سيرة الطيّب ولد هنيّة… سيرة ريف وجهه امرأة (الجزء الأوّل)
|
بقلم: خلود الخمّاسي
هل أتاك حديث الطيّب ولد هنيّة إذ روى قصص ريفه البعيد المختبئ وراء جبال الكاف المترامية؟ شاركنا أستاذ التّعليم الثانويّ الطيّب الجوّادي في كتابه “سيرة الطيّب ولد هنيّة” الصادر عن دار زينب سنة 2018 متعة في السّرد بعربيّة بليغة في سلاستها ومتعة أكبر في تتبّع حكايات الريف البسيطة في وجهها والعميقة في تفاصيلها.
السيرة تدوين أدبيّ لـ”حياة” الكفاف في واحد من أقسى أرياف تونس في الستينات، ريف الكاف في الشمال الغربي للبلاد التونسية. ينفتح وعي الطيب، الشخصية المحورية والرّاوي السّاخر تارة والمناضل تارة أخرى في سبيل حياة شحيحة، على القساوة والعنف. الطّبيعة جامحة فإذا لم يجمّد البرد القارس الدّم في عروق الطّفل فربّما تجرفه سيول النهر كما حدث مع ترب له في المدرسة وربّما حرمته وكلّ عائلته والقرويين الحد الأدنى من القوت إذا ما كفّت السماء ماءها أو أسهبت قطرها. وتقسو قلوب الريفيين تماهيا مع مناخهم، فهنيّة الأمّ الطيبة التي وسع حنانها كل شي تغدو حارسة شديدة البأس على ثروتها من الماء فتمنع ابنها البكر عنه وتهبه حيواناتها حتى تضمن بقاءهم وقوتها منهم. والأب لا يتوانى عن تعنيف ابنه كي يصير رجلا صلبا يعتمد عليه. وسياسة الدولة حديثة العهد بالاستقلال لم توفّر خدمات الصحة الكافية لمواطنيها في أطرافها فتقضي أخت الطيب الرضيعة تحت أنظار والدتها وقد قلت بها الحيلة ذات ليلة شتاء وبعدت بها الطّريق عن المستوصف المحليّ. تتحامل الطبيعة والسياسة على الفلاحين البسطاء وتتركهم لمصيرهم فـ”إما حياة وإما فناء.” هذا أول دروس الطيّب فقد خلص قائلا “وقد أدركت منذ سن مبكرة أنه لا خيار لي غير خوض معركة الحياة دون أن أنتظر مساعدة من أحد، ودون أن أحلم بشيء” (ص 8).
ما قدّمه الطّيب الجوادي في سيرته هو تدوين لتونس الستّينات وهي تخوض أولى تجاربها السياسية القاسية و”الفاشلة” مع النظام التعاضدي وهو أيضا سيرة الجمهورية التونسية بعد أكثر من ستّين عاما وبعد ثورة جانفي 2011. فالتّاريخ يستنسخ نفسه في أصغر تفاصيله ويشبه يومنا أمسنا أيما تشابه. في الستينات قرر النّظام أن يتعاضد صغار الفلاّحين حتّى تتمّ مكننة الزّراعة، وهو حقّ باطله أنّ أصحاب الأرض أصبحوا أجراء في أرضهم. أما اليوم فالـ”مواطن” التونسي يدفع الضّرائب والتّبرعات لتواصل الحكومات المتعاقبة سياسات الفشل. قساوة السّماء معجميّا ومجازيّا ونسيان الرّيف أو تناسيه من مخطّطات التّنمية المحليّة منذ السّنوات الأولى للاستقلال اتّحدا ضدّ مواطني الجمهوريّة ولازالت البلاد عامّة إلى اليوم ترزح تحت تبعات هذا الفشل في التّخطيط الاستراتيجيّ طويل الأمد. لقد اكتفى الكاتب بسرد يوميّاته من خلال عينيّ الطّفل في رجل أنهكته الحياة وأبى إلاّ أن يواجهها فبدا وفيّا للتّفاصيل ولوقعها في نفسه حسب وعيه الطفوليّ أوّلا ثم نضجه العاطفيّ والمعرفيّ ثانيا. وإذ تطرّق إلى بعض “الطرائف” مع ممثّلي السّلطة كالمعتمد والأمن العموميّ فقد كان بغاية السّرد لا المحاسبة أو الوعظ، على الأقلّ ليس بشكل مباشر. يحسب هذا الاختيار الأدبيّ للكاتب فهو يعكس تمكنّه من آليات الكتابة الروائيّة والتزامه بمشاغل المثقف كجامعيّ ومربّ ومواطن تونسيّ وكونيّ. أجدني أطالع المحليّ في سيرة الطّيب ولد هنيّة وأستلهم منه كونيّته عندما أتساءل مع كل صفحة عن مغزى الحياة إذا لم يحفظ للإنسان الحد الأدنى من الكرامة.
لعلّي بـ”سيرة الطيّب ولد هنيّة” استعدت الكاف الذي “أنتمي” إليه ثقافيا واجتماعيا ولعلّي به استعدت ابنتيْ الريف: أمي وجدتي للأم مثلما إستعاد الطيب هنية بتدوينه سيرة أمّه (ص 6). لم أبك مع كتاب أو أضحك كما حدث مع سيرة الطيّب. أحسب هذا عقدا جديدا مع الرّواية التونسية باللّغة العربية في تناولها قضايا الساعة. أجد سيرة الطّيب الجوادي مرآة لنا نحن التونسيّين، أو أغلبنا أو بعضنا. أسائل حالي ومواطنيّ عن الدولة الوطنية التي نرنو إليها ومن خلالها نخطّ تاريخنا بين الأمم.
صدر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد الثالث، ماي 2021، ص. 13.
لتحميل كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf3