المثقّف على تخوم الجنون: قراءة في “دفاتر الورّاق” لجلال برجس
|
رغم خيبة الأمل الأولى عند الإعلان عن فوز “دفاتر الورّاق” لجلال برجس بالبوكر وتفوقها على “نازلة دار الأكابر” لأميرة غنيم والإحساس أنّ جلال برجس قد سرق جائزة مستحقة لتونس، فإنه عند قراءتي لروايته قررت أنّها ربّما تستحق أكثر من جائزة البوكر. إن كانت رواية أميرة غنيم شديدة التجذّر في محيطها التونسي، فإن دفاتر الوراق تفتح آفاقا لإعادة التفكير في أزمة المثقّف العربي.
دفاتر الوراق هي ما يحدث عندما تهدم متجرا للكتب وتقيم مكانه متجرا لبيع الهواتف الذكية جهرا والمخدرات سرا. عندما قام ابراهيم الوراق بحرق كتبه لما طرده مالك البيت الذي يسكنه لعجزه عن دفع الإيجار، هربت الشخوص من أوراقها وانطلقت في شوارع عماّن إلى البنوك اولا حتى تحقق العدالة الاقتصادية ورجال الأعمال لاحقا حتى تنتقم.
ابراهيم رجل يتيم الأب والأم. تبنته الكتب فآنست وحدته في البداية ثم أعطته سلاحا قاتلا فيما بعد. إنّ الألفة الشديدة مع الخيال تخلق شراكة خطيرة تخرج عن طرة الصفحات إلى أرصفة عمّان الجافة وتخلق عالما موازيا قد يُسيل الدم حتى يفتك مكانه جنب الواقع.
يقوم جلال برجس بالرجوع إلى روّاد التجديد في بدايات القرن الفارط فيستعير من فيرجينيا وولف ومارسال بروست تقنية التداعي الحر. عندما يبدأ ابراهيم الوراق في الحديث أو الهذيان نتذكر شخصية سبتيموس في السيدة دالواي. كلاهما لا يتوقف عن الحديث ويمتد هذيانهما على امتداد صفحات. الصدمة التي يسببها محيطهما حاضرة بقوة. كلاهما خسر حربا وهو مجبر على التعامل مع مخلّفاتها.
استعار برجس الشكل ولكنه حتما تجاوز موضوع أزمة الهوية وتعريف الأنا الذي يميز روايات القرن الماضي. كل شخوص الرواية قادرة على تشخيص ذواتها وهويتها. اليتيمة ليلى والصحفية نون يحبان جسديهما ولكنهما يقومان بإخفائهما على حسب المكان الذي يتواجدان فيه. فأصبحت ليلى ولدا في الشارع وأجّرت نون شقة والديها المتوفين حتى تنتقل إلى حي عصري وتتمكن من نزع الحجاب ولبس التنانير والفساتين. إبراهيم كذلك يدرك جنون بطنه المنتفخة وأراد إغراقها في البحر في أحد مدن الساحل. ولكن ما أن وصل إلى المدينة الساحلية حتى أصبح جنونه كائنا لا يحتمل ثقله.
يبدو أننا بصدد شخصيات تقودها الجغرافيا الي حافة الجنون. الأزمة ليست أزمة هوية بقدر ماهي أزمة انتماء. ما هو الوطن بالنسبة لإبراهيم؟ هل هو خيمة في بادية لا يعرف سكانها ما يجري في القرى المجاورة حتى وإن كانت قضية توطين غرباء وسرقة أرض؟ هل هو بيت العائلة حيث أحلام الصغير يدعسها الكبار ويعيدون تشكيلها دون اعتبار لرغباته ومشاعره؟ أم أن الوطن هو بيت مهجور ورغم نتونته وتداعيه يبقى أكثر أمانا من الشوارع المليئة بالبوليس؟
أو ربما الوطن هو القصص التي قرأها ابراهيم ووفرت له حبكة ووجها جديدا لكل هجوم. مصطفى السعيد والدكتور زيفاكو وأحدب نوتردام وسعيد مهران كلهم هربوا من الصفحات ليعيدوا الأمان والعدالة إلى مدن نخرها الفساد والظلم. لكأن برجس فتح باب التخيل على مصراعيه حتى يبتلع الواقع المقرف. اختار سبتيموس الانتحار ليهرب من هذيانه ومن الحطام الذي خلفته الحرب في نفسه ولكن الورّاق يكسر الحائط بين الواقع والخيال. يرى الهدف فيعيد الحق إلى أصحابه ويرى المجرم فيريق دمه ويحقق انتقامه.
رواية جلال برجس رواية كلاسيكية شكلا تخضع لأسس الحبكة التقليدية للرواية. يفتتح ابراهيم الرواية هادئا ليقدم لنا عائلته وبيته وخسارته لمتجره. تتسارع الأحداث بتسارع نبضات قلبه كلما انتفخ بطنه وسمع الصوت يأمره بالأخذ بزمام الأمور والبدء في الانتقام. تتداخل الأقاصيص والأصوات ليتحول بائع الكتب إلى روبن هود معاصر يسرق البنوك ليطعم اليتامى. يعود الهدوء رويدا رويدا مع انكشاف هويات غامضة وعلاقات متشابكة. وينتهي حيث ينتمي في مصحة عقلية، لتكتمل الدائرة القصصية في حبكة محكمة.
جلال برجس “صنايعي” كما نقول في اللهجة التونسية. لا مكان للمغامرة فعالم ما بعد الحداثة عالم مفكك كثيرة أبوابه والتيه فيه سهل. لا ينبغي لديوجين ان يبقى تائها. كل شيء يجب أن يصير حسب الخطة المقررة تماما كخطة ابراهيم الورّاق. الأسس القوية تفتح آفاقا واسعة ومجنونة.
برجس مثقف غير متعال على محيطه. كتب رواية شاهدة على العصر وحمل الريشة على ظهره فأثقلته. إن حمل المثقف ثقيل ولكن نهاية الدرب خفيفة كخفة كائن يطير. عبّر برجس عن ذلك بنسخ لوحة الرجل الفيتروفي ليوناردو دافنشي في موضع من غلاف روايته. فهل يحلم برجس بعصر النهضة؟ هل يظن أنّ حمل النهضة يقع على عاتق رجل مجنون؟
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد الثامن، أكتوبر 2021، ص ص. 14-15
للاطلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf8