تأجيل الانتخابات…دون تأجيل المحاسبة
| 1) علينا أن نطرح على أنفسنا السؤال: هل نريد إجراء انتخابات بأيّ ثمن في 24 جويلية أم أنّنا نريد إجراء انتخابات شفافة ونزيهة؟ أيهما أهم، التمسّك بتاريخ لا يعني شيئا أم التمسّك بجودة العمليّة الانتخابيّة؟
الإجابة تكاد تكون بديهيّة، إذا ابتعدنا عن أهواء النفوس. لا يمكن للهيئة العليا المستقلّة للانتخابات أن تعدّ عمليّة انتخابيّة جديرة بتطلعات شعب تخلّص للتوّ من قيود الطغيان في أقل من ثلاثة أشهر. وهي معلومة ليست بجديدة، فمنذ أواخر شهر فيفري، صرّح الأستاذ عياض بن عاشور رئيس اللجنة العليا للإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي (كما كانت تسمّى آنذاك، قبل أن يمطّط اسمها) أنّه بالإطلاع على تجارب الانتقال الديمقراطي في عدد من بلدان العالم، فإنّه لا يمكن أن تقل الفترة الفاصلة بين المصادقة على القانون الانتخابي وإجراء الانتخابات عن 22 أسبوعا. فالعمليّة الانتخابية تستلزم عدّة إجراءات من إعداد للقائمات الانتخابيّة و انتداب للمراقبين وتكوينهم وتوزيع لمكاتب الاقتراع…وهي إجراءات لا يمكن أن يقع إتمامها على أكمل وجه قبل 24 جويلية. إنّ المرسوم المحدث للهيئة المستقلّة لا ينصّ على تاريخ معيّن للانتخابات، لكنّه ينصّ في فصله الثاني على أنّه ” تسهر الهيئة العليا المستقلة للانتخابات على ضمان انتخابات ديمقراطية وتعددية ونزيهة وشفافة”. وبالتالي، فيمكن لهذه الهيئة، بل من واجبها، تأجيل الانتخابات إذا لم يمكّنها الأجل المعلن من قبل رئيس الجمهوريّة المؤقت في خطاب 3 مارس 2011 (الذي ليست له أيّ وجود لا في نص المرسوم المتعلق بانتخاب المجلس الوطني التأسيسي و لا في نص المرسوم المحدث للهيئة المستقلّة) من الإيفاء بهذا التعهّد. والإصرار على احترام تاريخ 24 جويلية سيؤدي إلى انتخابات مشكوك في مصداقيتها تعمّق الأزمة السياسية للبلاد.
2) لكنّ هذا التأجيل قد يشكّل تهديدا جديّا لاستقرار البلاد وسلامتها. فتونس تعيش حالة من الارتباك منذ 14 جانفي ناتجة أساسا عن غياب المشروعيّة عن الأشخاص المسيّرين لشؤون البلاد مما جعلهم عاجزين عن اتخاذ أيّ قرار تقريبا دون التشكيك فيه بشكل يصل إلى استخدام العنف أحيانا ومما جعل أيّ حادثة أو تصريح يلقي بظلال من الريبة على عمل الحكومة . ولا يمكن أن تعود المشروعيّة إلى السلطة إلا عن طريق صناديق الاقتراع، وبالتالي كلّ تأجيل للانتخابات هو تأجيل لعودة الاستقرار، فالمواطنون الذين وُعدوا بالخلاص في جويلية لن يقبلوا بسهولة النكث بهذا الوعد، وهو ما قد يلقي البلاد في المجهول. وبما أنّ هذا التأجيل يفرضه قصر الفترة الفاصلة بين تاريخ بدء الهيئة المستقلّة عملها والموعد المقترح للانتخابات، فإنّ مسؤوليّة التأجيل تقع على عاتق من تسبّب في تأخير بدء عمل الهيئة المستقلّة إلى اليوم. هذه المسؤوليّة مشتركة بين طرفين: الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والحكومة.
فالنقاشات داخل الهيئة لإعداد القانون الانتخابي (الذي كان مشروعاه جاهزين منذ منتصف مارس) تعطّلت مرارا وتكرارا. فمرّة تعطّل أعمال الهيئة لأنّ تركيبتها لا تحوز على الرضا، فيقع التوسيع في التركيبة، ولا يرضى عن التركيبة الجديدة، فتستوجب التوسيع مرّة ثانية وثالثة…ومرّة أخرى لأنّ أعضاء الهيئة أهملوا صميم عملهم وأصروا على أن يناقشوا سبب إقالة وزير من الحكومة، وهو ما حدا برئيس الهيئة أن يرفع الجلسة غاضبا ويهدد بالاستقالة قائلا أنّه يرفض أن يكون سببا في تأجيل الانتخابات. فالطريقة التي سارت بها أعمال الهيئة توحي بوجود نيّة لدى أعضائها (أو عدد منهم عن الأقل) في تعطيل المسار نحو موعد 24 جويلية. وهذه النيّة عبّر عنها البعض صراحة (ولا ننسى اقتراح عبيد البريكي أن تؤجل الانتخابات إلى 14 جانفي 2012)، وأضمرها البعض الآخر.
أما الحكومة، وعلى رأسها السيد الباجي قائد السبسي، فقد بدا لها بعد عدّة أسابيع من النقاشات الحامية داخل الهيئة أن لا تصادق على مشروع مرسوم الانتخابات لأنّ الفصل 15 المتعلّق بإقصاء كل من تحمّل مسؤولية صلب الحكومة أو التجمّع طيلة 23 سنة بدا لها متعنّتا، وهو بالذات الفصل الذي أثار الكثير من الجدل ولم تقع المصادقة عليه إلا بعد عناء كبير. وربّما كان موقف الحكومة كان ليفهم لو كان إصرارا على مبدأ، لكنّ الحكومة تراجعت فيه بعد تعديل غير ذي معنى (السماح للوزراء الذين لم يكونوا منخرطين في التجمّع بالترشّح، ومن من الوزراء من لم يكن في التجمّع؟؟). وبذلك، ضاعت منا ثلاثة أسابيع ثمينة ربما كانت لتمكّننا من احترام موعد 24 جويلية.
هذا العجز عن إيفاء بالتزام أكثر من ضروري لإعادة الاستقرار للبلاد لا يجب أن يمرّ دون محاسبة. فالتأجيل الآن يكاد يكون مفروضا علينا بسبب قصر المدّة، لكنّه سيثير اضطرابا كبيرا لن تخفّف حدّته (التي لن تزول بسهولة) إلا بتحميل المسؤولية للأطراف المتسبّبة فيه.