الحركات الاجتماعية والعدالة البيئية: نموذج ولاية قابس

بقلم: سمية بن ضو

بعد عقود من الاقصاء عن الساحة السياسية وسلطة القرار، تمكن المواطن التونسي من تجاوز عتبة الخوف والوقوف في وجه النظام المستبد صارخا بكل ما تسلح به من غضب ”خبز وماء وبن علي لا”. ورغم محاولات القمع والردع من قبل قوات الأمن إلا أنها باءت بالفشل مع إصرار التونسيين على تنحي الرئيس السابق زين العابدين بن علي عن رأس السلطة والقطع مع النظام السياسي المهيمن عليه من قبل عائلة الرئيس وحزب التجمع الدستوري الديمقراطي أنذاك.

وكانت هذه أولى التجارب المشاركة السياسية للتونسيين -امتدادا لأحداث قفصة 2008- ومن خلالها فتح المجال للخطابات السياسية لمختلف التوجهات وهذا ما أسهم في بداية تشكل الوعي السياسي والاجتماعي، وبدء الحديث عن الحقوق الحريات. وبعد أن كان المطلب وطنيا موحدا حول تغيير رأس النظام، تواصلت الاحتجاجات في مختلف الجهات والتفت حركات الغضب حول القضايا المحلية وكثر الحديث عن ”الإقصاء”، “التهميش”، و”الحقرة”…  تشكلت اللجان والتنسقيات ورفعت المطالب المحلية لكل منطقة على حدا والتي يمكن القول بأنها تمحورت حول تفشي ظاهرة البطالة وتدهور المقدرة الشرائية والوضع الاجتماعي عموما.

انتشرت الاحتجاجات وتأججت في مختلف مناطق البلاد صادعة بالحيف الإجتماعي الحاصل بين الجهات، وقد زاد من حدة الغضب الاجتماعي سوء توزيع الأضرار البيئية الناتجة عن الأنشطة الصناعية، فمن المفارقات التي أفرزها المنوال الاقتصادي، القائم منذ سبعينات القرن الفارط،  أن الفئات الاجتماعية الهشة والفقيرة وغير القادرة على تجاوز انعكاسات التغير المناخي والتلوث هي الأكثر عرضة لها والأكثر حرمانا من الحصول على الموارد الطبيعية والعيش في بيئة صحية سليمة. ومن هنا ظهرت الحركات الاجتماعية ذات الطابع الايكولوجي، وبطبيعة الحال اختلفت باختلاف الفاعلين الاجتماعيين وأشكال التعبئة والنضال فضلا عن المطالب الموجهة للسلطات الحاكمة.

في هذا المقال، سنحاول دراسة نموذج الحركات الاجتماعية البيئية بقابس من خلال الملاحظة بالمشاركة في الاحتجاجات المحلية فضلا عن مقابلة أبرز الناشطين المسيريين لهذه التحركات وتحليل مضمون البيانات التي تصدرها مكونات المجتمع المدني.

 

المفاهيم الرئيسية

الحركات الاجتماعية

يحتل موضوع الحركات الاجتماعية مكانة مهمة في سلم اهتمامات الباحثين في العلوم الإنسانية والاجتماعية وعلى رأسها علم الاجتماع. جاء هذا الاهتمام منذ ظهور الحركات العمالية في أواخر القرن التاسع عشر وتواصل مع نشأة الحركات النسائية والبيئية والحركات المدافعة عن حقوق الإنسان منذ ستينات القرن الماضي حتى عصرنا الحالي، وأطلق عليها اسم ”الحركات الاجتماعية الجديدة”.

أسست المقاربات السوسيولوجية الحديثة مفهوما جديدا للحركات الاجتماعية يختلف عن التعريف الضيق الذي يتمثل في النموذج القديم للحركات الاجتماعية وينحصر في الحركات العمالية التي انتشرت بشدة في المجتمعات الصناعية في القرن التاسع عشر. إن مفهوم الحركات الاجتماعية اليوم يعبر عن مجموعة الأفراد الذين يحاربون ويرفضون جزءا أو نظاما كاملا، وقد خاض العديد من علماء الاجتماع في هذا المفهوم، وعلى سبيل الذكر لا الحصر، سنقدّم بلمحة حول المقاربة الأمريكية والمقاربة الأوروبية/الفرنسية.

تعود نظرية تعبئة الموارد لتشارلز تيلي وهي من النظريات المرجعية لدراسة الحركات الإجتماعية في المدرسة الأمريكية، لكن هذه التسمية (تعبئة الموارد) أصبحت شاملة لكل النظريات التي تناولت الحركات الاحتجاجية من ضمنها نظريات  نظرية الفرص السياسية لسيدني تارو. وقد ركزت في العموم على دراسة الحركة من الخارج بما في ذلك الموارد المعتمدة: اللافتات، القدرة على استقطاب وسائل الإعلام، العلاقات مع الأطراف السياسية. واعتبرت أن ما يساهم في تشكل الحركة هو وجود مناخ سياسي مناسب إذ بين سيدني تارو أن الهشاشة السياسية أو تنامي التعددية يمكن أن تعطي فرصة للقوى المعارضة لإحداث تغيير.

أما بالنسبة للمدرسة الفرنسية، فاعتبرت الحركة الاجتماعية مفهوما جوهريا لفهم اشتغالية المجتمع وأيضا إلى بناء موضوع علم الاجتماع فعوضا عن المقاربات الوظيفية والبنيوية يقترح آلان توران المقاربة الفعلية؛ بما أن المجتمع –وفقا لنظريته-مرتب حسب نظام أفعال وروابط اجتماعية تتعارض فيها وتلتقي الاتجاهات الفكرية للفاعلين الذين ينتمون إلى نفس المجال الاجتماعي. وقد أشار إريك نيفو إلى أن كل شكل من أشكال العمل الجماعي المتضافر لصالح قضية ما بالنسبة له “هو عمل جماعي مقصود، وبالتالي يتميز بمشروع واضح. يتطور هذا العمل الجماعي في منطق المطالبة أو الدفاع عن مصلحة مادية أو سبب”[1]، بمعنى أن “العمل الجماعي” و”القصد” هما ما يميزان الحركة الاجتماعية “قبل أي شيء آخر، الحركة الاجتماعية هي تعبئة للإناث والذكور، حول آمال ومشاعر ومصالح. وهي أيضا فرصة مميزة لطرح رهانات اجتماعية على المناقشة، ولقول ما هو عادل وما هو ظالم”.[2]

سنركز على الحركات الاجتماعية ذات البعد الايكولوجي التي انتشرت على نطاق واسع في مختلف الدول وبالخصوص في المناطق التي تعتمد على النمط الاستخراجي والصناعات الكيميائية. غالبا ما تتزامن الإخلالات البيئية الناتجة عن الأنشطة الاقتصادية مع تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي في هذه المناطق وهو ما يخلق لدى الأفراد نزعة للتغيير وتحسين الأوضاع فيتشكلون ضمن مجموعات منظمة وغير منظمة ومن هنا تنشأ الاحتجاجات بمختلف أشكالها. ويتكرر هذا المشهد ضمن سيرورة حتمية حيث تؤدي نفس الظروف ”التجاوزات البيئية وتدهور المستوى المعيشي” إلى نفس النتائج ”ظهور الحركات الاجتماعية”.

العدالة البيئية

هو مصطلح جديد ظهر في ثمانينات القرن الماضي في الولايات المتحدة الأمريكية مع الحركات الاجتماعية المناهضة “للتمييز البيئي”، حيث انطلقت أولى الحركات الايكولوجية سنة 1978 حول قناة لاف Love canal التي اشترتها شركة خاصة وأصبحت مكب للنفايات السامة وأدت إلى تلوث التربة والمياه وانتشار مرض السرطان بكثرة فضلا عن عدة أمراض نادرة. ثم تلتها حركة احتجاجية في مقاطعة كرولينا الشمالية سنة 1982 إثر تعمد السلطات تركيز مكب نفايات في منطقة يقطنها أمريكيون من أصول إفريقية وهو ما أثار غضب المتساكنين واعتبر ”عنصرية بيئية”. ومن هذا المنطلق أصبح الحديث عن مطلب ”العدالة البيئية” وقد ركزت التعاريف الأولى لهذا المصطلح على المساواة العرقية وتصحيح التوزيع غير العادل للأضرار البيئية.

العدالة البيئية هي المساواة بين الأفراد فيما يتعلق بالتلوث وتدهور البيئة وأيضا المساواة في توزيع الثروات الطبيعية والوصول إليها. ورغم جِدة المصطلح إلا أنه يعد تابع لمصطلح أشمل وهو العدالة الإجتماعية، ان النظريات التي تناولت مسألة العدالة دائما ما أغفلت الجانب البيئي إذ اهتمت بتوزيع المزايا بين الأفراد مثل الحرية أو الفرص أو الموارد المادية وركزوا في بعض الأحيان على حق الأجيال القادمة في استدامة الموارد الطبيعة وكأن الأجيال الحاضرة لا تعاني من سوء التوزيع والتمييز البيئي، ”هؤلاء الذين فكروا بعمق في العدالة الإجتماعية … عادة ما يحددون مجالها حول توزيع الحقوق، الفرص، والموارد على الذوات البشرية، في حين وضعت المسائل البيئية في منطقة منفصلة ”وراء العدالة” « beyond justice »”. [3]

تفترض العدالة البيئية أن لكل شخص الحق في بيئة آمنة وصحية وترتبط بثنائية الاعتراف وإعادة التوزيع، بغض النظر عن المكان الذي يعيش فيه الفرد أو مقدار الأموال التي يمتلكها وقد تطور المصطلح ليشمل علاقات الهيمنة بين دول الشمال والجنوب الناتجة عن إرهاصات النظام الرأسمالي والعولمة فقد “حدث تحول ذو معنى في التحاليل حول العدالة البيئية مع العولمة والعلاقات بين الشمال والجنوب. التفاوتات بين بلدان الشمال والجنوب هي في نفس الوقت إيكولوجية، إقتصادية واجتماعية. (…) إنها تُعنى بتقاطع التحاليل المتعلقة بتدهور البيئة مع روابط الهيمنة المرتبطة بنمط الإنتاج الرأسمالي المعولم”.[4]

ومنذ ظهورها نالت العدالة البيئية حظها في التشريعات والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان حيث صيغت في نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق الإقتصادية والإجتماعية والإتفاقيات الخاصة بحقوق الطفل والنساء والأقليات. وفي النطاق الوطني ورغم مصادقة الدولة التونسية على العديد من المعاهدات والمواثيق الدولية المدافعة عن الحقوق البيئية إلا أنه لم يتم دسترة حق المواطنين على حد سواء في بيئة سليمة إلا في دستور 2014.

 

الوضع البيئي في قابس

ساهمت عدة عوامل في تدهور الأوضاع بولاية قابس، لعل أبرزها ضعف مساهمة الشركات الصناعية المنتصبة بالجهة في التنمية الجهوية مقابل ما تتسبب فيه هذه الأنشطة الصناعية من تأثيرات سلبية على المحيط الطبيعي. وذلك فضلا عن تهاون الدولة إزاء تدهور الوضع البيئي، فقد لقي خليج قابس من التهميش والإهمال ما جعل منه أحد “النقاط الساخنة للتلوث” في البحر الأبيض المتوسط وذلك حسب برنامج الأمم المتحدة للبيئة.

ظاهرة التلوث

إن تدهور الوضع البيئي في قابس هو نتيجة بديهية لسياسة التهميش والإهمال التي تمارسها الدولة إزاء تجاوزات معامل المنطقة الصناعية المتواجدة على الشريط الساحلي للولاية، وخصوصا معامل المجمع الكيميائي التي اتخذت من البحر مزبلة لفضلات الفوسفوجيبس الناتج عن معالجة الفسفاط فضلا عن الغازات المنبعثة في الهواء.

وكملوث رئيسي يعتبر الفوسفوجيبس الأخطر وخاصة من حيث خصائصه الكيميائية فهي مادة حامضية للغاية إذ تحتوي على الفليور والمواد العضوية والفوسفور، فضلا عن ضخامة الكمية الملقاة التي تقدر بـ 3.5 مليون طن سنويا وهو ما يظهر جليا من خلال تراكم أكداس الفوسفوجيبس على شواطئ المدينة.

وتنبعث من المنطقة الصناعية غازات ملوثة منها ثاني أكسيد الكبريت وهو بعد تفاعله مع الهواء يصبح حامضا كبريتيا وهو العنصر الأساسي المتسبب في الأمطار الحمضية التي تعد العامل الأساسي في إبادة الواحات وتلوث التربة.

وإلى جانب ذلك السامة فإن لديوان التطهير دورا في تلوث الشاطئ، إذ قام بنقل محطة صرف المياه الصحي إلى شاطئ منطقة سيدي عبد السلام وهذا ما أدى إلى انزعاج أهالي المنطقة نظرا لما تسببت به من انبعاث للروائح الكريهة وانتشار الحشرات. وتتكون محطة الصرف الصحي من تجهيزات بدائية غير خاضعة للمواصفات العالمية وغير كفيلة بتطهير المياه المستعملة التي يتم إلقاؤها يوميا في البحر وهذا ما يترتب عليه مخاطر صحية واقتصادية ” فهذا النوع من المياه الملوثة يشتمل على عديد من الملوثات الخطرة، سواء كانت مواد كيميائية (كالصابون والمنظفات الصناعية)، وبعض أنواع البكتيريا والميكروبات الضارة، إضافة الى المعادن الثقيلة السامة والمواد الكربوهيدراتية.” [5]

إستنزاف الموارد الطبيعية

تتميز ولاية قابس بمناخ جاف وهذا ما يفسر محدودية الثروة المائية التي تمتلكها، لكنها كانت تكفي لتلبية احتياجات السكان والقطاع الفلاحي. ومع إنشاء المصانع الكيميائية تضاعفت احتياجات المنطقة للمياه فلإنتاج ثمانية مليون طن من الفوسفات سنويا يقع استعمال 10 مليون مكعب من الماء الصالح للشراب أو الإستعمال الفلاحي وذلك دون اعتبار الكميات الضخمة التي تستنزفها شركة الإسمنت بقابس منذ 1977. بالتالي، تظهر أول تناقضات تركيز المنطقة الصناعية بقابس على مستوى تعبئة المياه. فهذه الصناعة تحتاج إلى كميات كبيرة من المياه، وهو ما عجزت عن تلبيته الموائد المائية نظرا لمحدوديتها.

الحركات الاجتماعية

بالرغم من الإيرادات الضخمة التي تجنيها البلاد التونسية من الصناعات الكيميائية وخاصة من معالجة الفسفاط وتصديره إلا أن هذه الأنشطة الصناعية للمجمع الكيميائي قد خلفت أضرار سلبية على المحيط الطبيعي بسبب الفضلات السامة التي تفرزها. وللحد من هذه الممارسات تقوم مكونات المجتمع المدني البيئي بمفاوضات مع المسؤولين في المجمع الكيميائي تتراوح بين الاجتماعات السلمية لتصل إلى حد التصعيد والإحتجاج.

في ظل نضالها ضد مشكل التلوث خاض المجتمع المحلي بقابس سلسلة احتجاجات متواصلة من بينها حراك ”stop pollution” و ”اعتصام التحدي بشط السلام” التي شملت عدة مفاوضات بين مختلف الأطراف الفاعلة. وقد تم تكوين تنسيقيات ضمت مجموعة من الناشطين من مختلف مكونات المجتمع المدني عنيت بتحديد قائمة المطالب وتنظيم الوقفات الاحتجاجية والتعبئة لها من خلال البيانات الاحتجاجية.

ونظرا لعدم التزام المجمع الكيميائي بوعوده وتواصل الانتهاكات في حق منطقة قابس فقد لجأ المجتمع المدني إلى التصعيد من خلال الخروج في عدة مظاهرات حيث قامت جمعية أكسيجين للبيئة والصحة بغنوش بتنظيم حملة لغلق مصب الفليور التابع للشركة الكيميائية للفليور والذي يصب في بحر غنوش منذ بداية السبعينات وذلك بالمشاركة مع كافة مكونات المجتمع المدني وأهالي المنطقة بتاريخ 13جوان2017. كذلك شهدت مدينة قابس حملة مظاهرات متواصلة تحت شعار “سَكَّرْ لَمْصَبْ” وذلك لمطالبة المجمع الكيميائي بالوقف الفوري لسكب مادة الفوسفوجيبس في البحر ونقل المصب بعيدا عن المناطق العمرانية.

 

حراك ”سكر المصب”

تعتبر حركة ”سَكَّرْ لَمْصَبْ” الأكثر شعبية حيث ابتدأت منذ أواخر 2016 واستمرت المسيرات الاحتجاجية  وقد شاركت فيها الجمعيات البيئية بالتعاون مع الاتحاد الجهوي للشغل بمختلف فروعه من اتحاد الصيادين والنقابة الأساسية للصناعات الكيميائية للفليور. وانعقدت عدة جلسات مع الوالي وتم طرح الموضوع إثر مجلس وزاري في 29 جوان 2017 أكدت خلاله رئاسة الحكومة على التزامها التام بإيقاف سكب الفوسفوجيبس في البحر بقابس. وأقرت باستعدادها لتفكيك الوحدات الملوثة المرتبطة بإفراز الفوسفوجيبس واستبدالها بوحدات صناعية جديدة تحترم المعايير الوطنية والدولية في السلامة البيئية في موقع يتم اختياره بناء على معطيات تراعي الابتعاد عن التجمعات السكنية وتفادي أي مساس بالمائدة المائية واحترام كافة المقتضيات البيئية وتحري وجود طبقات جيولوجية عازلة مع مراعاة المقبولية المجتمعية للمشروع. وقد وقع الاختيار على منطقة المخشرمة من معتمدية وذرف إلا أن هذا القرار لقي رفضا من متساكني هذه المنطقة وبالتالي تم الاتفاق على منطقة منزل الحبيب في انتظار البدء في إنجاز الوحدات الصناعية الجديدة من خلال وضع رزنامة لانطلاق الأشغال.

وقد عبرت الجمعيات البيئية عن تثمينها للمجهودات المبذولة في سبيل إيجاد الحل لمعضلة التلوث في قابس وخاصة الفوسفوجيبس وتأييدها لنقل الوحدات الملوثة خارج مناطق العمران. لكن مع عدم وفاء الدولة بتعهداتها عادت الجمعيات البيئية إلى سياسة الاحتجاجات والتصعيد كما قامت الجمعية التونسية للبيئة والطبيعة بقابس بإعداد ملف إلى هيئة الحقيقة والكرامة يثبت تضرر جهة قابس من التلوث والمطالبة برفع المظلمة والانتهاكات البيئية وجبر الضرر والتعويض للأهالي.

مطلب العدالة البيئية: بين الإلتزام والمقايضة

استمرت الحركات الاحتجاجية المناهضة لسياسة “تلويث” مدينة قابس والقضاء على القطاعات الحيوية التي كان يتمعش منها السكان المحليون سابقا (الفلاحة والصيد البحري)، كما قضت على تطلعات شباب المنطقة بجعل الولاية قطبا سياحيا نظرا لكونها تجمع بين العديد من الخصائص الطبيعية (البحر، الواحة، الصحراء والجبال). مقابل ذلك لم تكن المصانع الكيميائية ذات قابلية كافية لاستيعاب طالبي الشغل بقابس، وهنا كانت المفارقة، فالمصانع التي قضت على منابع الشغل في المنطقة فضلا عن الضرر الذي ألحقته بجودة الحياة لم تستطع النهوض بالمنطقة لا على المستوى الإقتصادي ولا الإجتماعي بل زادت من تردي الأوضاع على مختلف الأصعدة وهو ما دفع أهالي المنطقة بالوقوع في المقارنات بين ولايتهم وباقي الولايات الساحلية ”المحمية أو المميزة” من حيث أولوية العناية بقطاعي الفلاحة والسياحة واعتقاد أن الدولة تعمدت جعل المنطقة مكبا للنفايات الصناعية.

وهنا تفرق جموع المحتجين بين جماعتين:

 الأولى تتكون بالأساس من مجموعة من العاطلين عن العمل وتدعو السلطات والمجمع الكيميائي إلى التكفل بتطوير البنية التحتية للولاية (تهيئة الطرقات، إقامة مستشفى جامعي، إحداث كلية طب) وادماجهم في سوق الشغل وذلك مقابل تقبلهم لمخلفات الأنشطة الصناعية.

أما المجموعة الثانية فكانت أكثر وعيا بالأزمة البيئية حيث جعلت من حقها في حياة صحية وبيئة نظيفة أولية غير قابلة للتفاوض والمقايضة وطالبت السلطات بإزالة الوحدات الصناعية الملوثة وتعويضها بمشاريع صديقة للبيئة من خلال تقديم عدة أفكار مشاريع بديلة للنهوض بالأوضاع الإقتصادية والإجتماعية للمنطقة.

 

الإستنتاجات

– إن تركيز المنطقة الصناعية بخليج قابس كان ضمن سياسة الحد من التفاوت بين الجهات لذلك تم اعتماد قابس منذ السبعينات كقطب صناعي، لكن نتائج هذه السياسة التنموية كانت عكسية بامتياز إذ أن التبعات الاقتصادية لظاهرة التلوث الصناعي كانت وخيمة على الوضع الاجتماعي لأهالي المنطقة، فالتلوث قد قضى على الثروات الطبيعية وبالتالي تدهور قطاع الفلاحة والصيد البحري الذي كان بمثابة العمود الفقري لاقتصاد مدينة قابس.

 -إن المنحى الصناعي الذي اتخذته مدينة قابس قد أخل ببقية القطاعات الاقتصادية كما أنه تسبب في مشاكل صحية وبيئية شتى: ارتفع معدل التلوث في قابس متسببا في تراجع كل القطاعات الحيوية للولاية (الصيد البحري، السياحة، الفلاحة) فآثار التلوث بالجهة باتت جلية للعيان إذ أثرت على غابات النخيل ومست المائدة المائية وأصابت السكان بالإختناق وانتشرت الأمراض الخبيثة بصفة كبيرة بين سكان الجهة.

– أصبح التلوث يمثل هاجسا متناميا يشغل بال السكان في قابس ما أدى إلى بروز عدة جمعيات ومنظمات ذات توجه تنموي بيئي للمطالبة بحق العيش في بيئة سليمة وبالتالي تحقيق العدالة البيئية.

– بدأت هذه الجمعيات في التحرك منذ اندلاع أحداث 14 جانفي 2011، مطالبة الدولة بإيقاف هذه التجاوزات التي ترتكبها المصانع في حق الأهالي والمحيط البيئي للمنطقة. ومنذ ذلك الحين تتالت النقاشات حول هذه المسألة وذلك بقيادة المجتمع المدني وبالتعاون مع مختلف الأطراف المعنية بمشكل التلوث.

– تتالت الحركات الاجتماعية ذات الطابع البيئي وذلك بقيادة المجتمع المدني وبدعم من أهالي المنطقة حيث أكدت من خلالها مختلف الجمعيات البيئية على ضرورة تحويل مصب الفوسفوجيبس ووضع مقترحات اقتصادية بديلة وهذا ما يعكس وعي الافراد بالمخاطر البيئية ورغبة منهم في تغيير الوضع.

– لم تسلم الحركات الاجتماعية البيئية بقابس من سطوة المطالب الاجتماعية نظرا لتدني المستوى المعيشي وانتشار البطالة في صفوف الشباب، لذلك نجد أن العديد من المحتجين لم يبدوا رفضهم لاستمرار النشاط الصناعي بل تشبثوا بضرورة إدماجهم في المؤسسات الصناعية اعتقادا منهم أن المخاطر الناتجة عنها وضع لا مفر منه لتحقيق التنمية.

 

الهوامش

  1. Eric Neveu, Sociologie des mouvements sociaux, La Découverte, Paris. 1996, p 11.
  2. Ibid, p 2.
  3. David Miller, “Fairness and Futurity: Essays on Environmental Sustainability and Social Justice”in Andrew Dobson (Eds.), Social justice and environmental goods, Oxford University Press, 1999, P151.
  4. Jérôme Ballet, Alexandre Berthe et Sylvie Ferrari, « Justice environnementale, justice alimentaire et OGM. Analyse à partir de l’agriculture indienne », Économie rurale [En ligne], 352 | mars-avril 2016.
  5. محمد حسان عوض، حسن احمد شحاته، التلوث البيئي خطر يهدد الحياة، مكتبة الدار العربية للكتاب، القاهرة، 2012، ص152.

 

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights