البطولة الوطنيّة للمطالعة… الثّقافة بطعم الرّياضة
|بقلم: علي غوائدية
وصل، صبيحة الأحد 13 نوفمبر 2022، الموكب الخاصّ بالمكتبة الجهويّة بتونس العاصمة، المُشيّدة في المنطقة التّاريخيّة “قرطاج” إلى القاعة المغطّاة المحاذية لـ”درّة المتوسّط” الملعب الأولمبي “حماّدي العقربي” برادس، والمتمثّل في حافلة مشفوعة بسيّارة وبشاحنة المكتبة المتنقّلة تتبعها سيّارات بعض الأولياء لمرافقة أبنائهم نحو الرّهان، في صبيحة ضباب تعلوه السّحب في زمن تغيرّ مناخي محيّر بحيث يحتار السّكان بين اللّباس الشتوي والصيّفي، ويستقرّ القرار أخيرا على الجمع بينهما تحسّبا للاحتمالين. فأحيانا، تعجز المراصد الجويّة على معرفة الخبر اليقين، على المعلومة الدّقيقة، على النّصيحة المفيدة.
كان على فريق هذه المكتبة الانتظار قليلا حتّى تفد وفود بقيّة مكتبات الولايات المترامية على مختلف أنحاء التّراب التّونسي. وماهي إلّا دقائق معدودة حتّى حلّة الوفود المترشّحة مقدّمة لافتاتها الّتي تدلّ عليها. بدت كما لو أنّها وفود حجيج قصدت العاصمة لا للتّكفير عن الذّنوب، ولكن للظّفر وتمرير الرّسائل من الهامش إلى المركز. “نحن أبناء الشّيحاوي (اسم عشيرة) …” هكذا حيّا فريق مكتبة تطاوين (الجنوب الشّرقي التّونسي) من سبقهم.
دورة مميّزة
المكتبة الجهويّة بتونس واحدة من مجموع 24 مكتبة في 24 ولاية من التّراب التّونسي مترشّحة بمختلف الألوان للظّفر بالكؤوس المحدودة في العدد وفي القيمة الماليّة (4000 دينار تونسيّ أقصاها)، في مقابل عدد قياسي من المترشّحين بلغ الـ 1440 وفقا لأرقام إدارة المطالعة العموميّة بوزارة الشّؤون الثّقافيّة الجهة المنظّمة للبطولة الّتي قال عنها المدير إلياس الرّابحي كونها الفريدة من نوعها عالميّا وكونها مكسب ورهان وطنيين تثمينا للكتاب وبناء للأجيال. كيف لا، وقد دخلت إلى السّجون (420 سجين مترشّح)، وكذلك دور المسنّين (20 مترشّحا)، وشملت ذوي الاحتياجات الخصوصيّة (16 مترشّحا). فيها قرئ مليون و140 ألف كتاب من أصل 8 مليون كتاب موضوع في المكتبات العموميّة في مختلف أرجاء البلاد.
ستّ فئات عمريّة تتدرّج في الأولوان من الأحدث إلى الأسنّ: الأحمر، فالأخضر، فالأصفر، فالبرتقالي، فالأزرق، فالرّمادي. دخلت قاعة الامتحان الكتابي متدرّجة، ثمّ دلّها أعوان الهلال الأحمر التّونسي، الشّريك المدني لوزارة الثّقافية في التّنظيم، على أمكنة جلوسها بحيث يكون كلّ لون مستقلاّ عن الآخر، لأنّه سوف يجري امتحانا مختلفا عن الآخر، لأنّه قرأ كتابين مختلفين كمّا قرأته الفئات الأخرى من كتب تسّلمتها منذ شهر سبتمبر/ أيلول الماضي. والمشترك بين المتسابقين الوقت، 25 دقيقة لكلّ فئة تضاف إليها 5 دقائق لـ”ذوي الاحتياجات الخصوصيّة”، كذلك الميداليّات “التّذكاريّة” الّتي نالها كلّ المتسابقون. ميداليات تحمل رمز البطولة فهي رمزيّة على أي حال، وكذلك القيمة الماليّة للجوائز فالطّفل كما الشيّخ في الاستحقاق المالي!
وُجّه ذوو الأطفال ذوو القمصان والقبّعات الحمراء (الفئة الأصغر سنّا) مباشرة فور دخولهم إلى فضاء الامتحان… طاولات منظّمة ومغلّفة تبدو من فوق كحفر على لوح بلاستيكي يحمل فسائل نبات لاختبارها في مختبرات المصادقة على النّباتات الصّالحة للزّراعة. وبعد تسليم ورقات الامتحان، وقبل فتحها لاكتشاف الأسئلة، طلبت طفلة الخروج الاضطراري للمرحاض، استجاب لها فريق الطّوارئ (الهلال الأحمر) ورفقتها طفلة تكبرها سنّها واقتادتها جريا كما لو أنّها تُجليها من ساحة حرب. أثارت هذه “الخدمة” الإنسانيّة، الاستثنائيّة، لطفلة بريئة، يُفترض أنّها لم تعي بعد معنى الغش في الامتحان، تهيّؤات الأطفال الآخرين بتجمّع البول في أعضائهم الفتيّة. سمح لهم المنظمّون بالانفلات الجماعي نحو المراحيض، فبدوا من أعلى كما لو أنّهم يرقات نحل فرّخت لتوّها ولأسباب غير طبيعيّة. انهال عليهم الجمهور ضحكا وتصفيقا. تداولت الفئات تدريجيّا على طاولات الامتحان، فئة تجتمع للنّزول وأخرى من الصّعود إلى العودة إلى القواعد إلى حين حلول الظّهيرة.
الهامش يُمسي مركزيّا
تنكبّ لجنة تقييم الامتحانات في قاعة مغلقة مستقلّة تنفذ إليها عدسة الكاميرا كلّ حين كي يراهم الممتُحنون، لإضفاء المصداقيّة ولكي تطمئنّ “الجهات الدّاخلية” لمركزيّة المناظرات الوطنيّة في رأس الدّولة التّونسيّة العاصمة تونس. غير أنّ المفاجأة كانت صعود الهامش بقّوة إلى منصّة التّتويج المركزيّة. ما سرّ قوّة الهامش (الجهات الداّخليّة الّتي دوما يستحضرها رئيس الدّولة قيس سعيد بكونها محرومة)؟ “إنّ صخب العيش في المدن الكبرى “المحظوظة” يحول دون تركيز الأطفال على المطالعة. فالأبناء في الجهات الدّاخليّة ليس لهم سوى الكتاب في أوقات الفراغ”، يجيب أحد أولياء الأطفال المشاركين.
أبدى بعض المتسابقين غير الفائزين بالكؤوس الخمسة عن كل فئة عمريّة نقدا ذاتيّا في بداية ليل حزين أبكى الأطفال وأذبل الشّباب وأحرج الكهول. يعترف متسابق شاب من الفئة الزّرقاء بكونه لم يحسن الجواب عن السّؤال الإنشائي “الفارق”، وفق تقديره. لم يختر الإجابة عن السّؤال باللّغة الفرنسيّة الّتي تحتفي بها تونس هذه الأيّام باحتضانها للقمّة الفرنكوفونيّة. ففي المخيال العام التّونسي، الفرنسيّة قلّما يتقنها أبناء الجهات الدّاخلية (أبناء الجنوب بالذّات) الميّالون والمولولون والمتبارون بشراسة في حقل اللّغة العربيّة، يقول الشّاب الّذي ضيّع نقطة التّمايز نظريّا. عمليّا، “أسأت الإجابة عن السؤال الإنشائي باللّغة العربيّة. بل إنّني خرجت عن الموضوع. لقد داهمني الوقت وأردت قضاء حاجة في نفس يعقوب، أردت أن أقول أنّ الكتاب الّذي قرّرتموه لنا في هذه الدّورة يبدو كما لو أنّه مكتوب عمّا يعرف في تونس بـ”مسار25 جويلية”. والملك البطل “فاروق” في رواية “صدأ التّيجان” (المعادة طبعتها في عام 2022) للكاتبة عفيفة سعودي السّميطي كما لو أنّه يتحدّث عن شخصيّة الرّئيس قيس سعيّد حينما يقول “أعاهد اللّه والشّعب” مثلا، حينما يبدي عناية بالاستثمار في الجهات الدّاخلية “المحرومة”. إذَا أردتُ تمثيل فشلي في التّتويج أقول أنّني لاعب راوغ أسئلة الحفظ واحتفظ بالكرة إلى حين بلوغ المباراة دقائقها الأخيرة، سقط في مناطق الجزاء، تحصّل على ضربة جزاء وأهدرها حينما وجّه الكرة بجانب المرمى بقليل ظنّا منه أنه سيضعها في الزّاوية الصّعبة (تسعين)”، يجيب الشّاب ذي الوجه الشّاحب والطّول النّحيل بخيبة كبرى وشيء من الرّوح الرّياضية في الآن نفسه.
“لا يهمنّي إن كنت سأخسر”، يقول في المقابل طفل من الفئة العمريّة الخضراء، “أخسر وأزيد الخسارة”، يضيف متحدّيا، “فالمهمّ خوض تجربة المطالعة والاستفادة من الكتب القيّمة ككتاب “كليلة ودمنة”. لقد راق كثيرا للأطفال كتاب “في الاتّحاد قوّة”. هذه الشّريحة العمريّة، الّتي طالما يخشى عليها الكبار من المستقبل في بلد لم يجد بوصلته بعد منذ عام 2011، بدت أكثر تحديّا وحماسا وأقلّ حسابات. بل وأنجع، الأطفال همّ الذين صنعوا الفرحة في القاعة المغطّاة برادس، لأجلهم كانت العروض الفنيّة، هم العقول الّتي بالكاد تعي مفهوم المطالعة بمعناه البريء.
خارج القاعة، تمسك سيّدة من الفئة العمريّة الرّمادية (الكهول) كتابا مبرمجا في المسابقة، وتأخذ من الآخر آخر المعلومات قبل الامتحان. المراحيض المخصّصة في العادة للاعبي كرة اليد وكرة السلّة تعجّ وتضجّ بالمياه المتسرّبة خلال الاستعمال. والمشربة ملاذ الجائعين والعطشة والباحثين عن يقظة ذهنيّة بفعل القهوة، باهظة الثّمن بقيمة الضّعفين مقارنة بالأسعار العاديّة الشّعبيّة في شتّى مقاهي البلاد التّونسيّة راهنة العهد بأزمة غذائيّة محيّرة. والمنتزه الممتدّ حول القاعة، يحتضن الحلقات الضّيقة لتناول وجبة الغذاء، وللحديث الخاص، وللمّ شمل لعائلات، وآداء الصّلاة، ولمآرب أخرى.
يوم تشويش على المسابقة
يقابلك قرنا جبل “بوقرنين” المحترق جزئيّا مؤخّرا، صعد إليه رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد ليزرع شجرة زيتون، معلنا تحدّي “العابثين” ممررّا –كعادته-رسائل سياسية محمّلا القضاء المسؤوليّة. هكذا أطلّ على التّونسيين في “نشرة أنباء الثّامنة” على القناة الوطنيّة الأولى. كما غابت وزيرة الشّؤون الثّقافيّة عن فعاليّة نهائي البطولة الوطنيّة للمطالعة. نابها مدير ديوانها و”ألقى كلمة بالمناسبة”. في ظلّ غياب كبار المسؤولين في الدّولة، كان الحضور الأمني ضئيلا خارج القاعة ومنعدما داخلها، فالتّنظيم مدني بامتياز والموجودون يحملون مُشتركا فكريّا ثقافيّا حضاريّا إنسانيّا بامتياز، فلا داعي للجلبة والفوضى والانتهاء بتهشيم الكراسي أو العراك خراج القاعة بعد إعلان نتائج المسابقة الوطنيّة للمطالعة. تزامن، أو بالأحرى بُرمِج، اليوم النّهائي للمسابقة الوطنيّة للمطالعة مع حديث هامّين وطنيّا هما “عيد الشّجرة” وافتتاح “القرية الفرنكوفونيّة” بجزيرة جربة السّياحيّة.
يغادر فريق المكتبة الجهويّة القاعة المغطّاة بتونس على متن حافلته ليعود إلى نقطة الانطلاق في مركز المدينة، فيما تعود قوافل الجهات الأخرى إلى النّزل محمّلة بالكؤوس والجوائز الماليّة لتحتفل.. لتعود في دورة أخرى.