بورقيبة أبا شرقيّا… وحداثيا
|
بقلم: سوسن فري
من الرائج لدى الكثير من التونسيين الاعتقاد أنّ تونس كانت استثناء في محيطها العربي الإسلامي، ذلك أنّها انتقلت بفضل مشروع بورقيبة إلى بناء دولة حداثية عصريّة، عكس بقيّة دول المنطقة التي بقيت تصارع لأجل الخروج من بناها التقليدية. لكن لا يبدو أنّ القول بهذا الاستثناء جاد إلى هذا الحدّ، وبورقيبة نفسه كان يتعامل مع أبناء شعبه بمنطق مناف لمقوّمات الحداثة.
الأب الشرقي هو ذلك التقليدي المتسلط الاقدر على التمييز بين الصواب والخاطئ. هو الأدرى بمصلحة أبنائه الذي يكون سعيداً بهم عندما يتفوقون ويعاقبهم بشدة لما يخطئون، تأديبا لهم كي لا يكرّروا فعلتهم، ثم يطيّب خاطرهم. تتوافق هذه الصورة مع صورة بورقيبة في علاقة بالشعب التونسي. أنا من جيل لم يعرف بورقيبة إلا شيخا وهنا يزوره في بيته بالمنستير بن علي بين حين وحين. لم أكن قادرة على فهم المنطق الذي يحرّك جيل الآباء الذين يقول بعضهم أنهم كانوا عاجزين عن تخيّل تونس بدون بورقيبة. تستحضرني هذه الصورة كذلك وأنا أتذكر حديثا لرجاء فرحات الذي سًجن أبوه ومات إثر مؤامرة انقلابية على بورقيبة وبعد وفاة والده، استقبله بورقيبة في قصر قرطاج وقال له عن المتآمرين “راو كانوا يحبوا يقتلوني” فتخيلت مدى ارتباك رجاء فرحات الذي كان والده عرضة لانتقام بورقيبة وفي نفس الوقت يستقبله الزعيم ويسأله عن مستقبله ودراسته. استحضر كذلك صورة محمّد الكيلاني الّذي استقبله بورقيبة ضمن مساجين برسبكتيف بعد سنوات من السجن والتعذيب، ولمّا قال الكيلاني أنّهم طلبة نجباء يريدون أن يكون لهم رأي في تونس، أجاب الزعيم “انتو أقرو وأنا نفكّر لتونس”. أليست نفسها صورة سي السيد في ثلاثية نجيب محفوظ الذي يضرب ولده المتزوّج ياسين لمّا أخطأ في حقّ زوجته؟ أليست هي صورة والد مفيد في “نهاية رجل شجاع” لحنا مينة الذي أدّب ولده حين قطع ذيل الحمار بأن قيّده لأيام ومنع عنه الطعام والشراب ولولا ما كانت أمّه تهرّبها له بين الحين والحين لهلك جوعا؟ هو الأب الذي تعلم الزوجة ويعلم الابن المُعاقب أنه على حق وأنه أدرى بمصلحتهم ولولا شدته عليهم لما استقام حال الاسرة.
إنّ بناء مجتمع حداثي يقوم بالأساس على تبني قيم الحداثة متمثلة في الحرية والفردانية. ولكن مشروع الدولة الوطنية لم يكن جادا في تبني هذه القيم، إذ لا يستقيم ذلك مع الشخصية والمنطق الابوي الذي حكم بهما بورقيبة الشعب التونسي. هذا المنطق لا يؤمن حقا بحرية الافراد ولا يتعامل معهم كأفراد مسؤولين عن افعالهم.
وعليه فيبدو أن الآراء التي تذهب الى ان تونس كانت تسير في اتجاه بناء حداثة مكتملة مع مشروع الدولة الوطنية لم يعقه غير التوجّه لاحقا إلى قمع الحريات السياسية ليس دقيقا بما يكفي. يصوّر لنا هذا التوجّه تاريخ تونس باعتباره كان يسير على أحسن ما يرام إلى حدود الستينات عندما هرم بورقيبة وانفلتت زمام الامور من يديه ممّا أنتج انقلابا لجاهل مستبد فاسد انفجر الشعب في وجهه وطالب بالديمقراطية التي تنقصه يجانب الصواب. نحن أمام مشروع لم يكن صلبا منذ البداية. قد تكون النوايا حسنة إذ أراد بورقيبة فعلا الأفضل بهذا الشعب وضحّى لأجل تحرّره وسعادته قبل أن يطالبه عندما تقدم به العمر بأن يردّ له الجميل بأن يقدر تضحياته ويحافظ عليه سلطانا مطلق الصلاحيات. هو مشروع أبوي شرقي أصيل ابن ثقافتنا التي لم تتصالح حقا مع الحداثة وتنكرها ولذلك قد يكون من التعسّف الحديث عن مدى بلوغنا الحداثة لأننا لم نشرع فيها أصلا.
نشر هذا المقال ضمن مجلة حروف حرّة، العدد الخامس، جويلية 2021، ص.15.
كامل العدد متوفّر على الرابط التالي: