المجتمع المدني التونسي وقتل ثقافة التطوّع

بقلم: حمزة عمر

شهد المجتمع المدني في تونس في سنة 2011 وما تلاها تحوّلا جذريّا. فبالنظر إلى مناخ الحريّة الذي ساد البلاد، حتّى قبل تعديل قانون الجمعيات لسنة 1959، أصبح إحداث الجمعيات أمرا ميسّرا مقارنة بالحالة قبل الثورة. وهذا ما أدّى إلى ارتفاع لافت في عددها، إذ مرّ من تسعة آلاف جمعية في سنة 2010 إلى ما يفوق 24 ألف جمعيّة حسب آخر أرقام سنة 2023.

الثورة نقطة تحوّل في علاقة الجمعيات بالسلطة

على أنّ هذا التغيير لم يكن فقط كميّا، بل شمل كذلك نمط تسييرها وعلاقتها بالسلطة. قبل 2011، كان يمكن تقسيم الجمعيات إلى صنفين. الصنف الأوّل ينشط دون أن يكون نقد الوضع السياسي السائد من أولوياته. هذا الصنف لا يمانع في أن تكون له علاقة بالسلطة القائمة، بل ويسعى إليها في كثير من الأحيان. يطلق بعض الباحثين على هذا الصنف اسم “الجمعيات شبه الإدارية”، إذ أنّها كثيرا ما تكون ذراعا لتنفيذ سياسة السلطة في مجالات اهتمامها وتقيم علاقة زبونية معها. أمّا الصنف الثاني، فيصطلح على تسميته بجمعيّات المناصرة، وهي الجمعيات الناشطة أساسا في مجالات الحقوق والحريّات والتي كانت تدخل في علاقة صدامية مع السلطة السياسية التي كانت تسعى إلى التضييق من أنشطتها.

لم يعد لهذا التمييز معنى بعد 2011، على الأقلّ في مرحلة أولى. إذ أنّ انهيار نظام بن علي وحلّ التجمّع الدستوري الديمقراطي أدّى إلى اضمحلال الجمعيّات الّتي تدور في فلكه الّتي دخل بعضها في مشاكل قانونية استمرّت لعدّة أعوام. في المقابل، صعدت جمعيات المناصرة إلى دائرة الأضواء وحظيت باهتمام إعلامي كبير.

التمويل الأجنبي والصورة السائدة عن الجمعيات

لعلّ أهمّ التغييرات التي مسّت المجتمع المدني تعلّقت بمسألة التمويل. أدّى حماس عدد من الدول الغربية والعربية لمساندة الانتقال الديمقراطي في تونس “مهد الربيع العربي” إلى ضخّ مئات الملايين من الدولارات لفائدة الجمعيات في تونس. بغضّ النظر عن الأجندات الّتي تحرّك مثل هذه التمويلات، تسبّب ذلك في خلق فكرة سادت بسرعة عن النشاط في المجتمع المدني، وهو أنّه وسيلة للكسب السريع.

تتأكّد هذه الفكرة من خلال ما يمكن ملاحظته من السائد من مقولات في الشارع التونسي حول المجتمع المدني: جمعيات استراحات القهوة، أولئك المقيمون بالنزل طوال الوقت، الّذين يظفرون بسفرات إلى الخارج طوال الوقت… صحيح أنّ أغلب هذه الرؤى ذات طابع تعميمي لا تفرّق بين الجمعيات الجادة وتلك التي تقوم على غايات نفعيّة بحتة، لكن لا يمكن في جميع الأحوال أن ننفي أنّ هناك العديد من الممارسات السيّئة التي تؤكّدها. بل أنّه يمكن أن تُرمى بالسذاجة والحمق إن لم تكن مثلا ممّن يزوّر الفواتير لوضع الفرق في حسابك الخاص.

 ضربت العقليّة التونسية القائمة على “تخديم المخ” أطنابها داخل الجمعيات. وهذا ما أدّى إلى قلب مفهوم المجتمع المدني رأسا على عقب. أن تكون عضوا في جمعيّة فهذا يفترض أنّك جزء من مشروع أنت تؤمن به والتقيت مع آخرين لأجل إنجازه باذلا في سبيله مجهودك وحتّى أموالك. هذا هو المفهوم الأصلي، وهو مفهوم راق يؤمن بإمكانية إقامة رابط بين عدد من المواطنين لهدف غير ربحي. لكن العكس تماما هو السائد: إذا لم تحقّق نفعا ماديا مباشرا (غداء أو قهوة مع بعض المرطّبات على أقلّ تقدير)، فأنت تضيع وقتك. يمكن حتّى أن توفّر لك إحدى الجمعيات تدريبا مجانيا من أعلى مستوى مع خبراء عالميين لعدّة أيّام، ومع ذلك تحجم عن الذهاب لأنّك لا ترغب في دفع كلفة نقل لا تتجاوز عشرين دينارا.

ضربت هذه الرؤية ثقافة التطوّع في صميمها. أصبحت العديد من الجمعيات أشبه بمن يدير نشاطا تجاريا موازيا. لم تعد الغاية غير الربحية بالنسبة إلى الكثيرين غير شيء نظري بحت. كما خلقت هذه الرؤية انطباعا لدى روّاد المجتمع المدني مفاده أنّهم ليسوا المستفيدين من حضور الأنشطة، بل أنّهم يُنعمون على “امّالي المول” إذ تواضعوا بحضورها.

 

مسألة الاستدامة

أثّر ذلك بشكل مباشر على استدامة الجمعيات. لا توجد إحصائيات عن الجمعيات الناشطة بشكل منتظم، بكن يمكن الجزم أنّ عددا قليلا جدّا من الآلاف المحدثة بعد 2011 استمّر في النشاط فعلا. هناك من كان متحمّسا فعلا للنشاط، ثمّ لمّا اصطدم بعوائقه العملية سرعان ما فتر حماسه وأحجم. وهناك من كان ناشطا ما دام تضخّ هناك تمويل، وقد كانت الأموال تضخّ فعلا بلا حساب حتّى 2021. أمّا بعد فتور الحماس الأجنبي تجاه تونس، فلم يعد “القطاع” مربحا كثيرا، ولعلّه سيسير نحو الانحسار في الفترة القادمة، لا سيّما إذا ما فرضت قيود تحدّ من حريّته، وهذا غير مستبعد.

في غياب هذا التمويل الأجنبي، أو شُحّه، ما عسى أن تكون البدائل؟ توفّر الدولة تمويلا عموميا للجمعيات، لا شكّ أنّه قليل للغاية قياسا بما كان يوفّره المال الأجنبي، لكنّه ربّما قد يصير مطمعا للكثيرين بعد نضوب المصادر الأخرى. غير أنّ هذا التمويل يخضع إلى بيروقراطية إدارية ثقيلة ويبدو أنّه كذلك في طريقه للعودة إلى العلاقة الزبونية القديمة. كما أنّه من المفروض أنّ “رأس المال الوطني” يمكن أن يساهم في توفير موارد للمجتمع المدني. لكنّ التجربة تُثبت أنّه لا يضع ملّيما إلّا إذا كان واثقا تمام الوثوق أنّه سيساهم في تنصيع صورته وتدعيم حضوره الإعلامي. لا يصرف “رأس المال الوطني” مطلقا أمواله من منطلق الإيمان بمشروع ما.

فيما عدا هذه الحلول، لا يوجد فيما يبدو إلّا الحلّ المثالي، أو ربّما الطوباوي في مجتمعنا: أن تتصرّف الجمعيات كجمعيات فعلا، أي أن تقوم بشكل أساسي على المساهمات الطوعيّة لأعضائها المقتنعين بمشروعها. من الأرجح ألّا يوفّر ذلك سوى الحدّ الأدنى لكي تنشط، ولكنّه على الأقل سيكون دائما. ربّما بمرور الوقت، يمكن لبعضها أن يصمد وأن يساهم في قيام ثقافة مدنية حقيقية لا تنظر إلى الربح بشكل مادي مباشر.

نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد27، جوان 2023.

للاطّلاع على كامل العدد وتحميله: http://tiny.cc/hourouf27

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights