سيرة الطيّب ولد هنية… سيرة ريف وجهه امرأة (الجزء الثالث)
|
بقلم: خلود الخمّاسي
الطريق إلى المدرسة في سيرة الطيب ولد هنية
من المؤكد أن المدرسة العمومية من أهم مميزات الدولة الحديثة في تونس ذلك أنها ضمنت حق التعليم وبصفة مجانية للمواطنين إناثا وذكورا. وعلى ضخامة المبادرة وطموحها الجامح، فقد تحقق حلم التمدرس للكثيرين وتمكن العديد من التونسيين من التمتع بهذا الحق المدني والكوني.
ولكن هذا الحلم الوردي كان بمثابة كابوس ليل شتاء طويل كتلك الليلة التي قضاها التلامذة الأشبال في قاعة الدرس بعد أن منعهم المعلم من العودة خوفا عليهم من الوادي الذي فاض بمائه وقطع كل سبل العودة إلى الديار.
يسرد علينا الطيب ولد هنية ذكريات طريقه إلى المدرسة فلا يمكن للقلب إلا أن يزهو فرحا بالطفل الغض الذي يقدم على الحياة لاعبا مع أترابه لاهيا بين الحقول طول طريق الوادي. الطريق إلي المدرسة رحلة انطلاق وتحرر من ضعط اليومي العائلي والمعيشي. ولكن فور دخول المدرسة فهناك نظام شبه عسكري. مدرسة فجر الاستقلال كما رواها الطيب الجوادي هي فقط أقسام وإداريون ومعلمون والكثير من الالتزام من كل الأطراف حتى الأولياء القرويون الذين بايعوا بورقيبة ومشروعه التحديثي، تقريبا دون مراجعات، وهو ما يتجلى مثالا ليس حصرا مع والديّ الطيب. من أشد اللحظات تكثيفا حسيا وعاطفيا وفكريا التي سردها الطيب هو يوم نجاحه في اجتياز امتحان الباكالوريا وقد كانت التوقعات ألا يحدث ذلك.
“تفزع” القرية بأكملها تقريبا باتجاه مسكن الجوادي فزغاريد ومباركات وعناق ودموع فرح وتصافح وأحضان وضرب طبول وانطلاق بالعاطفة لدرجة أن سقطت كل المفارقات والتمييزات ويتراقص الزوجان هنية وعمر، والدا الطيّب، أمام الجميع، دون قيود. إنها الفرحة، فرحة العلم. يختزل هذا المشهد مشروع مدرسة بورقيبة العمومية وجوهر تونس الحديثة: مواطنون سواسية متشاركون في الجهاد الأكبر (كما سمّاه بورقيبة) لا تحكمهم قبلية ولا بدائية ولا تحفظات ثقافية (دينية أو اجتماعية) بل يوحد صفوفهم العلم ويثري جمعهم اختلافه.
لكن رقصة بمثل انطلاق تلك التي أطلعنا عليها الطيب ولد هنية باهظة، ربما جدّا. إذ أخفت سنوات من السعي بين الجفاف والبرد القارس والمعاناة العاطفية للأم التي تفني أيامها تشتغل للكفاف لا أكثر والزوج الذي غادر الوطن بحثا عن العمل وطريقا وعرة نحو المدرسة بطينها ووادها الذي يتطلب قطعه من ضفة لأخرى الاستعانة بالدواب. هذا دون التعب الجسدي، فالتعب النفسي أشد على الكبار فلا ضامن للغد إذا ما دبر أمر اليوم والأطفال فهم مطالبون بالمساهمة في أعباء الحياة والتخلي عن اللهو واللعب. هم أطفال مع إيقاف التنفيذ فالواقع أقسى من أن يعيشوا كل تفاصيل الطفولة السعيدة. ها هو أحدهم يخالف أوامر المعلم في البقاء في القسم وعدم الرجوع إلى والدته الضريرة ذلك أن الوادي إبتلع طريق العودة وقدر المعلم أن الأسلم للجميع البقاء في القسم. ليل الشتاء طويل ودهماؤه حملت الطفل إلى أمه التي ساءه أن تبقى وحيدة في يوم مطير عاصف. الأكيد أن روحه لم تفارق الأم ولكن جسده وصلها بعد ثلاثة أيام.
فلترقد بسلام أرواح شهداء الطريق إلى المدرسة في تونس.
نشر هذا المقال ضمن مجلة حروف حرّة، العدد الخامس، جويلية 2021، ص.17 .
كامل العدد متوفّر على الرابط التالي: