مبدأي الحرية والمسؤولية وعلى الرغم من إخفاقاتهما العديدة ومحاولة تجاوزهما أحيانا لفلسفتهما ، إلا أنهما عاشا الحياة بكل كثافة وجعلوها جديرة بأن تعاش.

* Les amants du Flore فيلم تلفزي فرنسي من إخراج إيلان دوران كوهين (2006)

 

نُشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 25، أفريل 2023.

للاطّلاع على كامل العدد وتحميله: http://tiny.cc/hourouf25

 

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights