الاستفتاء والبحث الدائم عن أب
|بقلم: حمزة عمر
صوّت التونسيون على مشروع الدستور الجديد في 25 جويلية بأغلبية لا لبس فيها. وبقطع النظر عن مضمون النصّ نفسه، فمن الأكيد أنّ أغلب من أيّدوا هذا المشروع عبر الإدلاء بأصواتهم في صناديق الاقتراع إنّما فعلوا ذلك من باب منح تفويض لصاحب المشروع (قيس سعيّد)، لا للمشروع نفسه. لا يبدو أنّ هذا الفرق ذو أهميّة في أذهان المقترعين. المشروع وصاحبه سواء. وفي الحقيقة، يمثّل ذلك تواصلا لنظرة -زامنت ميلاد الدولة الوطنية إن لم تسبقها- تنزل صاحب السلطة منزلة الأب.
“الأب، حتّى وإن كان قاسيا وعنيفا وظالما، هو خير عندنا من اليتم”، هكذا علّقت إحدى الصديقات على نتيجة الاستفتاء. اليتم عندنا هو “العشريّة السوداء” الّتي لم ينفرد فيها بالأمر شخص بعينه، وإنّما تصارعت فيها عدّة قوى دون أن يهيمن أحدها بوضوح… عشريّة لم يكن فيها محور الاهتمام منصبا بعينه، وإنّما هيئة جماعية (المجلس الوطني التأسيسي/ مجلس نوّاب الشعب) وهو أمر لم يكن مقبولا. لا يمكن أن يكون لنا 217 أبا، هذا يُدخلنا في أزمة نسب!
لا شكّ أنّ بورقيبة رسّخ صورة الأب بشكل واضح، وهو الّذي كان يعتبر نفسه أبا الأمّة. يروى عنه أنّه كان يذرف الدموع لمّا يسمع بقصص تعذيب معارضيه في السجون، لكنّ ذلك لم يدفع به قطّ إلى القطع مع تلك الممارسات، فهي ضرورية لتأديب وتربية “أبنائه”. يروي علي بن سالم أنّه لمّا خرج من السجن إثر تورّطه في عملية انقلابية ضدّ بورقيبة وجد عملا في انتظاره. أليس ذلك ما يقوم به الأب؟ بعد أن يؤدّب أولاده، يحتضنهم ويغدق عليهم من حنانه.
لم يكن بن علي بمثل كاريزما بورقيبة وتاريخه، ولكنّه كان أبا بطريقته… “بونا الحنين” كما قال نبيل القروي، الّذي ربّما شكّل بعده عن صورة الأب التقليدية أحد أهمّ عوامل فشله في الدور الثاني من انتخابات 2019. تزيّى بن علي بصورة الأب الصارم الّذي يحكم قبضته على كلّ شيء ولا يترك مجالا لاّيّ لعب وراء ظهره، لكنّه لا يخلو من لحظات عطف كما تترجمه زياراته الفجئية و”إذنه” بتقديم مساعدات وإعانات وإحداثه لصندوق التضامن 26-26. نجح هذا النموذج، ولكنّه كان يحمل بذور هشاشته داخله، إذ لم يكن من المسموح أن يبدي الرئيس أيّ ارتباك، فذلك قد يحدث لمعاونيه، ولكن ليس له هو، وهو القادر المسيطر الذي يعرف بدقّة ماذا يفعل. لمّا أبدى بن علي ارتباكا واضحا في خطاب 13 جانفي، كانت في ذلك نهايته.
بعد الثورة، تعاقب على رأس السلطة (سواء في قرطاج أو في القصبة) الكثيرون، لكن لم يوح أحدهم بنفس الاطمئنان السابق. قطعا، كان الباجي قائد السبسي هو الأقرب إلى هذا النموذج، وقد استغلّ ذلك أحسن استغلال فهو لم يكن يقصّر في إبداء شخصيّته الأبوية حتّى تجاه محاوريه في وسائل الإعلام، وشدّد على وجوه التشابه الّتي تجمعه ببورقيبة. نجح ذلك بشكل بارز حين تسلّم الوزارة الأولى في 2011، خلفا لمحمّد الغنوشي. بعد التكنوقراطي المرتبك أمام الأحداث المتسارعة، جاء السياسي المحنّك الّذي كان يوحي أنّه يعلم جيّدا ماذا يفعل (حتّى إن لم يكن يعرف ذلك حقّا)، وإن كان جاء بتجربة أكثر من نصف قرن في خدمة الدكتاتورية في لحظة انتقال ديمقراطي! نجح ذلك مجدّدا في انتخابات 2014، وانتُخب قائد السبسي رئيسا، لكنّه لم يذهب في صلاحياته الأبوية إلى أقصاها، فحين جوبه بـ “ابن عاق” نازعه إيّاها، انكفأ إلى لعب دور رمزي (كان كافيا وضروريا في ذلك الحين) إلى حين وفاته في 2019.
وصلت اللخبطة الكبيرة في برلمان 2019 حدّ التهريج الرديء، ومن الأكيد أنّ وجود راشد الغنوشي على رأسه ساهم في أزمته، إذ أجمعت عمليات سبر الآراء المتتالية على أنّه أبعد الشخصيات عن حوز ثقة التونسيين. الرجل لم يكن أبا لغير أبناء حركته، ومع ذلك أراد أن يكون أبا الجميع، حتّى من يكرهونه. لا يمكن للأب أن يكون مكروها. قد يتهيّبه الأبناء أو يخافونه، لكنّهم قطعا لا يكرهونه. مهّد ذلك الأجواء لأن يقوم قيس سعيّد بحركته في 25 جويلية 2021. كانت لسعيّد ميزات مثالية للعب دور الأب: فهو شخص نزيه، صلب ويوحي بالثقة. دعّم ذلك بخطاب روّجه طوال حملته الانتخابية وبعدها مفاده ألّا مشروع له سوى تنفيذ ما يريده الشعب. ألا يشبه ذلك الأب الرؤوم الّذي يقنع صغاره أنّه لن يفعل إلّا ما يريدونه؟ أيّ أب أفضل من ذلك؟ حتّى إن لم ينفّذ فيما بعد إلّا مشروعه الشخصي، فلا مشكل في ذلك. المهمّ أنّهم يعتقدون أنّ ما يفعله هو فقط لمصلحتهم. لا شكّ أنّ الكثير من الآباء يطبّقون هذا النموذج، أي الإيهام بفعل ما يريده الأبناء.
في معرض دفاعه عن الدستور الجديد، قال أحد “المفسّرين” عبارة لها دلالتها: نضع المسؤوليّة على عاتق شخص واحد حتّى نعرف من نحاسبه. يقع هذا في صلب النظرة الأبوية للحكم. لا يهمّ المشروع كثيرا، ولا حتّى الكفاءة. المهمّ أنّ هناك من يتحمّل المسؤولية، ولا يهمّ فعلا ما يقوم به. هناك شخص يملك جميع مقاليد السلطة. قد يخطئ ويذهب بنا إلى الهاوية، لكن المهمّ أنّه موجود، إذ لن يُغمض لنا جفن من دون وجوده. هذا ما افتقدناه طيلة العشريّة (2011-2021) الّتي تنصّل فيها من المسؤولية حتّى من كانوا موجودين في جميع الحكومات. كان ذلك من باب التكتيك السياسي الفاشل، فعلى المدى القصير، قد تنطلي فكرة “لم نحكم وحدنا”، لكن إذا استمرّ هذا التهرّب لعدّة سنوات، فسيلجأ الناس إلى من يتوسّمون فيه صورة الأب المسؤول عن كلّ شيء.
قد يفسّر البحث عن هذه الصورة جانبا من السلوك الانتخابي للتونسيين، منذ أوّل انتخابات حرّة ونزيهة في 2011. كانت الأغلبيّة دائما للممتنعين عن التصويت. هناك عدّة تفسيرات قد تقدّم لذلك: عدم الثقة في العملية الانتخابية، المقاطعة في ذاتها موقف سياسي، وجود أشكال بديلة للمشاركة السياسية… لكن أخال أنّ صورة الأب كانت من أهمّ عوامل هذا الامتناع. الأب قَدَرٌ لا نتحكّم فيه، ومن المرعب للأبناء أن يُدعوا إلى اختيار أب له، بل لعلّهم في لا وعيهم لا يصدّقون أنّ هذا الخيار ممكن. لذلك يفضّلون الامتناع وترقّب من سيُختار لهم.
حتّى في الاحتجاجات على سلوك صاحب السلطة، قد يتّخذ بعضها مظاهر تشبه ما يفعله الأبناء تجاه أبيهم، وخاصة لمّا تذهب إلى التخريب والحرق والتكسير. ألا يذكّر ذلك بسلوك المراهقين المتمرّدين تجاه السلطة الأبوية؟ هي مظاهر تمرّد من قبيل إثبات الذات، لكن قلّما تحمل بوادر حقيقيّة لبناء السلطة بشكل يتجاوز النموذج الأبوي، لذلك عادة ما تتوقّف عند إظهار الاحتجاج دون أن تذهب إلى إيجاد البدائل.
من الجليّ أنّه من غير الممكن بناء حداثة سياسية قائمة على الصراع بين الأفكار والبرامج مع مثل هذه البنى النفسية الكامنة في عمق لا وعينا. ما لم تتحوّل السياسة إلى فعل واع يتحمّل فيه المواطنون مسؤوليتهم بشكل كامل عن تسيير الشأن العام، سنواصل التخبّط بين مختلف الآباء ونبقى رهن حسن نواياهم. الأب هو “المستبدّ العادل”، تلك الصورة النمطية المثالية الّتي نحملها منذ قرون عن صاحب السلطة والبعيدة كلّ البعد عن حقيقة الفعل السياسي المعاصر.
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 18، أوت 2022، ص. ص. 4-5.
للاطلاع على كامل العدد: http://hourouf18.tounesaf.org