“السيادة الشعبية المفككة” من منظور الحقوق والحريات: التحركات الاحتجاجية مثالا

بقلم: زهرة مصباح

رغم أن دستور 2014 قد مثل املا جديدا بالنسبة لعديد المدافعين والمدافعات عن الحقوق والحريات في تونس لمواصلة المضي قدما في المسار التحديثي الذي كانت بداياته منتصف القرن التاسع عشر، إلا أن تلك الفترة التي تم فيها العمل على تحديد فصوله قد تميزت ببروز جلي لمظاهر الصراع حول ما سيتضمنه من فصول جديدة، وخاصة مال الفصل الأول منه ولفظ “الإسلام دينها” الذي يقر بأن دين غالبية أفراد المجتمع التونسي هو الاسلام والذي ظل قائما طيلة عقود من الزمن منذ صدور دستور 1959.

سيطرح نصنا في قسمه الأول تأطيرا تاريخيا لفترة تاريخية هامة وهي تلك التي تلت ثورة 17 ديسمبر 2011 وبداية من سنة 2013 خلال عمل البرلمان التونسي على صياغة فصول دستور 2014. في القسم الثاني سنتطرق إلى أهم المفاهيم والنظريات السيوسيولوجية التي تناولت علاقة الفرد بالمجتمع تليها الدراسات السابقة في القسم الثالث. أما القسم الرابع فسيطرح منهجية بحثنا الميداني التي اعتمدناها لمحاولة الإجابة عن الإشكالية ونتائجه. في قسمه الخامس والأخير، سيتم تأويل هذه النتائج التي تم التوصل اليها سوسيولوجيا من خلال إبراز علاقتها بالأدبيات والنظريات السوسيولوجية.

أولا: إشكالية النص/ المداخلة

التأطير التاريخي: دستور 27 جانفي 2014 وبروز الانقسامات في صفوف أفراد المجتمع التونسي.

في 27 جانفي 2014 تمت أخيرا المصادقة على الدستور الجديد رغم كل مظاهر الصراع التي ذكرناها باعتبار أن هذا الدستور كان نتاجا لنظام ديمقراطي برلماني ممثلا للشعب و”تحقيقا لإرادته” و “في إطار دولة مدنية السيادة فيها للشعب” وهو ما اعترف به الفصل الثالث معتبرا أن “الشعب هو صاحب السيادة ومصدر السلطات، يمارسها بواسطة ممثليه المنتخبين أو عبر الاستفتاء”. يمكن أن ننطلق في تفكيرنا حول ثنائية “الشعب” والسيادة من هذا الفصل الذي عبر على أن السيادة تمارس على أرض الواقع من خلال “التداول السلمي على الحكم بواسطة الانتخابات الحرة وعلى مبدأ الفصل بين السلطات والتوازن بينها”وضمان الدولة “علوية القانون واحترام الحريات وحقوق الإنسان واستقلالية القضاء والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين والمواطنات والعدل بين الجهات”. لكن هل هذه فقط الوسائل التي اعتمدها المجتمع التونسي للتعبير عن سيادته ام انه هناك وسائل أخرى؟ 

بعد انتخابات سنة 2019 وتولي الرئيس الحالي “قيس سعيد” السلطة، بدأت بوادر الانشقاقات تلوح خاصة في علاقته برئاسة الحكومة ووزرائها وبالتالي عدم قدرة الدولة عموما على توحيد صفوف مؤسساتها والحفاظ على متانة الروابط بينها خاصة في ظل أزمات اقتصادية، أمنية وسياسية. وتزامنا مع ذلك لاحظنا تحركات احتجاجية وارقاما صدرت في تقارير المجتمع المدني تنذر بخطورة الوضع[1] . مع حلول سنة 2020 مثل انتشار فيروس كورونا-19 بداية ازمة جديدة بين الافراد والدولة خاصة فيما يتعلق بالحقوق والحريات. لكن، مع حلول سنة 2021 ارتفعت وتيرة الاحتجاج في عدد أكبر من الجهات والتي كانت لها مجموعة من المطالب التي تستهدف في مرتبة أولى “البرلمان التونسي ونوابه” وأفراد ممن يمثلون الدولة ومؤسساتها. 

الإشكالية:

يبرز، في هذا المستوى من النص، أن دستور 2014، رغم ما تضمن من نصوص تدافع عن الحقوق والحريات باختلافها (الحق في الصحة، في الكرامة الإنسانية، الحق في التعبير…) لم يمنع أن يتخذ المجتمع التونسي أشكالا أخرى من التعبير عن الغضب وعدم الرضا عن الكيفية التي تسير بها دواليب الدولة وللتعبير عن مجموعة من المطالب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي رأى العديد من الافراد أن القوانين والتشريعات ليست إلا حبرا على ورق وأن الممسكين بزمام السلطة يخدمون فقط مصالحهم الشخصية والعائلية لا المصلحة المجتمعية وقد عبروا عن ذلك الغضب من خلال مواقع التواصل الاجتماعي التي مكنتهم من تبادل المعلومات حول نواب البرلمان وشبهات تضارب المصالح في الدولة على الرغم من عدم تمكنهم من اثبات ذلك قضائيا. إذن شكلت المسيرات والتحركات الاحتجاجية وسيلة أخرى للضغط على الدولة وللدفاع عن الإرادة والحقوق والحريات وإثبات السيادة الشعبية والتعبير عن الغضب.

وعليه، فإننا سنحاول من خلال هذا النص أن نفكر في العلاقة القائمة بين ثلاثية “السيادة الشعبية”، التحركات الاحتجاجية والحقوق والحريات في شموليتها. وبالتالي فإن الإشكالية الرئيسية الذي سيهدف نصنا إلى محاولة الإجابة عنها هي مدى متانة هذه السيادة الشعبية التي تجسدها التحركات الاحتجاجية في حد ذاتها من منظور الحقوق والحريات.

ثانيا التأصيل النظري: دراسة علم الاجتماع لثنائية الفرد والمجتمع

1.أهم النظريات والكتابات

يمكننا ان ننطلق من الاشارة الى ان النظريات السوسيولوجية قد انقسمت الى نظريات “شمولية” ونظريات “فردانية” والتي تسعى كل منها الى التفكير حول ثنائية الفرد والمجتمع. تمحور اهتمام فيبير، من جهة، بمدى قدرة المنهج الفرداني على تفسير الأفعال الفردية التي تتعارض مع المنطق او مع الحقيقة ومن جهة أخرى بالطابع الروتيني والعاطفي لهذه الأفعال داخل الديناميكية الاجتماعية التي تتصف بالعقلانية. وهي الإشكالية التي دفعت فيبير الى تبني منهج الفهم السوسيولوجي للأفعال الفردية «la compréhension sociologique»   وقد ميز فيبير بين الفهم “الحالي” للأفعال الفردية la compréhension « actuelle »  و بين الفهم “التفسيري” la compréhension explicative« »  بالنسبة لفيبير المنهج التفسيري والفهمي متلازمان والهدف ليس التوصل الى الغاية الذاتية من الفعل والتي يعيها الافراد وانما الى “المعنى” الذي قد لا يعيه الافراد والذي يدفعهم الى اتباع تقاليد او عادات ما وقد يعي الافراد في بعض الأحيان هذا “المعنى” الحقيقي او جانبا صغيرا منه، ولكن ذلك لا يحدث الا نادرا كما يرى فيبير[2] .

لكن اعتبر العديد من علماء الاجتماع المتأثرين بالنظرية الدركايمية انه في مجتمعات ما قبل الحداثة أدت القيم الأسطورية والدينية الى بروز معتقدات جماعية متماثلة وتماسك الأهداف وتوحيد الدوافع. بين دركايم كيف ان الفرد في المجتمعات التقليدية خاضع للقيم الجماعية التي تفرض عليه اما في المجتمعات الحديثة فقد أدى تقسيم العمل الى استقلالية أكبر للفرد بمعنى فردنة الأهداف والمبادئ السامية ونرى تآكل القيم وضعف الروابط الاجتماعية وبالتالي “الانوميا”[3] . 

          2  المفاهيم الرئيسية:

 التفرد L’individuation هو مسار تصاعدي يزداد فيه تباعد الفرد عن الموروثات وعن الجماعي ، من دون القطع معها. وهو المرحلة التي تسبق الفردنة”[4]  بمعنى ان الفرد يحاول ان يتخلص من سيطرة القواعد الاجتماعية فهو من جهة غير مقتنع بالضوابط الاجتماعية ويرى انها لا تناسبه من جهة وهو غير قادر على الابتعاد عنها من جهة أخرى فلازال يتصارع لتحقيق الفردانية L’indivisualisme  والتي يمكن ان نعتبرها إما نتيجة لصعود الفرد كأساس للسياسة ولدولة القانون خلال القرن السابع عشر أو أن نعتبرها نتيجة لتغير اشكال الروابط الاجتماعية التي أتت بها المجتمعات الصناعية[5]  في عمله على العودة الى أصل ظهور مبدا الفردانية في المجتمعات، اعتبرها دركايم على انها نتيجة لتغير اشكال الروابط الاجتماعية نتيجة لغياب مبدا التضامن الاجتماعي [6] . وهي ايضا ذلك البراديغم النظري القائم بذاته والتي تمثل احدى علامات الحداثة فهي مرتبطة من جهة بتآكل الروابط الاجتماعية التقليدية والجماعية ومرتبطة من جهة أخرى برؤية جديدة للعالم مركزها الفرد وحقوقه بوصفه قيمة إنسانية[7] .

ثالثا: اهتمام الدراسات والبحوث السابقة في تونس بثلاثية الفرد والدولة والحقوق والحريات.

من بين أهم الدراسات التي تناولت علاقة الفرد بمؤسسات المجتمع ونظرته الى مسالة الحقوق والحريات، نذكر تقرير الحالة الدينية وحرية الضمير الذي نشر في 15 ماي/مايو 2020 عن المرصد الوطني للشباب والمعهد العربي لحقوق الانسان الّذي شمل 1200 شخصا تم اختيارهم بطريقة عشوائية ممثلة من ضمن الأسر التونسية وطبقا لمعطيات المعهد الوطني للإحصاء. وقد توصلت الدراسة إلى أنه رغم أن  78 %من المستجوبين يقبلون بفكرة أو مبدا أن لكل فرد الحق في اعتناق الدين الذي يقتنع به الا ان   43.4 % يرفضون اعتناق المسلم لديانة أخرى و31.4 % يرفضونه بشدة أما البقية فيعتبرونه شأنا شخصيا[8] .

  نذكر أيضا الدراسة التي قام بها زهير بن جنات الباحث في علم الاجتماع بجامعة صفاقس والتي كانت تهدف الى البحث حول مدى بروز مبدأ التفاضلية في الدفاع عن الحقوق والحريات في تونس خلال فترة الحجر الصحي الشامل في تونس والتي امتدت الى 43 يوما. انطلق البحث من خلال مراقبة صفحات موقع التواصل الاجتماعي “فايسبوك” لـ11 مدافعا ومدافعة عن الحقوق والحريات يمثلون اربعة حركات اجتماعية مختلفة. أبرزت التحاليل انحيازا للدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية مقابل الدفاع عن الحقوق والحريات الفردية والذي كان نتاجا لخوف من ردود أفعال بقية الأفراد من العائلة والأصدقاء الخ[9]

لقد أفصحت هذه الدراسات التي تناولت الديني والثقافي والسياسي في تونس عن تناقضات اجتماعية كبيرة فنلاحظ مظاهر من “التعصب” الديني ومع ذلك نجد فئة تعتبر الأديان حرية شخصية لا تتعلق إلا بصاحبها.

رابعا: البحث الميداني ومنهجيته وعينته

مكن المنهج الكيفي وتحديدا تقنية الملاحظة بالمشاركة من رصد تحركات، سلوكيات وتفاعل الافراد بين

بعضهم البعض خلال قيامهم بأربعة تحركات احتجاجية كبرى (والتي تم اختيارها بطريقة عشوائية)، المطالب المرفوعة (اللافتات)، الخطاب الذي استعمل في الدفاع عن هذه المطالب (المقروء والمسموع) والرموز المستعملة في الاحتجاج، كيفية تنظم الأفراد المشاركين والأساليب التي استعملت في ذلك، كيفية تحرك الأفراد نحو مكان الاحتجاج والمواقع التي اتخذوها خلال التحرك الاحتجاجي. 

يبرز الجدول  التالي توزع المطالب التي دافع عنها الأفراد خلال هذه الحركات الاحتجاجية التي تمت ملاحظتها: 

التحرك الاحتجاجي

مطالب سياسية

مطالب اقتصادية واجتماعية

مطالب حول الحقوق والحريات الفردية

 

مطالب حول حرية التعبير

مطال حول الحريات الجنسية وحرية المعتقد

تحرك 26 جانفي 2021

3

2

1

0

تحرك 30 جانفي 2021

2

0

3

x

تحرك 06 فيفري 2021

2

0

3

x

تحرك 25 جويلية 2021

2

3

1

0

ما يثير الانتباه في الجدول هو عدم الجمع بين المطالب المتعلقة بالحريات الجنسية وحرية الضمير وحرية التعبير والمطالب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في أي من التحركات الاحتجاجية الخمسة التي كانت مادة للملاحظة حيث تم رصد هذه المطالب فقط في التحركات الاحتجاجية التي يغلب عليها الطابع الحقوقي في حين أنها كانت غائبة تماما في التحرك الاحتجاجي الأول والثالث والرابع. تم الجمع إذا بين السياسي والاقتصادي-والاجتماعي والحقوقي (حرية التعبير والتجمهر) وبين السياسي والحقوقي (حرية التعبير والتجمهر) والحريات الجنسية وحرية الضمير ولم نشهد جمعا للمطالب لكل من السياسي والاقتصادي-الاجتماعي وجميع الحقوق والحريات الفردية. فتمت تجزئة الحقوق والحريات الفردية في هذه المطالب والتحركات والدفاع عن بعضها دون الآخر. وهو ما يأخذنا إلى أبعد من ذلك وهو أن “نوعية” المحتجين بجميع هذه الاحتجاجات تختلف في تركيبتها.

بالنسبة الاحتجاجات التي تتضمن فقط مطالب سياسية اقتصادية واجتماعية وحقوقية (حرية التعبير والتجمهر) فإنها اختصت بشعارات شبيهة بتلك التي رفعت ابان ثورة 14 جانفي 2011: “شغل حرية كرامة وطنية”، “الشعب يريد اسقاط النظام”، “. اما الألوان المستعملة فتراوحت بين اللون الأسود، الأحمر، والأزرق في حين غابت تقريبا بقية الألوان الأخرى. وكان الشعارات المكتوبة باللغة الفرنسية والعربية. أما بالنسبة للشعارات المنطوقة فكانت فقط باللغة العامية التونسية. وسجلت كل من “الشاشية” و “الخبزة” حضورهما. وتمسك الأغلبية بضرورة الحفاظ على الطابع السلمي للاحتجاج وعدم استفزاز الأمن. أما بالنسبة للشكل الثاني من الاحتجاج فنلاحظ فيه استعمالا أكبر للألوان وخاصة ألوان قوس قزح والشعر المستعار، القبعات، القمصان والكمامات الملونة التي تحمل شعارات وصور ورموزا، ونرى الدهانات بألوان مختلفة كوسيلة للاحتجاج. لاحظنا أيضا حركات جسد وإشارات “مستفزة” للأمن ويصنفها المجتمع كإشارات وحركات “لا أخلاقية”، ورشقه بالحجارة والقوارير وحضور الكلاب كحيوانات اليفة لها رمزية وهي تمثل رسالة يوجهها المحتجون لبعض ممثلي الدولة ممن وجهت لهم اتهامات بالتورط في الفساد. اما بالنسبة للغات فقد كانت اللغة الإنكليزية طاغية على معظم الشعارات المنطوقة والمكتوبة إضافة الى اللغة الفرنسية والعربية. أغلبية من هم في الصفوف الأولى كانوا من الشباب والمراهقين في حين غاب الكهول والشيوخ تماما ونراهم ضمن المحتجين “غير الفاعلين” ان صحت التسمية وهم اولئك الذين اتخذوا موقعا محايدا في الصفوف الخلفية من موقع الاحتجاج وعلى الجوانب وعلى بضعة أمتار من المحتجين “الفعليين” ومثلوا العدد الأكبر من المحتجين فمن جهة هم مشاركون ومن جهة لا يعتبرون مشاركين فعليين في الاحتجاجات.

اختلف إذا النوعان من الاحتجاجات على مستوى الرموز المستعملة في الاحتجاج التي تختلف كليا عن بعضها البعض سواء في الألوان أو في اللغة المستعملة في الشعارات المنطوقة والمكتوبة. بالنسبة لمستوى الاختلاف الأول فإنه فهو يدل على أن فئة الكهول والشيوخ الحاضرة في الاحتجاجات لا تساند المدافعين المدافعات عن الحقوق والحريات الفردية (الحريات الجنسية وحرية الضمير) في حين أنها تدعم المدافعين والمدافعات عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في الصفوف الأولى وأن التحركات الاحتجاجية التي تدافع عن هذه الحقوق ذات طبيعة خاصة مقارنة ببقية التحركات فيما يخص “شرعيتها” الاجتماعية فالتخوف والخجل من مساندة هذا النوع من التحركات يبدو واضحا سواء اثناء التحرك او من خلال ردود الفعل على الصور والمقالات الصحفية على صفحات موقع التواصل الاجتماعي “فايسبوك”.

خامسا: التأويل السيوسيولوجي تجسد مفهوم الفردانية من منظور الحقوق والحريات في التحركات الاحتجاجية 

قبل الخوض فيما أبرزه الواقع الاحتجاجي من تفاضلية على مستوى التعبير عن السيادة والدفاع عن الحقوق والحريات لا بد من تذكير بمفهوم الفردانية وأبعادها. يسعى الأفراد اليوم الى التخلص من الحدود التي رسمتها المجتمعات ومؤسساتها سواء الأسرة أو المؤسسات التربوية أو الدينية أو بقية مؤسسات الدولة والاعتراف فقط بالمبادئ والأفكار التي تفرضها هذه المجتمعات والتي تتماشى في نفس الوقت والقناعات الفردية وهو ما يسمى بمسار التفرد. هذا المسار يفرض بالضرورة صراعا بين الفرد وبعض مؤسسات مجتمعه أو بين الفرد وفرد آخر أو مجموعة من الأفراد. لكن، لا يعيش جميع الافراد في مجتمع ما بالتزامن هذا المسار ولا يعتمدون الوسائل نفسها في الصراع نظرا لأنهم لا يدافعون عن المبادئ بنفس درجة الانخراط.

إذا ما عدنا الى التحركات الاحتجاجية الملاحظة الآن، يمكن أن نفهم أن بعض المحتجين يدافعون عن حرية التعبير مثلا، ولكن ليس التعبير عن ماهو لانمطي كالحقوق الجنسية اللانمطية مثلا. هم يدافعون أيضا عن منطق الديمقراطية وسيادة الشعب ولكنهم لا يعتبرون أن للأفراد الذين يحملون فكرا مختلفا أو ديانة مختلفة الحق في المشاركة في أخذ القرار كجزء من المجتمع. وعليه فإن ما أبرزته التحركات الاحتجاجية هو أن الافراد لا يعيشون مسار التفرد نفسه. فهناك من التناقض ما يجعل السيادة الشعبية مفككة على الأقل فيما يتعلق للدفاع عن الحقوق والحريات. هذا التفكك يبدو واضحا من خلال الانقسامات في عملية التموقع، “التحرك”، «الاصطفاف» أو “التجمع” لفرض السيادة خلال التحرك الاحتجاجي نفسه مما يبين أن الأفراد لا يتشاركون الغايات نفسها طيلة فترة التحرك الاحتجاجي. إضافة الى ذلك فإنّ الرموز المستعملة في التفاعل تختلف بين الافراد وهو ما يدل على رؤية مختلفة للأساليب المستعملة في الصراع.

يتضح اذن أن ”السيادة الشعبية“ التي جسدتها على الأقل التحركات الاحتجاجية الملاحظة هي سيادة لها غايات، دوافع، آليات وسلوكيات مختلفة ولا تعكس ترابطا إلا في مناسبات أو أطر محددة تتعلق بأيديولوجيات معينة.

خاتمة

تعيش البلاد التونسية اليوم على وقع فترة استثنائية على الأقل فيما يتعلق بالجانب التشريعي. وقد قالت “السيادة الشعبية المفككة” كلمتها الاخيرة فيما يتعلق بالدستور الجديد وهو ثالث دستور في تاريخ البلاد من خلال استفتاء 25 جويلية 2025 . وأمام انتشار المخاوف بين صفوف المجتمع المدني وخاصة اولئك من المدافعين والمدافعات عن حقوق الإنسان من مال باب الحقوق والحريات والفصول التي سيتضمنها، وتمسك شق اخر بمساندة المسار الاستثنائي، على البحوث السوسيولوجية أن ترصد آثار “السيادة الشعبية المفككة” على الوضع القانوني والتشريعي التونسي. فلمسار التفرد الذي يعيشه الأفراد في المجتمع التونسي اليوم انعكاساته على عديد الجوانب الاقتصادية والاجتماعية في تونس وهو مادة لا يستهان بها للدراسة.

الهوامش

  1. قدم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية تقاريره بصفة دورية. فالى جانب التقارير الشهرية التي تبرز تصاعدا في حدة العنف بين صفوف الافراد وفي علاقتهم بمؤسسات الدولة تصدر أيضا تقارير سنوية تلخص كل ما جاء في التقارير الشهرية.
  2. https://ftdes.net/ar/
  3. CHARLES Henry-Cuin, « Émotions et rationalité dans la sociologie classique.Le cas de Weber et Durkheim, Tome XXXIX, 2001, N°120p82-83, Consulté le 28 aout 2022, dans : https://journals.openedition.org/ress/658
  4. P84- 85
  5. André AKOUN et pierre ANSART (Dir.), Dictionnaire de sociologie(dir), Paris, LE ROBERT SEUIL,1999, p.559.
  6. القدري روضة، “بروز الفرد في تونس : الخصوصيات والاشكالات”، عمران، العدد 32 (ربيع 2020)،ص103.
  7. Dictionnaire de Sociologi ; ( Paris: Larousse-Bordas. 1998),p.122-123.
  8. Ibid, p123
  9. الحاج رحومة عادل، “في تشكل الفرد والفردانية في المجتمع التونسي”، عمران، العدد 8 (ربيع2020)، ص 126-127.
  10. السعيداني منير، (اشراف) الحالة الدينية في تونس 20112015 : دراسة تحليلية ميدانية،  مج 1، الرباط، مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع 2018،  24-25 ص
  11. Wahid FERCHICHI Kmar BENDANAZouheir BEN JANNET Rim ABDMOULEH. Asma NOUIRA Majda M’RABET et Olfa BELHASSINE . «Indissociables droits et libertés » ou de l’invisibilité des libertés individuelles et des droits économiques, sociaux et culturels, Décembre 2020,  consulté le 28 aout 2022, sur :  https://tn.boell.org/sites/default/files/2020-12/l%E2%80%99indivisibilit%C3%A9%20des%20libert%C3%A9s%20individuelles%20et%20des%20droits.pdf

نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 19، سبتمبر 2022، ص. ص. 25-28.

 للاطلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf19

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights