أحرار العالم
|بقلم: خالد جبور
فـي خضم القصف الـمُكثـّـف الـمتواصل على غزّة، كردّ فعل وحشيّ علـى ملحمة ” طوفان الأقصــى”، تتساقطُ أوراقُ التوت تباعـا، مُظهِرَةً سوءات عـالَـمٍ يًنافِقُ نفسَه: يـرعــى الشرَّ ويـقبِرُ منابعَ الخير، ويدّعـي الديمقراطيةَ وهو في الحقيقة أشدُّ تسلّطا من أنـظمة القرون البائدة الفاشية؛ عـالَمٌ ينادي بالحرية وهو في الواقع يطوّرُ باستـمرار أدوات القمع والاضطهاد… عــالــمٌ – باختصار – حركَةُ السّلع عنده أســمـى قيـمةً من حيَوات آلاف البشر الذيـن يلقون حتفهم تحت القصف، وسط الحصار.
هذا الـمناخُ العالـمـيُّ العام يُقوِّضُ الأملَ فــي عـالـمٍ أكثرَ إنسانيةً وحفظا لكرامة الإنسان، فيشيعُ إذّاك إحباطٌ كـونـيٌّ عميقٌ تغدو في كنفه كـلُّ فكرة عن الـعـالَـمِ المنشود – الـعالَم الذي يجب أن يـكون – مجرّدَ حلم طوباويّ يُـقابَلُ كـلُّ حـالِمٍ به بالسّخرية اللاذعـة التي قد تبلُغ حدَّ الاحتقار.
بيْدَ أنَّ الـمُتتبِّـعَ لهذه اللحظة التاريـخيّة التـي نعيشها اليومَ يـفْطِنُ، إذْ يتأمّلُ الفاعلين فيها، بوجود عنصر فاعـل كانت له وما تزال تأثيرات شتّـى على المواقف والأفعال وبالتالي على سير الأحداث نحو وقف العنف ونبذه ونحو تشييد ذلك العالَـمِ الآمن المنشود. هذا العنصُرُ إنّـمـا هو تِـلْكُم الجماهيرُ الهاتفةُ الصّادحةُ بالشّعارات الدّاعمة لفلسطين، والمناهضةُ لحرب الإبادة التي تفتكُ بالشعب الفلسطينيّ الأعزل أمام مرأى العـالَـم أجمع. ولا ينفي غيرُ جاحدٍ آثارَ فعلِ هذه الجماهير التي هبّت في مُختلِفِ أنحاء المعمورة دعـمـا للحقّ ونُصرةً للحقيقة.
إنّ وَقْعَ تلك الأغنية السويديّـة البديعة والتـي تُـزاوجُ بين ” فلسطين ” و ” الحريّة ” لأكبرُ وأشدُّ مِـمَّا ينطقُ به ” كلابُ حراسة ” المشروع الصهيونيّ. ذلك أنّ هذه الأغنيةَ وحدَها قمينةٌ بتحريك الجماهير وشحذ هِـمَـمِـهِـم وتحفيز إرادتهم، لنصرة الحقّ ونشدان السّلام. والأجملُ من ذلك أنّك أينـمـا ألقيتَ نظرَك في مواقع التواصل الرقميّ تجدُها حاضرةً بـبـهـائـهـا ونبلهـا، مُتواشِـجةً مع كتلٍ بشريةٍ ضخمة بين أيديـها تُرفرفُ أعلامُ فلسطين. ولأنّها مؤثّرةٌ، فإنّه لَـمِنَ الطبيعيّ أنْ تثيرَ حركاتٌ كهذه حفيظةَ مناصري مشروع الاحتلال والاستيطان، خصوصا مُلاّك وسائل التواصل تلك. فتراهم يُـبـرمـجون لوغـاريـتـمـاتـهـم بشكلٍ يحجبُ كلَّ مـحتوى يدعـمُ فلسطين. غيرَ أنَّ نباهةَ الداعمين وقوةَ إرادة أحرار العالم هي أمورٌ أبانت أنّـهـا أقوى من ذلك التّلاعب الخوّاف بتلك التقنيات. إذْ رغم أنوف مُلاّكها، ما تزال تستعملها الجـمـاهيرُ لتحقيق غايتها: التظاهر وإظهار الـموقف الـمُطالِب بتحقيق سلمٍ مُحصَّن في كنف العدالة المضمونة.
أمّا ثقلُ فعلِ تلك الجماهير وعمقُ آثاره فتظهرُ جليّا في التغيّر الذي شاب مواقفَ معظم قادة الدّول، والذيـن بدؤوا بالدعـم اللامشروط لكِيان الاحتلال، فنظروا بعينٍ وأغمضوا الأخرى ليذهلوا عن فظائعه الوحشيّة، ثم ما لبثوا أنْ انتقلوا إلى المنطقة الرمّادية – منطقة الحياد (؟)- قبل أنْ يذهبَ بعضُهم إلى إتّباع نهج المدافعين عن السلم والعدالة. ولنأخذ لتصويـر ذلك مثالَ الرئيس الفرنسيّ إمانويل ماكرون. كان موقفُه، مباشرةً بعد عملية “طوفان الأقصى” دعـمـاً لا مشروطا لإسرائيل. بل ذهب حدَّ وسـمِ المقاومة الفلسطينية بالإرهاب، ونعتِ عمليتـها بــ”الجريـمـة ضد الإنسانية”. وإنَّ هذا الرئيسَ لهو أوّلُ من استعمل صفة “الحيوانات” متحدّثا عن رجال المقاومة، وذلك مباشرة بعدما استعمل الصّفةَ عينَها ببنيامين نـتنياهو في أول تصريح بعد 7 أكتوبر. والواقعُ أنَّ ماكرون ومن يسبَح في فلكه إنّمـا كان ينظرُ إلى الواقع بعينٍ، مغمضا الأخرى كي لا يـراه كلَّه! لأنّه إنْ قالَ إنَّ من حقِّ إسرائيل الدفاعَ عن نفسها، فإنه يذهَلُ عن الحقيقة الأولية المسجلة في كراريس منظمة الأمم المتحدة، وهي أن إسرائيل دولةُ احتلالٍ، وبالتالي فإنَّ مسألةَ الحقِّ في الدفاع عن النفس ادّعاءٌ واهٍ.
غيرَ أنَّ هذا التوافقَ الـمطلقَ في الرأي وهذا الدّعمَ غيرَ الـمشروطِ للاحتلال لم يدوما طويلا، إذْ سرعان ما انقلب رئيسُ فرنسا (منبعُ الأنوار ومنبثُ الإعلان العالـميّ لحقوق الإنسان والمواطن -؟-) انقلابا كليّا، فصرنا نسمعه يصرّحُ بأن ” الفلسطينيين يعانون بشكـل مريع”، وبأنّ ” إسرائيل لابد أنْ تسمحَ بدخول المساعدات إلى غزّة”، وأنّ ” تدميرَ قدرات حـمـاس هدفٌ صعبٌ بُلوغُه في وقت وجيز”، وبأنّه ” لابدّ من وقف إطلاق النار” لأنَّ “أحداث 7 أكـتوبـر ليست مسوّغـا لـقصف المدنيين”… إنَّ هذا الانـقـلابَ فـي الموقف لهو ثمرةٌ من ثمرات تحرّكات الجماهير في فرنسا ومختلف الدول الأوربيّة. فهي أوضـحُ بيانٍ عن شذوذ الموقف السياسيّ الرسميّ عن الإرادة الشعبيّة، وهي خيرُ تذكيرٍ للـ”القادة” بأنَّ العامَ عامُ انتخابات، وأنَّ صوتَهم في الشوارع سيُسمَعُ رسميّا في مكاتب الاقتراع… هكذا صار معظمُ هؤلاء ” القادة” يتحرّجون من إفشاء موقفهم الدّاعم للكيان الإسرائيلي، خصوصا إنْ استحضروا في الأذهان صورَة الرئيس الأمريكيّ جو بايدن وهو يُـفْحَمُ من طرف المتظاهريـن في كنيسة ” الأم إيمانويل AME” في تشارلستون، كارولينا الجنوبية.
وهذه الجماهيرُ الـمـختلفةُ الجنسيّات والملل والتوجـهات خطفت الأضواءَ في لحظة مفصلية مصيرية من لحظات بـزوغ القضية الفلسطينية بعدما كانت على وشك أنْ تُقْـبَـرَ تحت أوهام ” صفقة القرن”. هذه اللحظةُ هي مُثولُ الدولة العبريّة أمامَ محكمة العدل الدوليّة بعد الدعوة التي رفعتها ضدّها جنوبُ إفريقيا. لقد خطفت الجماهيرُ الهولندية – الأوربيّة الأضواءَ وصارت رقماً أساسيا في معادلة هذه المُحاكمة التاريخيّة. فمن نتائج احتجاج أحرار العالم أمام محكمة العدل الدوليّة في لاهاي أنه شكّلَ ضغطا نفسيا مباشرا على القُضاة الذين أُوكِلَ لهم النّظرُ في جريمة الإبادة الجماعيّة التي ما تزال إسرائيل تتفنّنُ في ارتـكـابـها ضد الشعب الفلسطينيّ. ولننظر إلى حال القاضية الأوغنديـة التي صوّتت لصالح القاتل ضد المقتول، لصالح الجلاّد ضد الضحيّة، ولنتساءل عن حالها كيف تــكون وهي ترى صورتَـهـا وتقرأُ اسمَها مُرَفَـقَـيْن بوسـم: ” القاضية الأوغندية أكـثـرُ صهيونيةً من الصهاينة أنفسِهم”. جاحدٌ من يقول ألاّ تأثيرَ لذلك !
ولا مبالغةَ في القول إنَّ دعمَ أحرار العالم للقضيّة الفلسطينيّة قدّمَ لهذه القضيّة ما لم تُـقَـدّمه لها أنظمةٌ سياسيةٌ ومنظّمات أممية (كمنظمة الأمم المتحّدة المكبلة بحق النقض أو” الفيتو”). ذلك أنَّ هذا الدعمَ أخرجَ قضيةَ فلسطين من النطاق الضيّق للصراع العقائديّ، ومن الحيّز المحصور بين الهـيـمـنة السياسية والاستغلال الاقتصادي، ليُدْرِجَـها ضمن القضايا الإنسانية الكونية الكبرى: قضية صدام محور الشّر والموت بمحور الخير والكرامة ومقاومة نزع طابع الإنسانية عن الإنسان. وغـنـيٌّ عن البيان أنَّ المظاهرات التي تشهدُها مختلِفُ المدن في أوربا وأمريـكـا وآسيا وأستراليا وإفريقيا هي، من حيث الكَـمّ والكثافة والحماس، أشبهُ ما تـكون بتلك التي تندلع دوريًّا دفاعـا عن الأرض – العالم ضدَّ مخلّفات الاقتصاد الرأسـماليّ المتوحّش الذي يضحي بالحياة على الكوكب في سبيل استمرارية تدفق الرأسمال ونموّه، لمواصلة جني الأرباح ومراكـمتـها.
وعليه، فالإحباطُ ليس مطلقا، والحقّ لابد أنْ يعلو صوته، والحقيقة لابد أنْ تنجلي كاملة، وإنْ كان التدليسُ مدجّجا بأكثر التقنيات تطوّرا ومدعّمـا بمليارات الدولارات، طالـمـا في العالم جـماهير ترى وتفعلُ، تتقدّمُ دائما إلـى الأمام نحو تشييد صرح الحريّة والكرامة للإنسان أينما كان، وباختصار، طالـمـا في العالَـمِ أحـرار.
فــيا أحــرار العالم…
نُشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 34، ربيع 2024.
للاطّلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf34